الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«شعريات ومعانٍ»..تجريب في الفن واحتمالاته

«شعريات ومعانٍ»..تجريب في الفن واحتمالاته
17 مايو 2013 00:04
جهاد هديب (دبي) - في معرض «شعريات ومعانٍ» يجتمع الفنانان الإماراتي محمد كاظم، والفنان البلجيكي فريد إيرديكنز، ليقدما أعمالاً تجريبية برؤى جمالية خاصة. ولكن ما الذي يجمعهما في هذا المعرض المقام حالياً في صالة عرض «إيزابيل فان دين إيندي» بدبي، ويستمر حتى الثامن من الشهر المقبل؟ في حقيقة الأمر، وتبعاً للأعمال الفنية المعروضة لكل من الفنانين، فإن بينهما من الافتراق والاختلاف أكثر مما يجمعهما في صالة عرض واحدة. هكذا يبدو الأمر لأول وهلة، خاصة أن كل منهما قادم من مرجعيات ثقافية واجتماعية مختلفة، وتلك الأفكار أو الرسائل التي تحملها مضامين أعمال كل فنان، وتأويلات هذه الأعمال، هي متباعدة على نحو واضح. إذ أنه بينما ينشغل محمد كاظم بموضوعات واهتمامات عامة وخاصة مرئية بعين الفرد المحض، فإن فريد إيرديكنز يبحث عن تقنيات معالجة للمادة الخام، تتيح له اكتشاف وإعادة اكتشاف وسائل تعبيرية غير مطروقة سابقاً. وبدءاً فإن المعرض ينتمي إلى ما يُعرف بالفن المفاهيمي، أي ذلك الفن الذي تشكّل فيه الفكرة، المُراد إيصالها للناظر إلى العمل والمتذوق من الجمهور، تشكل المحور الأساسي للعمل الفني، بحيث يتم التعبير عنها بواسطة معالجة تقنية مغايرة أو غير متوقعة، تفضي مباشرة إلى قلب المعنى المُراد تماماً. بهذا المعنى، فإن الأعمال الفنية المعروضة تتشارك في فضاء فني واحد، على مستوى تقنيات التعبير على الرغم من اختلاف أساليب المعالجة، حيث تتعدد تلك الأفكار والمفاهيم والرؤى والإشكاليات السياسية والاجتماعية والفنية المحضة، لتفضي بكل فنان إلى أن يتشارك بأفكاره مع الفنان الآخر، عبر جدل صامت، هو أقرب إلى التأمل، لكن بما يفضي إلى أفكار أخرى جديدة على مستوى الأفكار ومعالجتها من جهة ثم على مستوى طرح أكثر من صيغة للعمل الفني الواحد، والتي ستختمر فيما بعد وتنضج، بحيث تصبح فكرة واحدة بعيدة كل البُعد عن الجدل الصامت ونتائجه. يقول المرء ذلك بثقة لأن ميزة أي عمل ينتمي إلى الفن المفاهيمي أنه، في مرحلة من مراحله، يبدأ ويكتمل في مخيلة الفنان، لكن العمل نفسه يؤسس لعلاقة يعتريها التحول دائماً، وتتكون من ثلاثة أطراف: الفنان والعمل الفني والمتلقي، وذلك تبعاً لسيرورة إنجاز العمل الفني، مثلما لطبيعة الظرف الذي يخص المتلقي، وذلك على الرغم من أن العمل الفني، كما هي الحال في «شعريات ومعانإ»، ناجز ومكتمل وواضح، ولا يحتاج إلى الإفراط في التأويل، بل إلى الإصغاء العميق لفكرة تتخذ شكلاً فنياً، وتريد أن تقول شيئاً مباشراً، يلتقطه المتلقي مباشرة أو بقليل من عناء القراءة والتأويل. «الميزان» مثلاً لا حصراً، فإن العمل الفني الذي يحمل العنوان: «الميزان»، لمحمد كاظم ليس أكثر من ميزان معلّق في سقف صالة العرض وتتدلى منه موازين، (جمع ميزان)، أخرى، فللوهلة الأولى يبدو العمل بلا معنى بل مجرد موازين تتدلى من سقف وتكاد تهوي على رأس الواقف إلى أسفلها، وربما بدءاً من هذا الإحساس من الممكن العمل يتخذ من هذا الاختلال في الموازين فكرته الأساسية، وقد يجد هذا التأويل المباشر من الاختلال، في موازين الحياة العربية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، مبرراً منطقياً له سواء أكان هذا بالفعل ما يصبو إليه الفنان محمد كاظم أم لا، وبوصف ذلك رسالة مباشرة يطرحها العمل. هذه النتيجة من القراءة تؤدي بالمرء إلى القول: بما أن العمل الفني المفاهيمي هو تفويض ما من قبل المتلقي للفنان بأن يقدّم ما يشاء من أفكار، ضمن معالجة فنية يختارها هو، فإن للمتلقي بالتالي مطلق الحرية في خياراته أثناء قراءته للعمل. وهذه النتيجة الأخيرة، تجعل المرء أكثر جسارة وجرأة على التأويل، وإعادة قراءة العمل الفني، بما يجعل العمل ذاته أكثر قرباً وليس منغلقاً. «خطى» ففي عمل متسلسل من الصور الفوتوغرافية، ويحمل العنوان: «خطى»، فإن ما يظهر ليس أكثر من ساقين لرجل باللباس ذاته، وإلى جواره جهاز لتحديد الاتجاهات من النوع الذي يُستخدم في الملاحة الجوية، إنما في بيئات رملية متعددة، وتتنوع ما بين الرمل الصحراوي بلونه البني المصفر ثم ذلك الرمل الجبلي الذي ميل إلى الحمرة قليلاً، وقد اختلط بحجارة وحصى ذات لون غرانيتي. «خطى» هو باختصار، بحث فردي محض عن الاتجاهات من قبل فرد ما في هذا العالم، ليس بسبب تيه ما، مادي أو معنوي، بل هو تعبير عن اختلاط الاتجاهات كنتيجة لما يعانيه الفرد من ضغوطات نفسية واجتماعية ومادية في عالم معاصر، لم يعد يتسع للكثير من الأشواق العليا للأفراد في سعيهم لعالم من الممكن احتماله. إنه عمل ينتمي إلى «روح» إنسانية مطلقة، ويعبّر عن مشاعر وأحاسيس مركبة في داخل الفرد وجوّانيته العميقة وإشكالياته مع ذاته ومع العالم. إيرديكنز وشعرية الأشياء وبعيداً عن أعمال محمد كاظم التي تمتاز بأنها محصلة لبحث وتقصٍ عن الفكرة، وإخضاع المادة الخام لاختبارات عديدة، لإيصال المعنى في تعدده وتنوعه، فإن أعمال فريد إيرديكنز تقوم، للوهلة الأولى، على نوع من الإبهار لجهة العلاقة بين الضوء والظل، لتصبح بعد قدر من التأمل فيها أنها مسعى للفنان في خلق عمل مفاهيمي، يحمل منطقه الخاص في اختبار المادة الخام، التي هنا هي النحاس والألمونيوم القابلان للطيّ، جنباً إلى جنب مع الاستفادة من لعبة الضوء والظلّ بوصفهما خامة فنية أيضاً. وإيرديكنز هنا، وعلى النقيض من محمد كاظم، لا تشغله في أعماله في «شعريات ومعانٍ» أي هموم أو اهتمامات قد تبدو كبرى بالنسبة لنا نحن أبناء المنطقة العربية، بل ينشغل الرجل بالمشاعر الإنسانية العادية والمباشرة في الحبّ، حيث تتجسد شعرية «الأشياء» في الشكل أكثر من تجسدها في العبارة التي «ينحتها» الفنان من الكلمات في حدّ ذاتها، وبما تنطوي عليه من عذوبة على الرغم من بساطتها ومباشرتها لجهة صراحة المعنى، لكن على نحو أرقى تتجسد شعرية «الأشياء» تلك في انعكاس تلك الكلمات على السطح التي على الرغم من بساطة فكرتها، تبدو بدورها لافتة لانتباهة العين إلى إثارة الفضول باتجاه معرفة سرّها من جهة المتلقي. إنه نوع من شعرية «الأشياء» التي قد يعجزّ عن توصيفها بعيداً عن مرأى العين. وباستثناء لوحته المائية على سطح من الورق المقوّى «حصيلة»، فإن أعمال إيرديكنز تجمع بين النحت واللوحة المسندية، وتنطوي على تجريبية عالية في استخدام الخامة، لكنها تجريبية من ذلك النوع الذي يعيد إنتاج الشكل وخلقه من جديد في حالاته العديدة واحتمالاته المتنوعة والمختلفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©