الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصخب والصمت

الصخب والصمت
17 مايو 2012
المُصادفة، ربما، لوحدها من قادت مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبرج للتفكير في العودة الى قصص الطفولة في وقتٍ واحد، وربما، كان العمر واشتراطاته عاملا خفيا سَرَع خطوتيهما، سيَّما وأن المُخرجيّن على أعتاب السبعين، تقريباً، وفكرة العودة الى حكايات الطفولة المُؤَثرِة، بعد إنجاز عُمري مهم وكبير، أَمرٌ ورادٌ في عالم الفن. فيما يضفي اقتباس نَصيهما السينمائي عن أعمال أدبية معروفة عنصرا مشتركا إضافياً: فـ”هوغو” سكورسيزي أُخذَ عن رواية الفرنسي برايان سلزنيك و”حصان الحرب” كتبه الإنجليزي مايكل موربورغو، في بداية الثمانينات. أما الحرب فكانت من بين إحدى مقاربتيهما الأوضح، وإن اختلف مستوى حضورها ومساحتها عند كل واحد منهما. فعند سبيلبيرج أخذت حيزا كبيرا، سَجَل فيها الحصان “جوي” جزءاً من تاريخها الممتلىء بالويلات والتراجيديات الشخصية، في حين مالَ سكورسيزي الى تقليصها وحَجبها خلف ظَهر أحد مؤسسي السينما الأوائل، جورج ميلييس. الحصان الشاهد جعل سبيلبرج من الحصان جوي شاهدا، على شناعات الحرب، التي وجد نفسه في خضمها بسبب من قوته واستسلامه لقدره، مِثلهُ مثلَ حصان “مزرعة الحيوان” في عمل الكاتب جورج أورويل، الذي صنع منه جون هاس وجوي باتشبور في أواسط الخمسينات فيلم تحريك سينمائي رائع. في عمل أورويل بكى الحصان وجعا وقهرا، كحال القرغيزي غالساري، الذي حكى بلسانه في فيلم “وداعا يا غولساري” الظلم الذي لحق به وبأصحابه القرغيزيين. لقد جعل منه الكاتب جنكيز إيتماتوف شاهدا على قساوة الكرملين، واليوم يقوم جوي بذات الشيء وأن ذهب به سبيلبرج بعيدا في خِضمِ حرب عالمية طحنته وكلُ من تَعرَف عليهم من البشر. “حصان الحرب”.. هل كانت هذه صفته المتجذرة؟ كان حصانا عاديا قويا وسريعا لكن الأقدار أوصلته الى مزاد حضره مُزارع، يدعى تيد ناراكوت، كحولي بساق عليلة، فأعجب به وسعى لإقنائه فكان له ما أراد. هكذا دخلنا الى عوالم جوي والبشر ومنها ستبدأ رحلة الحصان التراجيدية، من السِلم الى الحرب، المصورة جُلها بمشهديات سينمائية مدهشة، هي السِمة الأبرز في عمل سبيلبرج والتي تحيل ذاكرتنا على الفور الى فيلميه “لائحة شيندلر” و”إنقاذ الجندي ريان” القريبين روحا وموضوعا من جديده، كونها تجتمع على مفردات صنعة كلاسيكية فيها المؤثرات التصويرية أقل استخداما بكثير من بقية أعماله، وبخاصة تلك المنتمية الى الخيال العلمي. تفرد على مستوى الكتابة السينمائية جاء عبر التغيير الدائم لمُلاك الحصان، وإن ظلت علاقة خاصة تجمع بين، إبن المزارع، البرت (الممثل الشاب جيرمي إيرفين) وبين جوي، مما شَطرَ القصة الواحدة الى قصص مختلفة، تحكي كل واحدة منها تجربة شخص ما عاش الحرب العالمية الأولى في منطقة وبلد لايشبه سواه، وهذا ما أعطى العمل بعدا بانوراميا وملحميا وقريبا أيضا الى “أفلام الطريق”، وأن بدت الطرق فيه مرعبة، على سطحها وجوانبها انتشر الموت. يطرح سبيلبرج عبر حصانه مفهوم القوة الى البحث والتفكير، فكثيرا ما تكون بلاءاً على أصحابها، فحصان ألبرت وجد نفسه في مواضع مؤلمة وقاتلة فقط بسبب قوته! يثير مشهد تعاون جنديان، إنكليزي وألماني، لفك أسلاكٍ شائكةٍ التَفت حوله جسد جوي ومزقته، تساؤلا حول مغزاه. هل دفعهما، كل في موقعه وخلفيته الاجتماعية والثقافية، حبهما للخيول للمغامرة بأرواحهم والخروج تحت وابل القنابل المتساقطة فوق رؤوسهم لتقديم يد العون لحصان جريح؟ أم أن في قوته ما يغري بالحماسة والشعور بقيمتها الجديرة بالمغامرة؟ وهل كان دافع شراء المزارع تيد له، منذ البداية تعويضا عن خسارته الجسمانية في حرب بلاده فوق أراضي جنوب أفريقيا، وعلى ضياع قوة شبابه فيها؟ ربما في “حصان الحرب” كل هذا، كونه عملا سينمائيا فيه الاختلاط مدروس، نابع من نسيج كتابته، وفي الحكاية الواحدة تشعب، يشبه الى حد كبير تشعب واختلاط مصائر الحيوانات والبشر في زمن الحرب. الساحر ميلييس حتى في فيلم سكورسيزي “هوغو” نجد مثل هذا التشابك بين مصائر الأفراد، أطفالا كانوا أم شيوخا. فالصبي هوغو لم يعيش الحرب التي عاشها السينمائي الطليعي جورج ميلييس ومع هذا وجدا نفسيهما سوية متأثرين بها. الاثنان أجتمعا في محطة قطار باريس في أواخر الثلاثينات وأوربا تشهد كسادا اقتصاديا، سيؤدي فيما بعد الى جانب أسباب أخرى، الى نشوب حرب عالمية ثانية. وجد الصبي هوغو (أسا باترفيلد) نفسه فيها وحيدا وكان عليه تدبير أمره، بسرقات صغيرة من مطاعم وعربات المحطة، وعلى بساطتها كان حارسها يطارده بلؤم وكأنه يريد به الانتقام من العوق الذي أصاب إحدى ساقيه في الحرب العالمية الأولى وشَكَل عُقدَة له. وفي أحدى زواياها كان يقبع في محل صغير لتصليح الألعاب الميكانيكية، رجلٌ عجوز صامت وحزين، سنعرف فيما بعد إنه السينمائي جورج ميلييس، الذي أَخرَ سكورسيزي الوصول الى عالمه، مُقَدما عليه الصبي اليَّتيم والحزين!. فيما أبقى اليُتُم خطا جامعا لهما. فميلييس يَتيم دون السينما، دون الساحر الذي في داخله، المبهر المدهش. يتيم إذا ما ضاع منه إحساس النشوة بتأثير شريطه المتحرك على جمهوره المسحور بما يراه من صورة متحركة على الشاشة البيضاء. وهوغو كان يتيما دون أبوين، دون معيل أو صديق، عدا تخطيطات ميلييس ورَجله الآلي، التي أعطاها متحف المدينة الى والده قبل موته، التي صارت له سلوى. كانت تجذبه مثل ساحرة إسطورية الى عالم بعيد عن المحطة وهمومها. لم يكن يعرف هوغو أنه كان مسحورا بالسينما وساحره كان جورج ميلييس. في مثل هذا العوالم المشحونة بالعواطف الإنسانية والحركة الميكانيكية النشطة وجد سكورسيزي مساحته المنتظرة مستخدماً وبأسلوب عمل لم نألفه عنده بهذا القدر من قبل، أكثر التقنيات الحديثة والمؤثرات التصويرية والصوتية المبهرة، غير أن العمق يظل يَشي بصاحبه، ثم وفي النهاية أليس فيلمه عن السينما وأحد روادها؟. حكاية ميلييس هي حكاية السينما نفسها فقد بدأ عمله ساحرا في سيرك وبعد أن شاهد فيلم لوميير الأول وَلَه بهذا الفن وأنجرف الى عالمه لدرجة دفعه حُبِه له الى صناعة كاميرات وأجهزة عرض بيديه، وصار يصنع فيلمه الصامت بنفسه ومن ماله، فحقق نجاحا ساحقاً، غير ان الحرب كانت له بالمرصاد فكسدت بضاعته، لأن في زمن الحرب لا يذهب الناس الى السينما، وفي لحظة قنوطه قرر حرق أستوديوهاته وبيع أشرطة أفلامه التي تحولت الى جلود أحذية نسائية. لقد حطمت الحرب كل أحلامه، بل حطمت فناناً سينمائياً رائعاً، استعاد حضوره وبمعجزة على يد سكورسيزي عبر حكاية “هوغو”، فالسينما، غير الحرب، إنها سحر قادر على صنع معجزات وخلق سعادات من العدم. حكاية “هوغو” لم تكرس كاملة لميلييس بقدر ما كانت تحية من نوع ما واستذكار للزمن السينمائي الأول وصُناعِه الحقيقيين. لقد أَعاد “هوغو”، بالسينما نفسها وبتقناياتها، مجد ميلييس المنسي، وأَعاد له سكورسيزي لعبته الجميلة ثانيةً بعد ان كَسرَتها الحرب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©