الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

والعَلَمِ وما يَرْفَعون

والعَلَمِ وما يَرْفَعون
14 يناير 2015 21:40
من يأتي أولاً: العلم أم الوطن؟ هل في السؤال غرابة مرفوضة، أم أنها استحالة عقد المقارنة بين مرآتين لوجه واحد؟ حسنا، سأغير السؤال: لماذا بقيت لندن منذ العهد الفكتوري في القرن التاسع عشر (ديكنزية)، ولم يشفع لها قرن من الزمان مرّ على صورتها المأساوية تلك، كان كفيلا بتحويلها إلى امبراطورية لا تغرب عنها الشمس؟ هل يمكن ألا تكون هي الشعوذة الأدبية التي فاقت التاريخ قوة، وردمت كل قوانين البنى البيولوجية والظواهر الطبيعية لعلم الخرائط، مستمدة عبرتها الإبداعية من التصورات الذهنية والعاطفية للكاتب، ضمن ترسيخ منطق الأخيلة لاستخلاص خارطة طريق قائمة على البنية الفلسفية للأمكنة، حتى لتغدو مجازيتها حقا وطنيا ودستوريا يوظفه المبدع للتوصل إلى الحقيقة الوهمية بصفتها الواقع المكاني للمكان، فيَمّحي المكان الواقعي بجرة قلم، ليتحول الوطن إلى ألم في الذاكرة؟.. بالتالي يصاب المبدع بلعنة الاستغراق بالإيهام، وهي لعنة حافظة، تماما كأنود التضحية في نظام الحماية الكاثودية للهياكل المعدنية من التآكل، لما يتميز به من قوة ودوام ومقاومة للذوبان تزوده بجهد طبيعي يستقطب شحنات سالبة قادرة على حفظ المعدن الأصلي. أنت لا تحتاج إذن إلى حقيقة إبستمولوجية «معرفية « لتستدل على وجود المكان من النص أو العمل الفني، إنما تحتاج فقط إلى حقيقة محورية بمثابة نقطة ارتكاز من شأنها أن تضاعف القوة الميكانيكية للمخيلة فترفع جنائن معلقة وأهرامات وساريات، وتبني مدنا، وتبتكر جهات لا يمكن العثور عليها سوى في بيت القصيد.. فلا غرابة إذن في أن يقسم الله بالقلم وما يسطرون! هل يمكن حينها أن تحاول كمبدع إيجاد تفسير ذاكراتي للوهم؟ هل يصبح الوهم هو ذاكرة الحقيقة؟ هل يمكن أن يكون الوطن مجرد صورة تشكل الكيان العقلي للوجود متماهية مع تفسير أرسطو للحقيقة؟ أم أنه فكرة ديكارتية لا تحتاج سوى ذاتها لكي تكون حقيقة واضحة! كلها أسئلة لا تجنح إلى الاستفهام بقدر ما تعبر عن استنكار لا يتوسل الحماقة في مجرد إجابة ! نبل ناقص إذا كان الانتماء للوطن هو النبل الذي يقي المواطن من شبهة الأنانية، فإنه نبل ناقص ومشبوه في الجريمة الإبداعية، ما دمنا ربطنا الاستقطاب السالبي بأنود التضحية لدى الفنان أو الكاتب، حينها لن تصدق التفاعلات النوستالجية المشتقة من وقود أحفوري يجعل من النص حجرا أسود قابلا للاشتعال لا أكثر، ومكمنا لعناصر كربونية متخفية بثورة الصنعة التي تنقض وضوء القلم قبيل الدخول في صلاة الغيبوبة الإبداعية، ولا تكفي حتى للتيمم بالفحم الحجري في منجم الوعي، لأنها تفقد أهم شروط الشعوذة: فقدان الذاكرة والاكتفاء بنصف وطن ولغة كاملة. حسنا لنتفق إذن: أنت مبدع حين لا يكون الوطن بالنسبة للغتك مجرد ذاكرة بقدر ما هو حيلة! أحدثكم عن المنافي، عن الاغترابات، عن التشرد، عن المعابر وعسكر الحدود، ووثائق اللجوء، وشبهات التوطين، وقفز الحواجز، والجنسيات المستعارة... فأين كنت بل أين أنت من كل هذا يا وطني؟ بالنسبة للكتابة كانت المشقة كامنة باستحضار ذاكرة موروثة، بمعنى تصورها، أو توهمها، عبر وصفة سرية هي: اللغة، فلم يكن من السهل معرفة كنه الحقيقة إلا بمقدار المسافة الإبداعية اللازمة للانزياح عنها، وما سهل المهمة ليس المخاتلة فقط، إنما ما يعين المخاتلة على اقتناص مكونات الوصفة مما يعلق بالقلم من أبخرة متصاعدة من فوهة الألم.. وإنه العلم! كان اجتياز اختبار الجغرافيا في امتحان المرحلة الإعدادية «المترك» معقودا على ما استقر في ذاكرة الحفظ من أعلام عربية، التقت بتشكيلات لونية متقاربة، يدلك الواحد منها على الآخر، وكان الرسوب من نصيب الأعلام الغريبة، التي قد لا ترى فيها على ما يواشج فيما بينها ويعين مقدرتك على ضمها في اتحاد لوني – كأضعف الإيمان – لا يشتت محاولاتك البائسة لاستيعابها، من هنا كان العلم هو الشيفرة الوحدوية التي تقنع ذاكرتك ولا ترهق طاقتك أو تستنزف صبرك وأنت تجتاز اختبار عروبتك بأريحية وألفة وتفوق. لماذا العلم؟ في موقع رابطة «أعلام العالم» (FOTW) تعثر على العلم كحقيقة رمزية (إن جاز التعبير) – رغم خطورة هذا الموقع لما يحتويه من بعض المعلومات التي تشوه التاريخ وتتعصب للجغرافيات اللقيطة – غير أن الجهد المبذول فيه منذ تأسيسه عام 1993، بفريق مكون من 21 متطوعا، جعل منه موسوعة تضم أكثر من 41 ألف صفحة، وما يقارب الـ (78) ألف صورة للأعلام المختلفة، وقاموسا إلكترونيا واسع النطاق. الموقع لا يقف عند دلالة العلم كشعار وطني، بل لا يعترف بهذا الاعتبار وحده، طالما أن العلم يجسد الآمال والتطلعات للشعوب والأمم، ويوجه الروح القومية لها، ويمثل قيمها الثقافية والتاريخية، ويزودها بالإلهام والرهبة، فقد يكون سلاحا ذا حدين عندما يتعلق الأمر باثنين: العظمة والكارثية، لأن بمقدوره إظهار ما في الأمم من أفضل الفضائل أو أرذل الرذائل. الفكرة استثنائية، تتمنى لو كانت سبقا عربيا، بما أن ثقافة العلم في تاريخنا اتخذت جانبا مقدسا منذ ما قبل العهد الإسلامي بكثير، لأن الآلهة في العصور القديمة كانت بمثابة الرايات التي تحدد الملامح الثقافية والصفات العقائدية لدى كل أمة، حتى ليسوقك هذا للاعتراف بالآلهة كأول الرايات في تاريخ الخليقة، لا بل إن قداسة الحقيقة الرمزية للراية تتجسد في الحديث النبوي الشريف: «لواء الحمد بيدي يوم القيامة»، حتى لكأنها المباهاة النبوية بالاستئثار بالراية بعد البعث، لما فيها من عزة، ومن ريادة. ألم يكن النبي الكريم يركز الرايات في المساجد ويحدد دور قادة الجيش؟ ألا يؤكد هذا على ارتباط العلم بالمقدسات؟ ألا يحيلك إلى طقس شعائري جليل يشي بالطهارة والسمو؟ ألم تكتب الآيات القرآنية على الرايات في العصور الإسلامية؟ ألم يتبارَ العباسيون والفاطميون في معركة الرايات بكتابة الآيات القرآنية عليها، ورفع الألوية كمؤشر على رفعة الخلافة؟ ألم يرفع الآشوريون رايات تحمل صورة لتمثال إله القمر الذي كانوا يعبدون؟ وإن كان ابن خلدون يرى في ارتفاعها هيبة وعظمة، فإن في تنكيسها إلى منتصف السارية دون خفضها لمستوى الأرض ما يدل على رفعة معنوية وشموخ حتى في المنية والرزية... وهو ما يليق باحترام أحزان العلم تماما كالاغتباط لأفراحه. ألا تتساوى المصاحف إذن بالأعلام، وقد حولها المسلمون إلى رايات أمان حين رفعوا الكتب الشريفة على رؤوس الرماح، كما حدث في حرب صفين عام 36 هجرية؟ لكل أمة دستور للعلم يمنع إهانته، أو التعرض لسموه بأي شكل من الأشكال، لما في ذلك من احتقار لهيبة الأمة، واستهانة بمقدساتها... فهل بعد هذا وذاك أقبل بتغيير السؤال؟ إنني لن أقبل سوى بالقسم بالعلَم وما يرفعون! أجمل ما في مكونات الوصفة الإبداعية ألا تبحث عن نتيجة منطقية للحيلة اللغوية، لأن الاشتباك مع المكر أشبه بلعب الغميضة مع كائنات لامرئية، أو ارتداء طاقية إخفاء فوق رأس خفية... إنها لذة اللامعقول وحسب، لأن العلم والوطن كلاهما حق، والحق لا يمكن أن يضاد الحق!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©