الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حسن توفيق يسبح في ماء الشعر

7 فبراير 2006
زهير غانم:
ليس الشعر أكثر من نغمات موسيقية، وترجيعات عاطفية، مغموسة بدم القلب، ومحولة مشاعر تتلبس لغة ايقاعية ممسقة، يصير محمولها الإنساني فائضا، حين يغمر الشاعر قصائده بمياه الحب، ونيران الرغبة، ثم حين يصفى ذلك في مصافي الجسد والروح، فيطلع علينا شرقا اشراقيا في مبادهة الحب والشعر معا· والشعر العربي قام على الحب والعشق، وخلف لنا أساطير في ذلك·
لا يتوخى الشاعر حسن توفيق في ديوانه الجديد 'عشقت اثنتين' ان يكون عذريا، او ماديا في شعره، إنما الرؤى الشعرية التي يتطارحها، هي التي تتوزعه على هذه الضفاف التي تتكامل ولا تتناقض، إذ كما يرجع أفلاطون في مثله وفلسفته الحب الى ان الكائن كان واحدا، ثم انشق الى اثنين يتوقان طيلة الحياة الى اللقاء، يذهب الصوفيون في الحب الى رحاب الانسانية، ووحدة الوجود والخالق، لكن حقيقة الحب بين الرجل والمرأة، والتي تعود الى قصة الخليقة، آدم وحواء، قد تجلت في آداب الأمم جميعها، لكن مدرسة الحب العذري العربية، فريدة من نوعها في آداب الأمم، حيث جاءها شاعر كبير من الفرنسية، وحرث بها، أقصد الشاعر أراغون في مجنون إلسا، ذلك الكتاب الذي هو ملاحم حب ذاتية وموضوعية، من التاريخ والعالم المعاصر، لكن شبهته الرئيسية هي الحب العربي ربما في ضفتيه·
امرأة في مدينة
وحسن توفيق في مجموعته 'عشقت اثنتين: توشكا - تمنراست' يقدمها تقديما صريحا وواضحا، بحيث زار الجزائر، وفي جنوبها مدينة تمنراست، وكانت المضيفة والدليلة شهيناز فكانت قصة حب غرائبية خاطفة· ورغم قرائن شعر الشاعر في الحب والوطن، والغربات والمنافي، يتحدث انه يتضايق حين يزور بلدا عربيا، ويقال له أهلاً بك في وطنك الثاني، فهو يرى أن كل بلاد العرب أوطانه الأولى، رغم انه من مصر ويمتدح القاهرة والنيل ومصر أم الدنيا، ومشروع الري والخضرة، في الجنوب، في توشكا والسد العالي والقائد العظيم عبدالناصر، ثم انه في الجزائر، يذهب الى مدينة صحراوية ويصير يحب ألوان البني والأصفر والرمال، بعد ان كان لا يحب سوى الازرق والاخضر، لكن ذلك اغنى الوانه كشاعر، انما الذي اغتنى حقاً في رحلة تمنراست، فهي ذات الشاعر جسده وروحه وقر روعه من الوحشة والوحدة، واصيب بسهام الحب من شهيناز·
واحدثت القصيدة فتنة وغواية، وافتضاحات بين اصدقائه الشعراء، حتى ردوا عليها بقصائد، وحاولوا حرفها عن الحب العذري، الى الحب الحسي، لكن الشاعر ظل في مثل الحب، الذي تحول الى لقاء وفراق، وشوق الى لقاء، عبر عن ذلك بقصائده وجمالياتها البيانية، والشعورية، وحتى اللاشعورية، كما عبر عن انفراجه من ضيقه الانساني، وحصاراته، ووصل به الأمر الى مدينة موقوفة على امرأة، والى سياحته في مدن الشرق (اليابان)، والغرب (مدريد وباريس ولندن)، لكن المدن العربية هي التي تشوقه، والأندلس في اسبانيا التي يقول انه لم يزرها (غرناطة، وقرطبة ومجد الحضارة العربية الاسلامية، العمارة والفكر، الشعر والموشحات)، ثم ها هو في كربلاء العراق، وصدى فاجعة الحسين، وصدى القصف الاميركي على المدينة المقدسة· انه يفتقد البطولات، فيتذكر عنترة وفروسياته، ويفتقد عبدالناصر وصلاح الدين في القدس، حيث الشاعر في ثقافته العربية الحضارية، وفي احساسه القومي الرفيع، يترجح شعره بينهما، كما يترجح في الحب والمدائن، الأماكن والأزمان·
ترميز
والشاعر الذي ينتمي الى رعيل وسيط من شعراء الحداثة التفعيلية، لم يهجر الشعر الكلاسيكي بل تظل لديه صولات وجولات فيه، وبعض القصائد في الديوان، خفيفة الأوزان، ايقاعية وغنائية، تظل ضمن مسروداته الشعرية الابداعية في قصيدة التفعيلة، التي تظل فيها ضوابط القافية احيانا، كي يشد من هندسات القصيدة المرئية واللامرئية، في اعتكاس العالم على مراياه الذاتية، وفصد الشعر من دمه وعرقه، حتى يأتي حساسا، مشحونا ربما بخفر التعبير أو جرأته، لكن بكل السلاسة اللغوية التي يتمتع بها الشاعر في نثره اولاً وشعره، حيث تحول الى مجنون العرب، وكتب كتابين مقاميين في ذلك، وكأن الشاعر كما اللغة العربية مجبول بالايقاع، ايقاع اللغة التي هي كينونة، وهوية حيوية متحركة متحررة صائرة، كما يعبر فيها عن ذرا احساسه القومي والحضاري، وحتى العاطفي الذي يستند الى مخزون شعري تاريخي، ومخزون ثقافي فاعل في الشخصية العربية، فكيف اذا كانت شاعرة، كما هي حال حسن توفيق الذي يكني بعنوان ديوانه، عن محبة مدينتين، في مصر توشكا، وفي الجزائر تمنراست، على تورية عشق نساء في هذه المدن، في توشكا، دون تصريح بالاسم، في تمنراست، الفتاة العذبة الفاتنة، شهيناز، وكل هذا الدوي الشعري العاطفي والتعبيري الذي أحدثته شهيناز في قصائد مجموعته، وكأن مجموعته في الحب، وتصير بدل مجنون ليلى، مجنون شهيناز، التي لامست شغاف قلب الشاعر، وفجرت ينابيعه الجمالية، الشديدة الخصوبة والتروية في التعبير، وكأن قصائد المجموعة موقوفة على شهيناز، بأسماء مختلفة، القاهرة، كربلاء، اندلس اسبانيا، وغير ذلك من مدائن الشاعر - السندباد، في رحلاته عبر مدائن النحاس، ومرافئ المخيلة، هنا الشاعر عاشق اسفار ومدائن ونساء، واذا قلبنا الترتيب، عاشق نساء بمدائن واسفار، وقصائد يحولها ويتحول بها الى بوح انساني غنائي متموج رقراق، عذب، وفيه كل جنون القصائد وغواياتها، بسبب جنون العشق، لا بسبب جنون العشاق، حتى لو كانت سوريالية التعبير تفضي ببعض الجمل الشعرية، الى هذيان الحب، والعودة الى نضارة وغضارة القلب والحب والشعر الذي استعاده الشاعر في قصائده طازجا ممرعا، مائيا ومشمسا ايضا·
سياق شعري
وأستذكر انني قرأت مجموعة شعرية 'الدم في الحدائق' منذ ثلاثين عاما ونيف للشاعر حسن توفيق، وكنت ارى كيف ان تقاليد الشعر العربي تتوهج فيها حداثيا، بين صلاح عبدالصبور، وعبدالمعطي حجازي، اذ بزغ هؤلاء الشعراء، حسن توفيق، محمد مهران السيد، امل دنقل، كجيل لاحق لهؤلاء وأثبت حضوره على خارطة الشعر، لكن حسن توفيق الذي اغترب عن مصر، في الدوحة في قطر طور سياقاته الشعرية، فذهب الى الشعر المشرقي العربي، السياب، وعاد الى رومانسية مبدعة في الشعر في مصر، عاد الى تحقيق أعمال الشاعر ابراهيم ناجي حيث لو لم يجد الكثير من التواشجات والاصداء المشتركة بينه وبين الشاعر، لما عمد الى ذلك، حتى لو كان ابراهيم ناجي في جانب ازهار الشر لبودلير، فإن الشاعر حسن توفيق، محافظا على توازن روحه في عشقه، يظل في ظلال الحب العربي، العذري منه على وجه التحديد، حيث هو الباحث عن العدالة والقيم لديه رؤيا في القيم الاخلاقية المقرونة بالعدالة، وهل يكون الشاعر في المنحى الوجودي من رحلته الشعرية التي بدأها في ستينات القرن الماضي، ايام كانت احلام العربي في الحرية والتحرر بحجم الكون، وكان بوصلة في التعبير عن الشعور القومي، عن الذات العربية التي تريد ان تتحقق، وعن الهوية العربية التي حمل لواءها القائد الخالد عبدالناصر، رغم ان بوصلة الشعراء كانت تؤشر الى سلب وتخلف في الحياة العربية، اودى الى هزيمة السابع والستين، التي كسرت الحلم العربي، ومازال الشعراء يئنون تحت وطأة انكسار الحلم والهزيمة، ومازالوا يحنون للزمن الجميل·
لاشك ان الشعر ليس في الموضوعات التي يطرحها على اهميتها ولا في المعاني التي يسوقها على اهميتها ايضا، ولكن في الكيفية التي يعبر بها عن هذه الموضوعات، وتلك المعاني والشاعر حسن توفيق، ذاته الشعرية، متبلورة متجوهرة، وله لغته الشعرية الخاصة التي يستوحيها من الانسان والحب، من القلب والجسد والروح، ونفسه تشق وترهف وترق، حتى تصير لغته سيالة مائية، عذبة رقراقة، توحي وتدل الى ما يقول به في شعره· ولا يمكن استخدام المنطق كثيرا، فأعذب الشعر أكذبه، ذات دلالة تحويلية انزياحية للغة عن تسميتها وتوصيفها، والذهاب الى بيانها وبلاغتها، لذلك يقع شعره في الحدس والذوق، وملكة الحكم بينهما، فهو يخاطب القلب والروح أكثر مما يخاطب الجسد، وهو في الميتافيزيق اكثر من المادي· انه باحث قيم، ولذلك تتجلى الروح الشعرية، بفرادة طروحاتها، كما تتجلى الرؤيا الجمالية النفاذة، الى عمق الأماكن، عمق النفوس، وعمق الأزمان، ومن كيماوياته اللغوية، يخلص الى القصيدة الصافية، تعبيرا ولغة، ومعاني وموضوعات، وكأنها مرآة نفسه وروحه، يطلقها للآخرين، في خطاب شعري متميز، كي يتلمسوا خفق قلوبهم، وتلامح احلامهم، وكي يمتحنوا قوة قيمهم ايضا، لذلك لا يتقعر في لغته، ولا يتعاثر، او يتوعر، بل تجيء كأنها في السهل الممتنع، أو عفو الخاطر كما يقال·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©