الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجود «شعرة» بين العبقرية والجنون.. عبارة تنقصها الدقة!

وجود «شعرة» بين العبقرية والجنون.. عبارة تنقصها الدقة!
21 مايو 2011 20:03
كان الناس قديما يعتقدون بوجود علاقة وطيدة بين العبقرية والجنون، دفعتهم للحديث عن العبقري بشيء من التهيّب والحذر، وقد زاد من هذا الاعتقاد ارتباط أسماء بعض الكتاب والعظماء بحالات كآبة وسوداوية رافقت إصابتهم بأمراض نفسية، أدت بالبعض منهم إلى دخول مرحلة الجنون الكامل.. ورغم اختلاف الأزمنة وتغير العديد من المفاهيم والمعتقدات التقليدية البالية، إلا أن النظرة لم تتغير كثيرا تجاه العباقرة، الذين يتعرضون للظلم في أحيان عديدة من قبل أقرب الناس لهم، رغم إسهاماتهم العظيمة في مجالات الأدب والسياسة وغيرها. يقال إن شعرة دقيقة جداً تفصل بين العبقرية والجنون، وهذا ما يجعل بعض الأشخاص ينظرون إلى العباقرة والأفذاذ بشيء من الغرابة والدهشة، ويراقبون تصرفاتهم وسلوكياتهم التي تشبه إلى حدّ بعيد أفعال المرضى النفسيين. لقد درجت هذه النظرية بين العامة إلى درجة كبيرة، حتى غدت عرفا متداولا، وصار العبقري أو شديد الذكاء شخص يخشى منه باعتباره مهووسا أو غريب الأطوار، فترى البعض يبتعد عنه أو يهرب منه، ما جعله يعيش وحيدا في مجتمعه وبين أهله وأقاربه في حالات كثيرة.. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، هو: هل الفكرة المأخوذة عن العباقرة وارتباطهم بالجنون أو الأمراض النفسية فكرة صحيحة، وهل كل شخص فذّ أو عبقري هو شخص غريب الأطوار؟ استعداد مختلف حول تركيبة العبقري يتحدث الدكتور هاشم صالح، وهو كاتب ومفكر عربي، موضحاً أن الطب النفسي الحديث أثبت، بعد إجرائه العديد من الدراسات التجريبية، بأن العبقري لا يتميز بتركيبة نفسية خاصة، بقدر ما يتميز بتشغيل خاص لهذه التركيبة النفسية، فهو إنسان مثله مثل بقية البشر، غير أن استعداده النفسي مختلف بعض الشيء، فهو يتميز مثلاً بطاقة هائلة على الحركة والإبداع قياساً بالإنسان العادي، كما أنه يتميز بالاختلاف وحب الخروج على المألوف، وهو أمر طبيعي فالامتثالي الخاضع للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع لا يمكن أن يكون عبقرياً، لأن أول سمة من سمات العبقرية هي الشذوذ عن المألوف. ويواصل الدكتور هاشم، قائلا إن العباقرة يصدمون الناس في البداية ويلاقون صعوبات جمة من قبل وسطهم والمحيط السائد، ثم يمضي وقت طويل قبل أن يتم الاعتراف بهم، وأحياناً لا يعترف بهم إلا بعد موتهم. فوحده العبقري يعرف قيمته منذ البداية، ولكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بها فوراً، ولذلك يعاني معاناة جمّة ويصاب بالإحباط في لحظات كثيرة، ويحاول التراجع عن الأمر أو الاستسلام، ولكن هناك قوة بداخله، تدفعه للاستمرار. دقة منقوصة من جهته، يرى الدكتور محمود فاضل استشاري الأمراض النفسية، أن المرض النفسي حاله كحال الأمراض الجسدية الأخرى، فهو عامل نفسي مؤثر بطريقة تضرّ الإنسان ولا تقدّم له أي نفع، لكن هذا الكلام المأخوذ له مفهومية أو يتخلله بعض المنطق، مفاده أنه أحيانا، وليس دائما، فإن الإصابة بحالة نفسيه تجعل الشخص غير ملتزم أو متأثر بضوابط اجتماعية تحدّ من إمكاناته النفسية والذهنية. لذا فمن الممكن أن نجد شيئا من التميز أو ما يقال في الكلام المأثور بعض العبقرية لنسبة قليلة من الحالات النفسية ولا ينطبق ذلك على القسم الأغلب للمرضى النفسيين، الذي يؤدي بالعكس إلى إحباط أو قلة في الإمكانات الدماغية. قد ينطبق هذا الكلام، بحسب فاضل، على بعض الأنماط الشخصية التي تجعل المرء متحررا أكثر من هذه القيود، وهذا التحرر بدوره يؤدي به إلى شيء من الإبداع، أما المعنى الحرفي للمرض النفسي فهو بالمطلق قلّة في وفرة الطاقة النفسية. ويشير الدكتور فاضل إلى أن هنالك مرضا آخر هو داء الهوس، وهو عبارة عن اضطراب وجداني يصيب العاطفة ويجعل الإنسان أحيانا متوقدا متيقظا وتؤهله لإنجاز وإبداع أكثر، لكن عندما يكون المرض بحالة هادئة، أي عندما يكون تحت الحادّ، فيؤدي به إلى نتائج سلبية. مضيفا أن التاريخ البشري يحفل بالعديد من الأشخاص المبدعين الذين اشتهروا في عالم الرواية والكتابة وهم مصابين بحالات من الهوس لكن هذا لا يعني أن المرض هو الذي أدى بهم إلى ذلك، لكن الكاتب كان يدخل في مراحل معينة من المرض النفسي تجعله يبدع، أي تصادف وجود أمراض نفسية لديهم، فعندما يدخل في هوس يبدع، ولكن عندما يتحول إلى اكتئاب فإنه ينطفئ. ويخلص الدكتور فاضل بالقول إن وجود شعرة بين العبقرية والمرض النفسي كلام تنقصه الدقة، وإذا ما انطبق، فإنه ينطبق على حالات استثنائية وليست قاعدة عامة يمكن أن تنطبق على الجميع. تأثير الإعلام يجيب على هذا السؤال، الذي تم طرحه على مجموعة من الأشخاص العاديين في المجتمع، طارق إبراهيم، موظف في محلّ تجاري، بالقول: «إنني لا أمتلك إجابة علمية دقيقة تفسر هذا الموضوع، لكنني قرأت وسمعت عن العديد من العظماء في التاريخ، الذين أصيبوا، أو كانوا مصابين بأمراض نفسية مختلفة، أدت إما إلى الجنون أو الانتحار، وهو ما يشير إلى وجود علاقة بين العبقرية والجنون بطريقة أو بأخرى». من جهتها، تقول فاتنة حمادة، موظفة بنك، إنها حقيقة لا تعرف إن كان ثمة ارتباط حقيقي بين العبقرية والجنون، ولكن النماذج التي قدمها لنا الإعلام العالمي والعربي، من خلال القصص والأفلام والروايات وغيرها، أظهرت العباقرة والأفذاذ على أنهم مختلفون عن الناس العاديين، سواء في مظهرهم أو تصرفاتهم أو حتى في طريقة كلامهم، ومن هنا جاءت الصورة الانطباعية التي يصعب تغييرها. تواصل فاتنة القول: «بمجرد أن يذكر اسم شخص عبقري أو الحديث عنه أمامي، فإن مخيلتي، تتجه لا شعوريا، إلى تصوره وكأنه شخص غريب الأطوار ويعاني من حالات نفسية أو جنون جزئي، الأمر الذي يدفعني للخوف منه». احترام العقول إلى ذلك، يقول رائد ربيع، مهندس معماري، إنه لاحظ بأن كثيرا من المبدعين والأفذاذ في المجتمع، يتمتعون بصفات غريبة بعض الشيء عن غيرهم من الأشخاص العاديين. واستشهد ربيع بحالة أحد أقاربه، الذي يعد موهوبا جدا في العديد من الأشياء، كالكتابة المسرحية والشعر، بالإضافة إلى تميزه في عمله كرجل أعمال، ليؤكد على صدق ما راح إليه من كلام، مضيفا إن هذا الشخص لديه طاقة غير عادية جعلته غزير الإنتاج في نظم الشعر والكتابة فضلا عن عمله، كما أن لديه نظريات مختلفة حول العديد من القضايا، والتي تسبب له الخلاف مع الآخرين دائما، ما جعله منبوذا في أغلب الجلسات من قبل الجميع ومحط سخرية في بعض الأحيان لكونه مختلفا، لكن هذا لا يمنع نبوغه وعبقريته وذكاءه الحادّ، كما لفت ربيع. من جهة أخرى، تعتقد رشيدة حافظ، مدرسة لغة عربية، أن العبقرية لا تعني بالضرورة الجنون أو الإصابة بالمرض النفسي، فالعقل البشري أشبه بصندوق مغلق لا أحد يعرف كيف يبدو من الداخل وكيف يفكر، ونحن لا نستطيع أن نحكم على شخص ما بأنه مجنون كونه مختلفا عن الآخرين. وتضيف رشيدة: «الناس ينظرون إلى المظهر الخارجي للشخص الواقف أمامهم، ثم تحكم عليه من مظهره، لكن هذا لا يفيد، فهم يحكمون على العبقري بأنه مجنون نظرا لاختلاف مظهره وملابسه وحركاته، وهذا يعتبر دليل تميز يحسب له وليس ضده، فلا يجب أن يكون الناس كلهم متشابهين، وعلينا أن نتقبل الآخر حتى لو كان مختلفا عنا». تضيف بالقول: «من منا لا توجد لديه أمراض نفسية، فكلنا نعاني من أمراض وعقد تؤثر على مسيرة حياتنا، لكن هذا لا يعني إصابة الجميع بالجنون، كما أننا حكمنا على الجيل الحالي من خلال مظهره فقلنا إنه فارغ وسطحي وما إلى ذلك من أوصاف، لكنه في النهاية أثبت للعالم كلّه أنه ينتمي إلى أمته رغم اختلاف مظهره، ومن هنا يجب أن ينظر للعبقري أو الفذّ من هذه الزاوية، وأن يلقى الاهتمام والرعاية في حياته قبل أن يكرّم بعد مماته». دراسات وأبحاث أكدت دراسة ألمانية أن 4,8% من الفنانين و4% من العلماء ورجال الدولة كانوا يعانون من ذهان وظيفي، وقد خرجت بنتائج مهمة تتلخص في أنه لا توجد علاقة محدّدة بين القدرة العقلية الفائقة وبين الصحة العقلية أو المرض العقلي، وليس هناك دليل يدعم الافتراض القائل بأن ظهور القدرة العقلية العالية يتوقف على الشذوذ النفسي، وقد ثبت أن حالات الذهان والفصام بوجه خاص ضارة بالقدرة الإبداعية. وقد أخضعت الدراسة 294 من العباقرة المعترف بهم في محيط البلدان الناطقة بالألمانية منذ عام 1650م، وشملت الشخصيات التي اقترحتها 113 فنانا و181 عالما ورجل دولة وافقت عليهم شخصيات لها مكانتها كل في مجاله، وجمعت معلومات موسعة عن حياتهم وسيرتهم الذاتية، ورجعت إلى السجلات الطبية المتاحة للحالات موضع الدراسة ولأقاربهم، ما جعل بحثها عملا ضخما شديد الدقة. من جهة أخرى، فقد أثبتت دراسة إحصائية أجريت على هذا الموضوع أنه نادراً ما يخلو عبقري ما من إحدى حالات الجنون أو التوتر النفسي الحاد، وقد قام بهذه الدراسة الباحث فيليكس بوست عام 1994، وشملت 291 شخصية تنتمي إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والموسيقى والشعر والأدب، وهي شخصيات عبقرية ظهرت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتبين من خلالها أن العباقرة يتميزون بصفات غير طبيعية، فهناك نسبة 50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً تشلّهم عن الإبداع في بعض فترات العمر، وترتفع هذه النسبة لدى الفلاسفة فتصل إلى 60%، ولكنها أعلى ما تكون لدى الأدباء، والشعراء خصوصاً حيث تصل إلى 70%، ثم تنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة حوالي 30%. كآبة الكتاب والروائيين كان ونستون تشرشل، السياسي والمثقف البريطاني الشهير، يعاني من نوبات كآبة وسوداوية خلال فترات من حياته التي وصفت بأنها نشطة وحافلة بالأحداث الكبيرة، كما عاش بيتهوفن، الموسيقار وعالم البيانو الألماني الشهير، في عزلة مع مرضه الذهني العصبي والذي أدى إلى فقدان سمعه، ورغم هذا فقد استمر بتأليف السيمفونيات حتى وفاته. إلى ذلك عانى الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن، من نوبات كآبة متكررة وعدة محاولات انتحار، ومع ذلك فهو المحرر لعبيد أميركا، وهو الذي قضى على النظام الإقطاعي الذي كان سائدا في الولايات الجنوبية. أما الكاتب الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز، فقد كان يعاني نوبات حادة من الكآبة والسوداوية في الفترة التي أبدع فيها بكتابة رواياته المشهورة وهو في عمر 34 عاما. ويذكر التاريخ أن روبرت شومان، العازف الموسيقي الذي ألّف أكثر من 130 مقطوعة وكتب العديد من الأشعار، كان يعاني من أمراض عصبية واختلالات عقلية دفعته لمحاولة الانتحار أكثر من مرة. غير أن هذه الاختلالات نجحت في إنهاء حياة الروائية الانجليزية الشهيرة فرجينيا وولف، التي أقدمت على الانتحار بالفعل، وهو ما حصل أيضا مع آرنست همنجواي، الروائي الأميركي المعروف، الذي عانى من حالات اكتئاب حادة أدت به إلى الانتحار. كما يزخر التاريخ العربي بحالات شبيهة، حيث قامت حياة شرارة، الكاتبة والباحثة العراقية، بالانتحار مع ابنتيها، ما أدى إلى وفاة واحدة فيما نجت الثانية. كذلك انتهى الحال بالكاتب المسرحي المصري الشهير محمود دياب، إلى الانتحار، أما مؤنس الرزاز، الكاتب والروائي الأردني فقد كان يعاني من حالات اكتئاب وسوداوية أدخلته إلى المصحات العقلية أكثر من مرة، ودفعت به إلى إدمان الكحول والمخدرات قبل وفاته.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©