الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحقد على النهمين

الحقد على النهمين
6 أغسطس 2010 21:40
أعترف بأنني إنسان حقود على المائدة؛ لأن فمي وُلد في بيت نافسه على اللقمة عشرة أفواه، ناهيكم عن أفواه الضيوف والأقارب الذين كانوا يشرّفوننا بين الحين والآخر. كان لا بد لفمي أن يناضل ليحصل على شيء يمضغه، ولا ألوم فمي حين أوغر صدري ضد أهلي وجعل قلبي يشتعل غيظاً أثناء الأكل. كان يفترض أن يزول هذا الحقد بزوال أسبابه، لكن للأسف مازلت حقوداً أمام الأطباق، فإلى اليوم أشعر بمغص في بطني إذا طلب أحدهم التفضّل بمزاحمتي على طبقي. والغريب أنني أكون على أتمّ الاستعداد والجاهزية لإعطائه قيمة ما آكله نقداً أو حتى بشيك مفتوح موقّع على بياض، بشرط ألا «يوطوط» أو يقترب من طعامي. وأعصابي تفلت إذا وجدت نفسي في سباق غذائي مع آكلين يبلعون بسرعة، أو يزاحمونني على السفرة بأكتافهم وركبهم وأقدامهم؛ لأن عقلي الباطن وبطني العاقل، يتذكران الطفولة وهواجس الصراع من أجل البقاء شبعاً. وتتطاير أعصابي شظايا كأنّ قنبلة انفجرت في دماغي إذا كان الأكل في مطعم والدفع بالطريقة الأميركية اللعينة، أي تقاسم دفع قيمة الفاتورة بين الآكلين. وهي طريقة مخالفة للثقافة العربية التي يتجلى كرمها في الأكل وعلى الموائد العامرة، لكن الثقافة الأميركية التهمت الثقافة المحلية، والجميع تلوّث بها إلا من رحم ربي، فلا يزال هناك بعض الشرفاء، والعظماء، وأهل الذوق والحشمة، ممن يعدون الكلام عن الفاتورة والنقود والتقاسم عيباً يأنفه أي رجل بالغ عاقل راشد. الحمد لله أن لدي أكثر من مجموعة أصدقاء، وبعض المجموعات تضم الرجال العظماء من أمثال حاتم الطائي، لكن مجموعات أخرى ليس فيها إلا الحطيئة وأشعب، ضعاف النفوس أقوياء البطون، وفوق هذا، فهم «يأتمركون» وقت الدفع. تخيل وضعي أنا الذي كنت أحقد على أبناء أبي وأمي كيف تكون ردة فعله إذا زاحمه على الأكل مجرد أصدقاء، وكان الجميع سيدفع قيمة الأكل بالتساوي، وكان ضمن هؤلاء من لا يراعي الله أثناء الأكل ويمارس الجشع على أصوله، فيلتهم الأطعمة الصغيرة واللذيذة، بالقطعتين والثلاث دفعة واحدة. كأن آكل في كل لقمة حبة روبيان واحدة وصاحبي يلتهم روبيانتين أو ثلاثا. بالطبع، فإنني في هذه الحالة، أكون على أهبة الاستعداد للدخول في سباق التحدي نحو التهام أكبر، وألذ، وأغلى، الموجود على المائدة، مع المحافظة على وتيرتهم في بلع القطعتين معاً. أما إذا حافظت على رباطة جأشي، وصبرت وفي العين قذى وفي القلب أذى، وتركتهم في غيّهم يعمهون، وفي الأكل ينغمسون، وسموت ببطني، فإنني لن أجد ما أسد به جوعي، وفوق هذا، فإنني سأدفع قيمة ما يأكله جلسائي الملاعين، وهذا لم ولن يحصل مادمت حياً وفمي في وسط وجهي. وأنا في الوقت نفسه من روّاد المطاعم، وفي الغالب هناك رفاق معي. والذي يحدث أننا نجتمع في كوفي شوب، ثم من هناك نضرب في الأرض بحثاً عن مطعم. وأثناء الجلوس في الكوفي، فإن الجميع يطلب «طعاماً» بالإضافة إلى المشروب، بينما أنا أكتفي بالمشروب فقط. فهم يطلبون مثلاً شايا صينيا مع كعك بالجبن أو شايا أحمر مع آيس كريم، وهذا في نظري «طعام»، وهم يأكلونه بالإضافة إلى أنهم يشربون، وأنا أشرب فقط، وبهذا أنا لا أتساوى معهم، فهل يستوي الذين يشربون بالذين يشربون ويأكلون؟ بالطبع كلا. لكننا أمام الفاتورة نتساوى، والجميع يدفع بالتساوي من دون التدقيق فيمن أكل وفيمن شرب. وأظل طيلة الوقت أشرب قهوتي كرهاً على كره، وحقداً على غيظ، وأخطط للانتقام في المطعم، فإذا كنت حَمَلاً وديعاً في المقهى وهؤلاء الذئاب البشرية ينهشون في لحمي، فإنني في المطعم أكشف لهم عن وجهي الحقيقي، وتبرز أنيابي مثل الليث الأبيض، فأنهش ما أمامي بسرعة، وأتخيّر أفضل الموجود وأنا أنظر في وجوههم خصوصاً أولئك الذين كانوا في المقهى يتلذذون ويتفنون في الأكل على حسابي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©