الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موريس بلانشو.. مملكة الفاجعة

موريس بلانشو.. مملكة الفاجعة
3 فبراير 2016 21:48
ترجمة: أحمد حميدة يرى موريس بلانشو أنّ سرّ الإبداع يكشف عن «عزلة جوهريّة» تجعل من الأدب حقل اختبار مهمّته لا تحدّ. في فكر بلانشو، كما في أعماله، تختفي العزلة، ولكنّها في ذات الوقت، تظلّ من بين كلّ أشكال التهرّب.. تيه ونفي، انتهاك وتراجع، اختبار للفراغ والبؤس، للهجران والانطواء على الذّات مع بلانشو، كلّ شيء يُستهلّ بالعزلة، كلّ شيء يبدأ حين تداهمه «صرامة صوت العزلة» التي تخترق الكلمات، النّداءات، الهمسات، و«أدنى حفيف»- لا يطاله السّمع- للصّمت الفاجع هنا، العزلة تراكم ثنايا السّريرة الباطنة. هنا تغيّبنا العزلة كقوّة هي في ذات الوقت فعّالة– تدفع بالإنسان خارج ذاته – وغامضة، وكأنّها رجع صدى لكلام آت من آفاق بعيدة. تتشكّل العزلة «كإقصاء ضارٍ خاصّ بها، كرفض باهر للممكن، وخارج عن صيرورتها المشرقة». لا شكّ أنّه ليس ثمّة شخصيّات لبلانشو لا يمكنها إعادة ما قالته امرأة لعشيقها، في «أمينداب» (1942): «نظراتك تومئ إلى أنّني غائبةٌ فيك». العزلة هي الهاوية والمهماز، التجربة الأكثر شيوعاً والأسرع تملّصا. هي حمل ثقيل– كالتوتّر الذي يكابده توماس الغامض (1941): «إلى غاية الآن كابد عزلة كانت تستنزفه»– وما تقتضيه الضّرورة يزعج الفكر والحياة: «صحت.. لتتوقّفوا عن الثّرثرة، أنا بحاجة إلى أن أكون لوحدي» (الثّرثرة الأبديّة– 1951). فعبر العزلة يتجلّى الرّفض لكلّ غواية، لكلّ محاولة من أجل الظّفر بالسّكينة في أحلام مشتركة، في إنصهار حسيّ أو روحيّ، يتوحّد فيه الإنسان مع الواقع المحيط به: «لن يدرك أبدا ما كان يعرفه. تلك كانت هي العزلة» (الترقّب.. النّسيان، 1962). حفريّات العزلة عند بداية ذلك التجاوز الباطني الذي يثير حافز السّرد في أعمال بلانشو ويجعل ذ لك العمل أيضاً.. عملا نقديّا، تُعمّق العزلة حفر الفجوة. وهو ما لا يني يومئ إليه دافع الترقّب: «دائماً وحيداً على قيد الانتظار، ودائماً مفصولا عن ذاته بترقّب ما كان لا يتركه وحيدا» (الترقّب، النّسيان، 1962). وعدم توافق الأضداد يفترض تضحية: هو عدم توافق الكائن مع ذاته. فالأمر يتعلّق بالتّباعد، باستنساخ الاغتراب، وباستكشاف المزايا الطّاردة للعزلة، تلك الدّخيلة المتطفّلة. ويعبّر بلانشو عن دوار تلك المباعدة: «حين أكون لوحدي، لا أكون وحيدا» (الفضاء الأدبي، 1955). جوهريّة.. لو أردناها كذلك، فإنّ العزلة تحدّد النّقطة التي منها يمكن أن نقول عن توماس وبدون مواربة أنّه غامض وشفّاف. حينئذ، أن نتحدّث لوحدنا فإنّ لذلك معنى ما، طالما أنّه عبر لا معنى الكلام الأحاديّ ينكشف المعنى النّهائيّ الذي ينطوي عليه الرّفض. لقد غدا توماس بعد فكّه جميع الارتباطات، يشعر أنّه في قلب كلّ الأشياء، طالما كان يحسّ أنّه مقصيّا عن كلّ ما يحيط به. هكذا ندرك أنّ أعمال بلانشو تثبت وجودها في غمرة التوتّر الدّائم للمتناقضات التي يرفعها بلانشو إلى أعلى درجات الصّرامة، إلى أسمى مراقي الدقّة التأمّليّة، متسربلة بالبريق الجليديّ للعزلة، التي من رحم ذلك البريق تنير كلّ الأشياء في حقيقتها الصّميميّة: «لم أكن وحيداً، كنت رجلاً كالنّاس».. هكذا يتبدّى لنا السّارد وبطل هذه الرّواية السّياسيّة.. هنري سورج. صحراء الأدب العزلة كما الصّمت.. مقلقة. إنّها تزعج اللّغة إلى إعادة التفكّر في الصّمت وفي التّنافي. إنّها شرط لإشراقات الفنّ، وتشكّل في آن.. الحيّز والسّؤال المرتبطين بالأدب، والإجابة البالغة على الثّرثرة: «الكتاب هو إلى حدّ كبير لاشخصيّ.. حتّى يكتبه الكثيرون»، هذا ما كتبه بلانشو لصديقه الكاتب لوي رينيه دي فورييه في 1964. لأنّ الأدب يجعل اللّغة قصيّة عن ذاتها، ليصل عبرها إلى حال التمزّق، إلى تبعثر العلامات والصّمت المفارق، الذي منه تتشكّل لغة الكاتب: «عمل الكاتب عمل مفرد: ولا يعني هذا أنّه يظلّ غير قابل للتّوصيل، أو أنّه يفتقد القارئ. ولكنّ من يقرأه يلج ذلك الإثبات لعزلة ذاك العمل، كما أنّ الذي كتب ذاك العمل يظلّ موهوبا لمخاطر تلك العزلة» (الفضاء الأدبي، 1955). فكيف لكلمات ممجوجة بلا انتهاء أن تتماهى مع ذاتها؟ وما هي هذه العزلة التي بوضعها في حال الخطر، تبدو وكأنّها تُسائِل سرّ الخلق وتخاطر بفعل الكتابة؟ فهل للصّوت كي يتماسك ويتوازن، أن يلتحق بالصّمت الذي يتشكّل منه الكلام؟ وهل أنّ الإنسان بحاجة إلى أن يتوق إلى نطقه الخصوصيّ؟ أن يعتزلها ليدركها.. تلك هي تجربة العزلة. فكأنّما العزلة هي على ما يبدو، صحراء الأدب، ذلك الحيّز الذي لا ينتمي لأيّ فضاء، المنتمي إلى زمن من طراز آخر، والذي يكون مع ذلك بحاجة إلى أن يعالج، وفق خطوط منحرفة ومحدّبة. اسمٌ للمنفى باعتبارها اسماً آخر للتّجريد، للفراغ وللمنفَى، وباعتبارها تبعا لذلك مملكة حقيقيّة للفاجعة.. تجعل العزلة من الكاتب إنسانا مجرّدا من كلّ شيء: «الكاتب.. ذلك المؤرّق بالنّهار» (كتابة الفاجعة، 1980) الذي يحرّم عليه النّوم. معِيشةٌ بطريقة لا شخصيّة، تجعل العزلة الكاتب: «تائهاً لا يمتلك أدوات تيهه» (الكتاب الآتي، 1959)، منذوراً للتّيه في غرابة ما يتخفّى، ويظلّ عصيّا على الانكشاف. ترسل العزلة صوتاً «لا بداية له ولا نهاية»، صوتاً آتٍ من مكان آخر «لعلّه صوت عقيم، ولكنّه مع ذلك ليس (باللآّكلام) ولا يخلو من المعنى». وهو يُسائل أصل العزلة التي هي في آن: «إغواء حميميّ وتبعثر للظّاهر»، يسائل بلانشو- في الحقيقة- العلاقة بين الكاتب واللّغة، مازجا التأمّل الفلسفي بالخيال الشّعري، الفكر التّخييلي بالفكر التصوّري، وجامعاً بين العمل النّقدي والعمل الإبداعي، بين الرّأي السّردي والرّأي الاستدلالي. يشكّل فكر بلانشو منطقا للخطاب وللفكر القائم على تناقض الكاتب الذي «يعي عزلته وهو يخاطب القارئ، وبوسائل تمنع الإنسان من أن يكون وحيداً. ولكلمة وحيد هنا معنى عامّ ككلمة خبز، وهي.. بمجرّد أن نلفظها، تحضرنا كلّ الأشياء التي تنفيه» (عثرة، 1943). ومفارقة أخرى.. وهي أن ندرك أنّ العزلة هي بصورة محدّدة إدراك أن لا شيء يعسر التّعبير عنه بالكلمات الأكثر شيوعاً. يرى بلانشو أنّ «العزلة الجوهريّة ليست «بالعزلة» في العالم التي تعدّ «جرحاً» لا يحتاج منّا إلى أيّة إعادة نظر. وهي أيضا ليست بعزلة الفنّان التي ليست في جوهرها عزلة بقدر ما هي «استرخاء». عزلة العمل الإبداعيّ وحدها تكشف عن «العزلة الجوهريّة»، وتجعل من الأدب حقلا للاختبار، مهمّته لا تحدّ. فالكتابة عند بلانشو هي «اللاّنهائيّ.. الثّابت.. الدّائم». متملّصة، غير محسوسة ولا متحقّقة فإنّ عزلة العمل الإبداعي تكمن في كونها ليست سابغة ولا غير سابغة. وفي كتابه الفضاء الأدبي يقول بلانشو: «أن أكتب، فإنّ ذلك يعني أن أكسر العلاقة التي تشدّني إلى الكلام (...)، أن أسحب اللّغة خارج العالم، وأن أخلّصها ممّا يجعل منها سلطة». غير سريريّة، وغير قابلة للانغلاق على ذاتها، تفرز العزلة لغة غير مجزأة، غير مجمّعة، ومع ذلك فهي متعدّدة ومتشظّية: «ليس هنالك من عزلة ما لم تعمل لتفكيك ذاتها، لتكشف المفرد خارج المتعدّد» (كتابة الفاجعة، 1980). وذلك «الجزء من العزلة» التماس لعزلة سابقة لكلّ انعزال، صوت غائب في المجتمع، ولكنّه دوماً مرغوب فيه، طالما أنّ العزلة هي «ذاتها لعموم النّاس، وعند هذا الحدّ.. نحن جميعاً وحيدون حدّ افتراقنا عن بعضنا البعض» (الإنسان الأخير، 1957). وأخيراً، ففي الترقّب والتأخّر، وفي المهلة وفي التّأخير، فإنّ تمثّل العزلة يكشف عند بلانشو عن مواجهة على انفراد مع الموت: «حيثما كنت، في الغياب، في الشّقاء، في حتميّة الأشياء الحيّة، في أتعاب العمل، في تلك الوجوه التي نشأت من فضولي، في كلماتي الزّائفة، في عهودي التي لم أحترمها، في الصّمت وفي اللّيل.. منحتها كلّ ما أملك من قوّة، فبادلتني العطاء ووهبتني كلّ ما تملك، حتّى أنّ تلك القوّة البالغة السّطوة التي لا شيء يفسدها، تجعلنا ربّما منذورين لتعاسة لا حدّ لها، وإن كان الأمر كذلك، فلسوف أتحمّل وزر تلك التّعاسة، وأبتهج لذلك بلا حدّ، لأقول لها دائما أبدا: «تعالي، وهي دائماً.. أبداً.. تمكث ههنا». (أمر بالإعدام، 1948).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©