الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عين الفكر

عين الفكر
27 نوفمبر 2008 01:05
يقول المفكرون من علماء المذاهب الأدبية إن الخاصية المميزة للعصور الحديثة منذ الرومانتيكية هي بروز الذوات الفردية للمبدعين وانتهاء ذوبانهم في الجماعة، ولعل هذا ما يجعلنا لا نجد فروقًا فردية كبرى في رؤية الشعراء العاطفية مع خصوصية تجاربهم ومأساويتها في بعض الأحيان، وتظل فوارق التعبير هي المائزة فيما بينهم، فهذا ديك الجن المشهور بفجيعته في محبوبته يقول مثلاً: أما والذي أصفاك مني مودة وصباكم في حبّة القلب يُغرسُ لئن ظل لي من فقد وجهك موحشٌ لقد ظل لي من طول ذكرك مؤنسُ أناجيك بالأوهام حتى كأنما أراك بعيني فكرتي حين أجلسُ فقد اختار أن يخاطب محبوبته أولاً بصيغة المفردة المؤنثة، وهو يقسم بما أصفاه الودّ منها· لكنه لم يلبث في الشطر الثاني أن ميّع الخطاب بأن جعله للجمع المخاطب وكأنه يحتمي بعباءة القبيلة التي تختبئ خلفها المرأة، ولا نحسب الوزن هو الذي حمله على ذلك، فديك الجن الحمصيّ شاعر قدير بوسعه أن يتصرف في التراكيب، وقد تكون مهابة الحبيبة، خاصة بعد الفقد هي التى جعلته يعظمها بالجمع، لكنه يعود فى البيتين التاليين لصيغة المفردة المؤنثة، وهي الأجدر بالخطاب في سياق تجسيد حضورها الدائم، فهو عندما يفتقد وجهها تنوشه الوحشة ولا يسعفه سوى الائتناس بذكرها· ثم يمعن في هذا التمثيل العيني للحضور بالإلحاح على النجوى في الخيال حتى تنبت للفكرة عيون باصرة في هذا الاشتقاق من البليغ الذي ينفرد به الشاعر: ''أراك بعيني فكرتي حين أجلسُ''· ولا يحسبن القارئ أن جملة ''حين أجلس'' قد جاءت لإتمام الوزن والقافية فحسب، بل هي التي تضفي على المشهد طابعه الحسي المنسحب على الرؤية البصرية للمحبوبة· وتظل فكرة حضور الحبيب الدائم متداولة مشتركة بين الشعراء، وكأنها قد صارت رؤية جماعية تغلف أشد حالات الإنسان خصوصية وفردية؛ فحب الأنثى لا يقبل شراكة الذكور، لكن التعبير عنه يتم عفويًا لدى كل شاعر، فهذا ابن المعذّل يقول في السياق ذاته: ما إن ذكرتك في قوم أجالسهم إلا تجدد من ذكراكِ بلوائي ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا وجدت خيالاً منكِ فى الماءِ ولا حضرت مكانًا لستِ شاهدة إلا وجدت فتورًا بين أعضائي حسبي ودادكِ من خفضي ومن دعتي ومن سروري ومن ديني ودنيائي يتجلى الحضور المتجدد للمحبوب فى هذه الأبيات بأشكال مختلفة وشائقة، فهو يقترن بالفقد والبلوى أولاً، ثم ينعكس فى حالة عطش عاطفي موازٍ للعطش الحسي على صفحة الماء، ثم يسري دبيبًا من الفتور فى الأعضاء عند فداحة الغياب، لينتهي إلى اعتبار الود غاية الوجود في حالات البسط والقبض في الدين والدنيا معًا· ومع ما يتفرد به ابن المعذل فى أخيلته الشعرية واشتقاقاته الطريفة مثل ''دنيائي'' فإنه يلتقي في جوهر موقفه مع ديك الجن الذي كان يرى محبوبه بعين فكره
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©