الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحب والكره بين الأمين والمأمون

28 نوفمبر 2008 01:39
قال الكسائي: دخلت على الرشيد، فلما قضيت حق التسليم والدعاء، وثبت للقيام، فقال: اقعد، فلم أزل عنده حتى خف عامة من كان في مجلسه، ولم يبق إلا خاصته، فقال لي: يا علي؛ ألا تحب أن ترى محمداً وعبدالله! قلت: ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين، وأسرني بمعاينة نعمة الله على أمير المؤمنين فيهما· فأمر بإحضارهما، فلم ألبث أن أقبلا كوكبي أفق، يزينهما هدوء ووقار، وقد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما، حتى وقفا على باب المجلس، فسلما على أبيهما بالخلافة؛ ثم قالا: تمم الله على أمير المؤمنين نعمه، وشفعها بشكره، وجعل ما قلده من هذا الأمر أحمد عاقبة، ولا كدر عليه ما صفا، فقد صرت للمسلمين ثقة؛ إليك يفزعون في أمورهم، ويقصدون في حوائجهم· فأمرهما بالدنو منه؛ فصير محمداً عن يمينه وعبدالله عن يساره، ثم التفت إليّ فقال: يا عليّ؛ ما زلت ساهراً مفكراً في معاني أبيات قد خفيت علي! قلت: أن رأى أمير المؤمنين أن ينشدنيها! فأنشدني: قد قلت قولاً للغراب إذا حجل عليك بالقود المسانيف الأول تغد ما شئت على غير عجل فقلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ إن العير إذا فصلت من خيبر، وعليها التمر، يقع الغراب على آخر العير فيطردها السواق؛ يقول: تقدم إلى أوائل العير؛ فكل على غير عجل· والقود: الطوال الأعناق· والمسانيف: المتقدمة· ثم أنشدني: وإني وإن عشرت من خشية الردي نهاق حمار إني اذا لجزوع قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ كان الرجل من العرب إذا دخل خيبر أكب على أربع، وعشر تعشير الحمار؛ وهو أن ينهق عشر نهقات متتابعات، يفعل ذلك ليدفع عن نفسه حمى خيبر· ثم أنشدني قول الآخر: أجاعل أنت بيقورا مضرمة ذريعة لك بين الله والمطر قلت: نعم، كانت العرب إذا أبطأ المطر شدت العشر والسلع، وهما ضربات من النبت في أذناب البقر وألهبوا فيه النار، وشردوا البقرة تفاؤلاً بالبرق ثم أنشدني لرجل آخر: وسرب ملاح قد رأيت وجوههم إناث أدانيه، ذكور أواخره فقلت: إنه يعني الأضراس ثم أنشدني قول الآخر: فإني إذن كالثور يضرب جنبه إذا لم يعف شرباً وعافت صواحبه قلت: نعم، كانت العرب إذا أوردت البقر، فشربت الثيران وأبت البقر ضربت الثيران حتى تشرب البقر، وهو كما قال: ''كالثور يضرب لما عافت البقر''· ثم أنشدني: بمنحدر من رأس برقاء حطة تذكر بين أو حبيب مزايل قلت: نعم، يعني الدموع· والبرقاء: العين؛ لأن فيها سواداً وبياضاً وحطه: أساله، وحبيب: محبوب، ومزايل: مفارق فوثب الرشيد فجذبني إلى صدره، وقال: لله در أهل الأدب ! ثم دعا بجارية، فقال لها: احملي إلى منزل الكسائي خمس بدر على أعناق خمسة أعبد يلزمون خدمته· ثم قال لي: استنشدها - يعني ابنيه - فأنشده محمد الأمين: وإني لعف الفقر مشترك الغـــــــــنى وتـــــارك شـــكـــــل لا يوافقــــــه شكـــــلي وشكلي شكل لا يقوم بمثلـــــــــــــــــــــــه من الناس إلا كــل ذي نيقــــــة مثلـــــــي ولي نيقة في المجد والبذل لم يكن تأنقها فيمــــــا مضــــــــى أحــــــــد قبـلـــــــي واجعل مالي دون عرضي جنـــــــــــة لنفسي واستغني بما كان من فضلي وأنشدني عبدالله المأمون: بكرت تلومك مطلع الفجر ولقد تلوم بغير مــا تــــدري ما إن ملكت مصيبة نزلت إذ لا يحكــم طائعــــاً أمـــري ملك الملوك عليّ مقتـــــــــــــدر يعطي إذا ما شاء من يسر فلرب مغتبط بمرزئـــــــــــــــــــة ومفجـــــع بنوائــــب الدهــــــــر ومكاشح لي قد مددت له نحراً بلا ضــرع ولا غمـــــر حتى يقول لنفسه لهفـــــــــــا في أي مذهب غاية أجري وترى قناتي حين يغمزها غمر الثقاف بطيئة الكسر ثم أمرني أن أسألهما، ففعلت؛ فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه والخروج منه، فسر بذلك الرشيد، حتى تبينته فيه، ثم قال: يا علي؛ كيف ترى مذهبهما وجوابهما؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ هما كما قال الشاعر: أرى قمري مجد وفرعي خلافة يزينهمــــا عـــرق كــريم ومحتـد يسدان آفاق السمــــــاء بشيمــــــــة يؤيدها حزم وعضـــــب مهنــــد سليلي أمـــــير المؤمنين وحائزي مواريث ما أبقى النبي محمد يا أمير المؤمنين، هما فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت في الثرى عروقه، وعذبت مشاربه، أبوهما ملك أعزّ، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم، فهما يستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته، فأمتع الله أمير المؤمنين بهما، وآنس جميع الأمة ببقائه بوقائهما! فما رأيت أحداً من أولاد الخلفاء وأغصان هذه الشجرة المباركة أذرب منهما لساناً ولا أعذب كلاماً، ولا أحسن الفاظاً، ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا؛ ودعوت لهما دعاء كثيراً وأمن الرشيد على دعائي، ثم ضمهما إليه، وجميع يديه عليهما فلم يبسطها حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره؛ رقة عليهما واشفاقاً· ثم أمرهما بالخروج· فلما خرجا أقبل عليّ، فقال: كأنك بهما - وقد حم القضاء، ونزلت مقادير السماء، وبلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى وقته المحدود، وحينه المسطور، الذي لا يدفعه دافع، ولا يمنع منه مانع - قد تشتت أمرهما، وافترقت كلمتهما، وظهر تعاديهما، ثم لم يبرح ذلك بهما حتى تسفك الدماء، وتكثر القتلى، وتهتك ستور النساء، ويتمنى كثير من الأحياء أنهم في عداد الموتى! قلت: أيكون ذلك يا أمير المؤمنين لأمر رأيته، أو لرؤيا؛ أو لشيء تبين لك في أصل مولدهما، أو لأثر وقع لأمير المؤمنين في أمرهما؟ فقال: لا؛ بل أثر صحيح؛ حملته العلماء، عن الأوصياء عن الأنبياء!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©