الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكر الصورة يزور الحقيقة والوعي

12 فبراير 2006
د· نصر الدين لعياضي:
تعددت وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، وتزايدت معها كمية المواد الإعلانية والإعلامية التي تتطرق إلى جملة من القضايا والأحداث لتغطي مختلف مناحي الحياة: السياسة، الاقتصاد، الثقافة، الرياضة، الترفيه، والصحة، والطبخ، والتجميل، والتعليم، والديكور، والموضة، والألعاب والتسويق· إن طفح هذه المواد قد غمر البصر، ويكاد أن يغمر البصيرة بعد أن أصيب الجمهور بحالة من الدوار وسط دوامة ما يصله من أحداث وأخبار ومعلومات متدفقة في سرعتها الجامحة· ففي ظل هذا الوضع يتراوح الوعي النقدي بنشاط وسائل الإعلام بين الغفوة والاستقالة· ولإيقاظه، وشحذه لا مناص من تبصير الجمهور بقواعد عمل وسائل الإعلام ومراميها ومخاطرها ومنافعها حتى يتمكن من الاقتراب من التأويل الصحيح لما يقرأه أو يراه أو يسمعه·
الواقع البديل
كل المواد التي تقدمها وسائل الإعلام هي نتيجة عملية تركيب و'مونتاج'· إن المادة المقروءة والمسموعة والمرئية التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة هي نتاج نشاط فريق من المهنيين والمحترفين لتحقيق غايات محددة· فحتى الأخبار والبرامج الإذاعية والتلفزيونية تستعمل تقنيات متطورة جدا لدفع الجمهور للاعتقاد بأنها تجسد الواقع العيني، بينما لا تقدم، في الحقيقة، سوى ما يمثل الواقع إعلاميا·
إن الصحافيين، والمنتجين والمصورين، والمخرجين وفنيي الصوت والمختصين في الديكور والسيناريو يشتركون كلهم في انتاج المادة الدرامية أو الوثائقية أو الإعلامية، محاولين، من خلالها، أن يعبروا عن تصورهم للمجتمع، والعلاقات الاجتماعية، والسلطة، والكون، والحياة· فيصوغون تصورهم هذا ضمن أفق أجندة سياسية محددة، ومرجعية ثقافية وفكرية معينة· لعل هذا الأمر يساعدنا في فهم أسباب تباين وسائل الإعلام المختلفة في تناول الأحداث ذاتها·
إن وسائل الإعلام تشبه، إلى حد كبير البشر، لا تقوم سوى بالتقاط الصور وتجميع المعطيات لتعيد ترتبها وبنائها، بشكل يبدو للجمهور أنها تنطبق مع الواقع وتمثل حقيقة الأشياء والأحداث والظواهر· ولا تتردد، في كثير من الأحيان، عن القيام بمسرحة الأحداث والوقائع مستعينة بممثلين محترفين، أو بوجوه تنتقي وتدرب على بعض الأدوار والحركات·
في هذا الصدد ينصحنا عماد خميس مدير إنتاج بقناة 'روتانا'، لوجه الله، قائلا: 'لا تصدّقوا التفاعل المذهل بين الجماهير والضيوف في البرامج الجماهيرية الترفيهية، فكل هذا غير حقيقي!'··· إن مديري إنتاج برامج 'التوك شو' Talk Show، يتفقون مع عدد من مكاتب توريد الضيوف 'الكومبارس' لإحضار الأشخاص الذين تشاهدونهم يسألون، ويصفقون مع الموسيقى، ويرقصون مع من يرقص، ويغنون مع من يغني، كلهم زبائن لمكاتب توريد الكومبارس من إناث وذكور· ولا يستطيع أي منهم القيام بأي حركة في الأستوديو بدون إيعاز من مخرج البرنامج أو مقدمه· قد يقول قائل أن هذا الأمر يتعلق ببرامج الفرجة والترفيه فقط· كلا، يقول المخرج السابق في قناة 'المحور' المصرية مؤمن حسن، الذي شهد عربات شركات الكومبارس 'تحضر' مجموعات من الأشخاص الذين يدخلون الأستوديو قبل تسجيل البرامج الحوارية ليتقمصوا دور الضيوف· فيجلس معد البرنامج مع بعضهم ليعد لهم الأسئلة التي يجب أن يطرحونها، والوقت المناسب لذلك! هل سيحضر هؤلاء إلى الأستوديو للاقتراب من أضواء الشهرة، وللاحتكاك بنجوم الشاشة فقط ؟ إنهم يقومون بذلك، أيضا، مقابل أجر محدد : 50 جنيها مصريا للشاب و100 جنيه للشابة في برامج الرقص!
كما أن التسجيل المسبق لموجة الضحك والتصفيق الجماعيين، وإقحامهما في المسلسلات التلفزيونية تعدان من الحيل التي تستعملها القنوات التلفزيونية للتأثير على ردات فعل الجمهور، والسيطرة على مشاعره·
التأويل
يشترك الكثير من الناس في قراءة الصحف ذاتها، والمقالات عينها، ويشاهدون الأفلام والمسلسلات ذاتها، ويستمعون إلى ذات البرامج الإذاعية، لكنهم لا يفهمون ما يقرؤون أو يشاهدون أو يستمعون بالطريقة ذاتها، وبالتالي إن اسهامهم في إنتاج المعنى مما يتعرضون إليه من مواد إعلامية ليس واحدا· لماذا ؟ الإجابة على هذا السؤال تتعدد وتتنوع لأن هناك جملة من العوامل التي تتدخل في تحديد مسار متابعة ما تبثه وسائل الإعلام من جهة، ولاستيعاب ما يلتقطونه عن طريق الأذن والبصر من رسائل· فالاستعداد النفسي، والتفرغ للقراءة والمشاهدة أو الاستماع، والمستوى الثقافي، والكفاية اللغوية، وامتلاك ناصية فك رموز الصورة الثابتة والمتحركة، والتجارب العاطفية الفردية والجماعية، كلها عناصر تؤثر في شكل تأويلنا لخطاب وسائل الإعلام ومحتواه· يمكن أن نذكر في هذا المقام الدراسة التي أجريت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي على مشاهدي المسلسل التلفزيوني الأميركي الشهير 'دالاس' في أميركا، واليابان، وأفريقيا الشمالية، والتي أكدت الحقيقة العلمية التالية: إن صدى هذا المسلسل ومستوى فهمه يختلف باختلاف الثقافات· ففي المجتمع الأميركي الذي يؤمن بالحرية الفردية، والمبادرة الخاصة فُهم على أساس أنه نموذج للحياة الأميركية التي تنظمها مرجعية تكاد أن تصبح مقدسة، تنسج خيوط العلاقات الاجتماعية· إنها مرجعية حرية الفرد، والملكية الخاصة، والتنافس من أجل الربح والحفاظ على الثروة والسلطة· أما في شمال إفريقيا فقد تم تأويل الفيلم المذكور على أنه ترسيخ للثقافة العربية 'الأصيلة'! كيف ؟ لقد رأى مشاهدوه في هذه المنطقة من العالم أن بطل الفيلم 'جيير' يمثل الفحولة الذكورية العربية، يملك 'حريما' من السكرتيرات في شركته، يغازلهن، ويقيم علاقات مشبوهة مع بعضهن، بينما يرفض أن تقوم زوجته بمغازلة غيره أو يغازلها شخص أخر· أما بطلة الفيلم 'باميلا' فقد رأى فيها المشاهد العربي تجسيدا للمرأة العربية التي ترضى بالعيش مع كنتها داخل أسرة كبيرة، وترفض أن تستقل مع زوجها في سكن خاص بهما· ولم يستسغ المشاهد الياباني هذا المسلسل بعد أن تابع بعض حلقاته، مما أضطر القناة التلفزيونية اليابانية إلى الكف عن بثه·
القيم والصور النمطية
كل وسائل الإعلام، تقريبا، وجدت لتحقيق غاية محددة أو للدفاع عن وجهة نظر معلنة أو متسترة وسط جمهور يفترض أنها تملك تصورا محددة عنه· وفي سعيها لتجسيد هذه الغاية تستعين وسائل الإعلام المختلفة بالصور البلاغية، وأشكال التعبير المجازي، وبالصور المرئية والنمطية، أي كل مكونات الخطاب الإعلامي والثقافي الذي يتكيء على منظومة القيم والقناعات·
لعل هذه القيم والقناعات هي التي تشكل المرجعية الأساسية التي تحرك عملية فهمنا لسلوك البشر ونشاطهم، وتحدد موقفنا منه·
لقد اهتمت منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية في العديد من الدول الغربية، منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بتربية الأطفال المتمدرسين على تعيين القيم والصور الذهنية المدسوسة فيه ثانيا النص الإعلامي أو الثقافي الذي تبثه وسائل الإعلام المختلفة: الأنماط التميزية المناهضة للمرأة، وتلك التي تبرر استغلال الأطفال القصر لأعراض تجارية، والتي تشرع استعمال العنف، أو تحط من قيمة الإنسان ذي البشرة السوداء أو الملونة والتي تنبذ الأجانب، وغيرها من القيم التي تطعن في القناعات الدينية أو اللغوية لهذه المجموعة البشرية أو تلك·
توجد العديد من العوامل التي فرضت على العديد من الدول الغربية الاهتمام بالقيم والصور النمطية التي تنشرها وسائل الإعلام، والتوجه لمساعدة الأطفال في تفكيكها ورسم حدود مخاطرها، نذكر منها: تزايد جبروت وسائل الإعلام وقوتها الدعائية والتضليلية، الرغبة في إدماج الأقليات العرقية والجاليات الأجنبية المقيمة فوق ترابها الإقليمي، وكسب أصوات الناخبين·
لقد برهنت التجارب بأن نجاح مثل هذا الاهتمام مرهون بتعليم النشء الصاعد أسس الخطاب الإعلامي: أي قواعد اللغة التلفزيونية: طرق إنتاج الصور التلفزيونية وشكل عرضها، مكونات الديكور ودلالاته، تضمينات الموسيقى ووظيفتها، طرق المونتاج التلفزيوني ولغته، مبادئ الإخراج التلفزيوني ومفرداته، والمؤثرات الصوتية والمرئية وغاياتها· إن الشخص الذي لا يملك خلفية عن بعض مكونات هذه اللغة لا يدري بأنه يكفي للمصور التلفزيوني أن يغير زوايا التصوير أو يستبدل عملية تأطير الصورة حتى يتغير الواقع الذي تنقله· لقد قامت بعض القنوات التلفزيونية بتصوير سيارة واحدة تشتعل أمام مجموعة قليلة من الناس من زوايا مختلفة، وبتنويع في إطارها فأوحت للناظرين بأنها تنقل مظاهرة صاخبة أحرقت فيها العديد من السيارات! كما أن فقدان الدراية الكافية بطرائق' طبخ' المادة الصحفية، وأشكال الكتابة الصحفية، ومبادئ إخراجها الصحفي لا تساعد القارئ في استجلاء مظاهر التحيز في العمل الصحفي، واستتباعاته على الصعيد الاجتماعي والسياسي·
اليقظة لإيقاظ الحس
لقد أدركت مؤسسات المجتمع المدني في الدول الغربية أن امتلاك الحس النقدي في التعامل مع وسائل الإعلام هو الشرط الأساسي للوقوف ضد تجاوزات بعضها، والوسيلة السليمة للحفاظ على التعددية الإعلامية والسياسية، وتكوين الفرد الحر المدرك لمسؤولياته الاجتماعية والسياسية· لذا وقفت بحزم وراء المطالبة بتشكيل مراصد لنشاط وسائل الإعلام، وتعيين وسيط بين وسائل الإعلام وجمهورها يتكفل بنقل شكاوى الجمهور من هذه الوسيلة الإعلامية وتلك، ورفعها للقائمين عليها، مع نقل ملاحظاته النقدية على ما تنشره أو تبثه وسائل الإعلام المختلفة وإبلاغ الجمهور بها·
وبضغط من المجتمع المدني اضطرت القناة التلفزيونية الفرنسية الثالثة إلى إصدار البرنامج التلفزيوني المسمى 'التوقف عند الصورة' الذي تحول، مع مر السنين، إلى منبر لشحذ النقد البناء والمثمر لما تبثه القنوات التلفزيونية بصرف النظر عن وضعها القانوني، وجنسيتها، ولغة بثها· ففي هذا البرنامج يستضيف مقدمه مجموعة من المختصين الذين يقومون بقراءة الصور التلفزيونية وتفكيكها، خاصة تلك المتعلقة بالأحداث الجارية في العالم، والتي تهم جمهورها· بغية الكشف عن مكر الصور وتضليلها أو دقة تعبيرها ورجاحة رؤيتها·
أخيرا، نتمنى أن يسلك البرنامج التلفزيوني الجديد المسمى 'تي في أف أم'، الذي شرعت القناة التلفزيونية الحكومية السورية في بثه، درب تكوين ذائقة الجمهور، وصقل الحس النقدي برهانات المواد التلفزيونية·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©