الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موريس جار.. شاعر السينما

موريس جار.. شاعر السينما
23 أغسطس 2017 20:47
يصعب جداً في السطور التالية تقصي السيرورة الإبداعية لهذا الموسيقي المرموق، شاعر السينما، فحسبنا أن نمس أهم مرتكزات وخفايا شخصيته الموسيقية، عبر تجربة عريضة امتدت لنصف قرن، قدم للسينما العالمية إبداعات موسيقية لما يقرب من 150 فيلماً، حاز خلالها على 3 أوسكار لفيلم (لورنس العرب - 1962)، (دكتور جيفاجو- 1965)، (الطريق إلى الهند- 1984) والأفلام الثلاثة للمخرج ديفيد لين، فضلاً عن تسعة ترشيحات للأوسكار (واحدة منها على لحن أغنية في فيلم)، ومن أهمها عن فيلم (الرسالة &ndash 1976) للمخرج مصطفى العقاد، و(شاهد- 1985) للمخرج بيتر وير، وهو صاحب نجمة خاصة منحتها له هووليود، وخلدته بها في مدينتها السينمائية، حيث إنه يعد في مقدمة الموسيقيين الذين حصدوا الأوسكار، وكسبوا ترشيحاتها عبر تاريخها، بالإضافة إلى العديد من الجوائز الأخرى البارزة التي حصل عليها مثل جائزة (البافتا) البريطانية عن فيلم (جمعية شعراء الموتى- 1989)، بَيد أن الجائزة تظل مؤشراً فقط على قيمة الفنان، وليست هي قيمته، فهو فنان مطبوع، لا يسعى للجوائز، لكن يسعى لخلود نغماته في وجدان الشعوب، وقد كان.   هو.. (موريس ألكسيس جار) الفرنسي المولود في مدينة ليون عام (1924)، وتوفي في أميركا عام (2009)، والده كان يعمل بالإذاعة، وساعد ابنه في دخول السوربون لدراسة الهندسة، إلا أن حادثاً بسيطاً قلب حياة الفتى، عندما قام أبوه بتشغيل أسطوانة الرابسودي الهنغارية الثانية للموسيقار فرانز ليست، فسمعها الشاب في حجرته مفتوناً، ليترك بعدها دراسة الهندسة، وينطلق في دراسة الموسيقا، ثم يعمل بعدها عازفاً لآلة (التمباني) الإيقاعية، وهو ما سنلمس تأثيرها في أعماله، وقد اختاره الفنان جان فيلار لعمل موسيقا للمسرح الوطني الشعبي، ثم بدأ عمله في السينما عندما أسند له المخرج جورج فرانجو مهمة الموسيقا التصويرية لفيلمه التسجيلي (فندق الإنفاليد -1952)، ثم حدثت طفرة في مساره السينمائي بعدما رأى المنتج الهوليودي الشهير سام سبيجل الفيلم الفرنسي (أيام الأحد بمدينة أفراي &ndash1962) الحائز على أوسكار أحسن فيلم أجنبي، الذي وضع له الموسيقا مؤلفنا بآلتين فقط أساسيتين، فرشحه المنتج ليشارك في عمل الموسيقا للفيلم الضخم الملحمي (لورنس العرب)، مع آخرين من كبار مؤلفي الموسيقا، لكن بعد ظروف خدمت الشاب الموهوب، قرر المخرج ديفيد لين أن يعمل (موريس جار) بمفرده موسيقا الفيلم لمدة ساعتين زمنياً، أي نحو ثلثي زمن الفيلم، فهب الشاب موريس جرياً إلى مسكنه الصغير، في شارع (هاف مون)، ليقرأ أولاً كل ما كتب عن شخصية بطل الفيلم توماس لورنس، في حين يتردد في ذهنه همسة منتج الفيلم له: «أنت أمامك عمل يقوم به سوبرمان»  ملامح شخصيته الموسيقية المعروف أن من أهم سمات إبداعه هو استعماله الحساس للآلات المحلية الموسيقية، من بلاد مختلفة لها علاقة بأحداث الفيلم مثل: آلة (البلاليكا) الروسية في (دكتور جيفاجو)، أو (السيتار) الهندي في (الطريق إلى الهند)، أو آلات (جاميلان &ndash(gamelan الإندونيسية الإيقاعية في أعمال كثيرة، بخيال واسع متنوع في شياكة أوركسترالية يقودها بنفسه، لكن قبل هذا وذاك يظل أهم ما يميز موسيقاه هو (الثيمة) الشديدة الجمال والحنو، وتضافرها مع المحتوى الدرامي للصورة السينمائية في الفيلم، حيث تعطي للصورة بعداً ثالثاً في فضاء إحساس المتلقي، وتلعب دوراً خفياً، للتعبير عن أحاسيس الشخصيات، والمسكوت عنه من علاقات المكان بالحدث، مثل: لحن (لارا) الذائع الصيت في (دكتور جيفاجو)، وثيمة فيلم (الشبح)، ولحن فيلم (هل تحترق باريس؟)، ونهاية فيلم (جمعية شعراء الموتى) مستعملاً آلة النفخ الفلكلورية Bagpipes، للتعبير عن الانتصار النفسي الجماعي، واللحن الناعم للوتريات في فيلم (الطبلة)، تداخله نغمات آلة نفخ سلافية قديمة (الفوجارا) بمذاق لافت، وهكذا، وقد عرّف (موريس جار) الموسيقا الجيدة قائلاً: «هي النغمات الثلاث الأولى من اللحن، ثم بعدها يأتي الإيقاع، فالهارمونيا، وما بعد ذلك، هو مسألة توازن»، فاللحن الجميل الجذاب (luscious) له المقام الأول عنده، مثلما تأثر هو بأول نغمات أستاذه فرانز ليست، ولا شك أننا سنلحظ تشابهات مشتركة اشترك فيها مع أستاذه، ليس فقط من ناحية الاستلهام الواعي من ألحان الشعوب ورقصاتها القديمة، أومن ناحية الانفعال العاطفي التي تزخر بها أعماله، لكن أيضاً لتدفق الإحساس الروحاني الهائم، والصبغة السماوية التي تسري في روح وثنايا التركيب النغمي للعديد من الأفلام الدينية، وغير الدينية التي قدمها للسينما، كذلك لا يفوتنا تأثره الملموس بمنبع فذ، وهو الروسي/ إيجور استرافنسكي، في تفكيره الحداثي، وانفجاراته الموسيقية الإيقاعية اللامقامية، وألحانه الموتيفية غير المكتملة في تعاقب موسيقا لا يهدأ، وكذلك في استعماله أحياناً أسلوب تكرار الخط اللحني (Ostinato)، وقد عمل (موريس جار) بنصيحة (سترافنسكي)، حيث كان يقوم كل يوم صباحاً، كأي موظف روتيني، ليفكر، ويبحث دون ملل، عن النغمات الموائمة للعمل المطلوب منه. وقد ظهر في فترة هوليود الذهبية وسط عمالقة الموسيقا التصويرية، حيث نجد تماساً لأعماله مع بعض أعمال المخضرم مايكل روزا في إيقاعاته الصاخبة، ولحنه الأساسي الخلاب، لكن (موريس جار) كان له ميزة أخرى، وهو تفاعله مبكراً مع الآلات الإلكترونية، فصنع تآلفات نغمية إلكترونية، مع أصوات الأوركسترا الكلاسيكية، في انصهار موسيقي محسوب، وجديد، وملائم لطبيعة الفيلم..(ابنه جون جار.. صاحب أشهر مقطوعات الموسيقا الإلكترونية)...  وفي العموم تصنف موسيقا (موريس جار) على أنها موسيقا وصفية، وتحرك عواطف المتفرج (Evocative) في تماهيه مع نوعية الدراما الهوليودية الأرسطية، وهو نوع من الموسيقا التصويرية الرائجة الناجحة، وإن كان هناك نوعيات ومدارس أخرى في تأليف الموسيقا، كما في السينما الأوروبية، تعتمد على إثارة ذهن المتفرج، أكثر من تحريك مشاعره.. ورغم تعاون مؤلفنا مع أكبر مخرجي السينما من أنحاء العالم مثل: (هيتشكوك، شلوندورف، جون هيستون، زابو، إيستوود، زيفيريللي، كارل رايز، فيسكونتي،...) إلا أن تعاونه &ndash كما ذكر- مع أستاذه ديفيد لين أفاده كثيراً جداً، خاصة في شحذ طاقته المهنية، للسعي دائماً، نحو الاكتمال. بدايات إبداعه منذ فيلمه التسجيلي الأول عام (1952)، سنجد أن الإيقاع هو ما يبدأ به، كعادته بعد ذلك، مع ضربات (التمباني) الذي كان عازفاً له، ويستعمل بوضوح إيقاع المارش العسكري الثنائي، وهو ما سنجده أيضاً، في عدة أفلام كبرى تالية، وقد استلهم مبدعنا من اللقطات الثابتة المكبرة (لأسلحة الحرب القديمة، والأقنعة المزعجة، ومقتنيات نابليون)، بإضاءة خافتة ومقبضة، وقطع مونتاجي صارم، موسيقا أهم مشاهد فيلمه التسجيلي، فكتب نوتات لآلات النفخ النحاسية، والخشبية، لها طابع تعبيري إيحائي، بنغمات حادة متنافرة، كأنها مؤثرات صوتية، وهو ما سنراه بعدها في فيلمه العالمي الأول (لورانس العرب)، إذ أضاف نغمات إيقاعية، تبرز حركة أقدام مواكب القبائل، السائرين في الصحراء نحو الحرب، وفي ذلك الفيلم أهدى لعشاق السينما، تلك (الثيمة) بجملتها الموسيقية الفاتنة، وقدمها بعدة تنويعات أوركسترالية، وآلات مختلفة مثل الهارب (Harb table)، مع الوتريات باختلاف مساحاتها الصوتية، لتعانق برقة مشاعرك، وأنت تتابع بطل الفيلم (بيتر أوتول) بغموض عينيه الزرقاوين، راكباً الجمل نحو ساحل البحر، خلفه كثبان الرمال المتعرجة، وفوقه زرقة السماء يشع وسطها سحر القمر، وهو ما أوحى لمؤلفنا إبداع نغمات (ثيمته)، بعدما رأى نسخة العمل الأولية، فالصورة هي التي تخلق الموسيقا عنده، وليس العكس، كما أحضر آلة إلكترونية (Ondes- Martenot)، لها رنين خيالي شفاف، فاستثمر بعدها نغمات تلك الآلة بإحساس جد مدهش، في فيلم (الرسالة) كصافرة نغمية هادئة الإيقاع، يهز لحنها الشجي من مقام الحجاز على درجة الـ(ري)، وجدان المتفرج العربي والغربي على سواء، حيث تعبر عن روحانية الرسالة النبوية، في مواقف نزول القرآن، وخطب النبي (عليه الصلاة والسلام)، وهكذا...  ومن المعلوم أن حجم اللقطة، وتكوينها، وأداء الممثل هو ما يراعيه المؤلف الموسيقي الواعي، ليكتب بألحانه السطور المخفية التي لا تجدها في حوار الفيلم، لكن تلمحها في عيون الممثلين، أو في درامية المكان، وحضوره المعنوي، فتنهمر، أو تتداعى في تمهل النغمات من صاحبها، لتذكرنا بوصف عباس العقاد لماهية الموسيقا:  «مُعلمة الإنسان ما ليس يعلم، وقائلة ما لا يبوح به الفم.. ويطربه ترجيعها وهي تؤلم».  لكن (موريس جار) لا يريد تطريب أذن المتفرج بالمعنى الاختزالي، فمثلاً: نجد البطل (لورانس) بعد المقابلة الحاسمة مع الأمير (فيصل)، يتجه بمفرده، نحو عمق الصحراء، مع تفكيره في الحروب الجسام التي سيخوضها، فيبعث لنا (موريس جار) شحنة توتر غير زاعقة في خلايا الصورة، تخلقها الوتريات بارتعاشات القوس على الأوتار (التريملو)، مع خبطات إيقاعية خافتة من آلة (الهورن الفرنسي)، وغيرها، دون أن يعطي المشهد طابعاً لحنياً، ليتوافق مع مكونات الصورة، واللحظة الدرامية، ثم ينتقل الإيقاع بنا إلى مشهد آخر، يداعب فيه الأطفال (لورانس)، فتتقافز نغمات لحنية مرحة من البيكولو والفلوت، ثم مساحات صمت لا تتكلم فيها الموسيقا تماماً، فيعود بنا، ليسحرنا من جديد بجمال لحن ثيمته الأساسية، بدخول مقامي متناغم من آخر درجة من لحن سابق، وتلك (الثيمة اللحنية) تصلح ظاهرياً لفيلم رومانسي، وليس لفيلم حروب وقتل، وخيانة، وهي نقطة تؤكد موهبة مؤلفها الموسيقي، لأنه أراد مع المخرج (رغم المغالطات التاريخية في الفيلم)، أن يكشف عن عمق الخط الإنساني، لدراما شخصية (لورانس) الجوانية، وسط مسرح الأحداث الدموي المضطرم، فهي جملة لحنية تعبر عن اشتهاء تحقيق حلم متناه يراوده، ليس غايته النصر العسكري فحسب، لكن غايته الأسمى، تلك النشوة التي تتهادى في حناياه عندما تكاد تعانقه حبيبته، وهي..الحرية!! موسيقى «الرسالة» أحضر موريس جار آلة إلكترونية  (Ondes- Martenot)،  لها رنين خيالي شفاف، فاستثمر بعدها نغمات تلك الآلة بإحساس جد مدهش في فيلم (الرسالة) كصافرة نغمية هادئة الإيقاع، يهز لحنها الشجي من مقام الحجاز على درجة الـ (ري)، وجدان المتفرج العربي والغربي على السواء، حيث تعبر عن روحانية الرسالة النبوية، في مواقف نزول القرآن، وخطب النبي (عليه الصلاة والسلام). ............................................ مصادر: Telegraph: Maurice jarre Le Figaro:le compositeur Maurice Jarre  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©