الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«القندس» قصة رجل يختبئ خلف دمية

«القندس» قصة رجل يختبئ خلف دمية
23 مايو 2011 19:24
كثيراً ما تجري رياح العيش بما لا تشتهي سفن الأماني، فيغدو البحث عن دروب آمنة لاجتياز العثرات المعيقة ضالة الكائن البشري، يلجأ البعض إلى وصفات جاهزة، لكن البعض الآخر يعمد إلى ابتكار وسائل غير مألوفة، الأمر يشير إلى نسق تجريبي في التعامل مع ظواهر تبقى استثنائية بالرغم من كونها فائقة الشيوع، التفاصيل تؤول إلى نتيجة واحدة وإن تعددت بها السبل: ما زلنا، مع كل ما أوتيناه من خبرة وحكمة، تلامذة في مدرسة الحياة، حفظنا شيئاً وغابت عنا أشياء. فخ الاكتئاب في فيلم «القندس»، إخراج جودي فوستر، وتمثيلها مع ميل جيبسون وآخرين، كان لدى والتر «ميل جيبسون» كل ما يطمح له الرجل السوي ليصف حياته بالمنطقية، شركة لصناعة الدمى ورثها عن والده، عائلة مكونة من زوجة محبة وولدين مميزين، وعلاقات اجتماعية ناجحة تمنح الرجل المقبل على المقلب الثاني من العمر ما يقيه شر الوحشة، لكنه يقع فجأة في فخ الاكتئاب النفسي، وهي آفة سيكولوجية يكثر الكلام عنها في زمنا المعاصر المحاط بشتى أنواع التعقيدات المتفاقمة، لكنها تمعن، مع الإفراط في التنظير حولها، غموضاً، وتبدو أقرب إلى المرض العضال الذي يزداد ضراوة بازدياد وسائل علاجه ومكافحته. وداعاً يصاب والتر بالاكتئاب الذي لا تنفع معه وصفات طبيبه النفسي، الدكتور ما يسي، هو يلجأ إلى الأساليب المعتادة: قراءة كتب تحصين الذات، واستخدام العقاقير المهدئة، التي لا يتخطى تأثير بعضها حدود الوهم العلاجي، لكن مأساته تتعقد حتى لا يبقى أمام زوجته، ميريديث، «جودي فوستر» سوى الكلمة المعتادة في هذه الحالات: وداعاً! أما ابنه البكر، بورتر، فتبدو المسألة بالنسبة إليه أشد صعوبة، إذ إنه، إضافة إلى أزمة صراع الأجيال التقليدي، وما تفترضه الحياة نفسها من خصومة بين الابن وأبيه، قرر علم النفس أن النصر فيها يقتضي قتلاً معنوياً للأب، إضافة إلى هذه السمة الصدامية العامة، ثمة خصوصية ناجمة عن كون الأب يعاني حالة متقدمة من الاكتئاب، مما يدفع بورتر نحو حالة حذر مرضية الطابع، تجلت في إحاطته بمختلف السمات السلوكية العفوية المتعلقة بالوالد، مثل عض الشفاه، وفرك الحاجب، وتدوير الفم، وإغماض العين أثناء الكلام، وسواها من تصرفات لا إرادية، جمعها بورتر في أوراق صغيرة ألصقها أمام طاولته، هو فعل كل ذلك بهدف تجنبها، ذلك أنه بحكم كونه ابنا لوالتر، يوجد بديهياً في منطقة الخطر الوراثي والبيولوجي لسلوكه المربك، وأضعف الإيمان أن يحمي نفسه بتفادي العادات الغامضة التي يمارسها أب لا يحظى بقبول ابنه. وحده ابنه الصغير هنري يجد نفسه منجذباً نحو أبيه بالرغم من مشاكله الكثيرة. نحو النهاية هكذا كان واقع والتر عندما رأى نفسه يحمل أغراضه المتبعثرة ليغادر منزلاً عائلياً قرر عدم احتضانه، على طريق مغادرته يتوقف فجأة أمام مكب للنفايات ليرمي الحوائج التي حملها معه، كما لو أنه يرمي معها ماضيا وتاريخاً لم ينصفاه، لكنه يقرر فجأة الاحتفاظ بدمية لها شكل القندس، وهو حيوان قارض يطلق عليه أحياناً اسم الهامستر، يتميز بقدرة فائقة على التكيف مع مختلف الظروف. في شقة مترهلة سيمارس والتر محاولات انتحار شتى دون أن يفلح في إدراك هدفه، وينتهي به الأمر حطاماً آدمياً تحت جهاز التلفزيون الذي حاول إقامة حوار غير ودي مع إحدى شخصياته المستفزة. في عهدة الأوهام يصحو والتر من غفوته فلا يجد بقربه سوى دمية القندس تنظر إليه بعين متهمة، سريعاً ما تنحو الأمور نحو واقع متخيل يستمد تفاصيله من غرائبية الرجل المكتئب، ذلك أن النفس البشرية بحر بالغ العمق يحمل الكثير من فرص الإدهاش، ويمكن لتوغل مدروس في صميم الآفات التي تختزنها تلك الآلية المعقدة أن يبرر الكثير من المستحيلات التي تجد لها مرتعاً خصباً في المخيلة المترامية، وان كانت تضيق بها مساحات العقل المتواضعة. لا يحتاج والتر إلى كثير من الجهد ليتقمص شخصية القندس، يحمله في ذراعه اليسرى، ويجعله ناطقاً باسمه، يستمد منه حنكته وآليات دفاعه المتطورة عن الذات وسط محيط يكن له الكثير من العداء الفطري، القندس يستمد من كراهية الآخرين له مسوغات كثيرة لكي يحب نفسه، ولعل هذا ما كان يحتاجه والتر المقصى عن دائرة مشاعر أقرب المحيطين به، والأهم: هو يحتاج أن يعلن البراءة من ذلك الشخص الذي صاره: رجل هرم مقل في كلامه، دائم التجهم، عاجز عن إدارة شؤونه، ناهيك عن القيام بواجباته.. التنكر للذات كان يحتاج إلى شخصية جديدة تعفيه من مهمة الدفاع عن نفسه، بل هي تتيح له مشاركة الآخرين في إدانة هذه النفس التي كثر سلاخوها، هو يتحرك من فوره نحو منزله العائلي الذي أبعد عنه، ليسلم زوجته ورقة مكتوبة كتب عليها: «هذا الرجل يخضع لإشراف علاجي من قبل دمية، وعليك أن تتفاهمي معي أنا القندس، إزاء إصرار هنري الصغير توافق ميريديث مرغمة، هي تمنح والتر فرصة، تحاول تنشيط ذاكرته عبر استعادة الأيام السعيدة التي أمضياها معاً، لكن القندس يرد عليها من خلال والتر حانقاً: «هذا الرجل لا يعاني فقداناً للذاكرة، بل هو مكتئب»! استقالة الكائن البشري الفصام بصورته الواضحة هو ما يقدمه لنا والتر محتمياً خلف دميته، بعد عودته إلى المنزل العائلي يدعو موظفي شركته إلى اجتماع عاجل، يسبقه توزيع للورقة نفسها التي قدمها لزوجته، وسط ذهول الموظفين يخطب القندس بنبرة واضحة لطالما افتقدها صاحبه: «والتر مدير فاشل، عين مديراً فقط لأنه ابن صاحب الشركة، وليس لكونه أكثر كفاءة من نائبة المدير»! تضحك السيدة المعنية بالكلام بفخر واضح، يتابع القندس: «لذلك قرر والتر الاستقالة من منصبه، وأسند إلي مهمة الإدارة، أطلب إليكم مهلة ثلاثة شهور ومن لا يعجبه الأداء بوسعه تقديم استقالته، وسيقبض تعويضاته كاملة، كما سيحظى بشهادة عمل لا غبار عليها».. وافق الموظفون، وانطلقت عجلة العمل، كان الإنجاز الأبرز لمرحلة العودة دمية خشبية تحمل ملامح القندس ساهمت الغرائبية التي أحاطت بها في الترويج لها، قبض الإعلام على الحادثة وأمعن فيها تشريحاً وتحليلاً، تحول والتر بصورته الجديدة إلى نجم جماهيري، الجميع بات معجباً بهذا الرجل المريض الذي برع في استغلال مرضه، وسيقول القندس لأحد محاوريه في برنامج تلفزيوني ذائع الصيت: «الناس يرحبون بالمصائب شرط أن تصيب الآخرين»! صراع مع الذات كان القندس الذي تقمصه والتر ذلك النداء الداخلي الذي يضج في اللحظات العاصمة بالنفس البشرية، داعياً إياها للتحلل من كل الالتزامات العاطفية حيال الآخرين، ولم تكن تنقصه الحجج والذرائع لتبرير ذلك: زوجة غير متفهمة، ابن لا يحاول إخفاء عدائيته، وموظفون يجدون الحقد على رب عملهم أمراً مشروعاً، بل مطلوباً ربما. كان الظن أنه قد وجد حلاً لمشاكله المعقدة، بل ربما هو برع في إعادة تدويرها ليجعل منها عوامل نجاح مثيرة للدهشة، عندما وجد والتر نفسه يختصم مع القندس الذي استلبه طويلاً، يتطور الصراع نحو صدام جسدي عنيف في تجريد مذهل لحالة الفصام التي يعانيها، تتلاكم الشخصيتان اللتان يجسدهما والتر، لا يعود مهماً هنا ما إذا كان علم النفس يقر هذه الحيثية أم يرفضها، ينتهي الأمر بانتصار والتر، لكنه كان انتصاراً مكلفاً إذ يضطر لقطع ذراعه اليسرى التي خضعت لنفوذ القندس، يعود بعدها إلى حياته الطبيعية، التي لم تصبح كذلك إلا بعد تخلصه من شوائب نفسية عبرت عنها الذراع المقطوعة..
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©