الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكنوز...

الكنوز...
31 يناير 2008 01:14
من الشرق الأقصى والصين والهند وإيران مروراً بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وإسبانيا وبلاد الشام، اجتمعت الملامح البعيدة والرؤى الحالمة لتعيد تشكيل الجسد الواحد في أبوظبي الأسبوع الماضي حيث احتفت بروائع الفن الإسلامي في المعرض الفني ''كنوز من مجموعة ناصر الخليلي''· 500 قطعة انتقيت من 20 ألفاً عبرت الأزمنة والتواريخ والأمكنة لتشكل وجه الإسلام الحضاري· حضارة بعيدة في أفق التاريخ، في الاصقاع النائية، بين سفوح الجبال، في أقاصي الصين والهند وامتدادات الوديان الذاهبة الى البحر، حيث الظلمة جاثمة في العصور الوسطى، تحت حدّ السيف اللاهث·· كان الفنان الإسلامي ينزف رؤيته في حجارة أو رخام أو قطعة من البرونز ليكتب سيرة زمنه وعذاباته وأفكاره· عصور المماليك وآل تيمور والامبراطوريات الباكية على أعتاب التاريخ، تعبر السنوات الطويلة· العثمانيون بخيولهم الأنيقة المطهمة، وسيوفهم اللاهبة، بين آذان الجرود النافرة، والصفويون بألبستهم الحريرية الناعمة بالنقوش الدقيقة، والمغوليون بتروسهم المرصعة وحرابهم الطويلة وحكاياتهم التي لم ينفك الرواة عن سردها للأجيال اللاحقة، والكوجار وهم يشيدون القلاع خوفاً من أعدائهم أو حباً بنسائهم أو هلعاً من الموت والسبي، روائع بغداد، هزة كير الحداد ومطارق الصفارين وانعكاسات شمسها الدافئة على صفائح البرونز، والخانات الرطبة بجدرانها السميكة وبحجارتها الصلدة· تلك عوالم عاش فيها الفن الإسلامي بل خرج منها ليكتب فيها الفنانون الفطريون المهرة تاريخهم، سجل عصورهم في صفحات من نسيج أو خزف أو سجاد أو كتب أو مجوهرات أو رسومات أو منحوتات أو تحف معدنية أو زجاجيات أو مخطوطات·· لتعكس تلك الرؤى المتعددة لقوميات مختلفة فكرة واحدة هي التوحيد في الإسلام· من العالم إلى أبوظبي تحت شعار ''إن الله جميل يحب الجمال'' قدمت روائع مجموعة الخليلي نفسها في قصر الإمارات بأبوظبي الأسبوع الفائت في احتفالية مهيبة بالتراث الإسلامي، حيث كانت أروقة القصر بحداثتها المعمارية البديعة وبرخامها ذات الزخرفة الإسلامية تتناغم مع المنمنمات الزخرفية والتصويرية من عصور غابرة جاءت مجتمعة في عاصمة الثقافة العربية والإسلامية والعالمية·· أبوظبي· سماها العرب فن تصوير المنمنمات لدقتها ولبعد تفاصيلها ورقة حواشيها ولتجسيمها الأخاذ لأبسط الجزئيات من الفسطاط ومن تبريز وبغداد حتى الشام جاءت المنمنمات لتحكي قصصاً وتصور مشاهد لحكايات غريبة· حكاية ليلى ورفيقاتها في الحديقة لوحة من زمن الهند المغولية والأمير والأميرة في نزهة بالريف حكاية أخرى تعود الى ''ميركلان خان'' في الهند المغولية والأمير أعظم شاه في رحلة صيد وتحته فيله الجاحظ العينين وهو يصوب النار الى أسد لم يظهر منه سوى الوجه، عمق اللوحة أخضر وحركة القدمين الأماميتين للفيل تدوس حيواناً آخر· قيل ان أقدم تصوير إسلامي وصل الينا، هو رسم تخطيطي ملّون لمسجد على الرق يعود تاريخه الى نحو 715 م عثر عليه في صنعاء بين صفحات من مصاحف قديمة· ومنذ أن وضع كتاب ''كليلة ودمنة'' خصيصاً للحاكم الساماني ناصر بن أحمد في سمرقند خلال القرن التاسع ومقامات الحريري والقصة الرومانسية ''ورقة وكلشاه'' التي صممت في قونيه نحو 1225م بدأ الفن التصويري يأخذ طابعاً حكائياً· ورقة وكلشاه لا تزال في مكتبة طوب قابي سراي في اسطنبول تحمل توقيع ''عبد المؤمن الخوي''·· حيث الصور البشرية والحيوانية تحكي قصة العاشقين ومأساتهما· في العصر المملوكي ظهرت نسخ مع الصور المزينة من كليلة ودمنة ومقامات الحريري ومن كتاب ''الفروسية'' ومن ''عجائب المخلوقات'' للقزويني كانت قد نقشت من أصابع فنان دمشقي· كتاب الملوك بلغ فن تصوير المنمنات مستوى عالياً من الرفعة إبان العصر الايلخاني ولا سيما في عهد كل من غازات خان 1295 ـ1304 وأولجايتو وابي سعيد حيث تميز الايلخانيون الذين حاولوا اضفاء الشرعية على حكمهم في إيران بالاهتمام بالكتب التاريخية الضخمة تحت وصايتهم· أما ''كتاب الملوك ـ شاهنامة'' الملحمة الشعرية للفردوسي فقد لاقت رواجاً كبيراً·· وقصة ''شاهنامة ديموت'' كان تاجر يدعى ديموت امتلك هذه المخطوطة المذهلة بكاملها حتى وقعت بيد أحد المشترين المتأخرين فقسم أوراقها منفردة وباعها الى عدد من المتاحف· قوة تعبيرية وألوان خفيفة وخلفيات بلا صور تلك هي سمات مخطوطة ''جامع التواريخ'' التي ألفها وأمر بتصويرها الوزير الايلخاني المؤرخ رشيد الدين في 1314 ولو نظرت الى لوحتي بستان ''جيتافانا'' و''يونس والحوت'' لبدا لك اللون وانحناءه جذع الشجرة وعروقها النافرة· وحزن يونس واطباقة فم الحوت وهيجان البحر وجلال الكون في الأعماق في حركة تعبيرية مذهلة· في عهد السلطان أحمد جلاير بدأت الكتابة الشعرية والصوفية وفن التصوير تمتزج ببعضها البعض وهنا انتقل عهد المنمنات ليتشابك مع الحروفية العربية والفارسية وكأن الصورة والحرف كلاهما يحكي قصة· في شاهنامة وكليلة ودمنة تجد الأحداث صارخة ومئات السنوات مختزلة في لوحة انتهاء سبع سنوات من المحل في عهد فيروز شاه، وبهرام غور يعين أخاه ناسي نائباً على خراسان· اغتيال سيافوش التي كلف تصويرها لمكتبة الوزير الانجوي حجي قوام الدولة والدين حسن مناظر ومشاهد فخمة للصيد· تشتبك الطبيعة في غاباتها وسهولها وغزلانها وطرودها بالرماح والسهام·· حكايات البساط السحري والعمائم ذات الريش المهفهفة البيضاء فوق الرؤوس والجبة الموشاة بالزخرف الحريري اللامع ورؤوس الخيول البيضاء والتلال المبعثرة بين اللوحة والعاشقين البعيدين في الزاوية البعيدة· غلبة اللون الأحمر على ريشة الفنان كلها عناصر تحكي قصة لتمنح البهجة للناظر·· الأجساد والوجوه ولم يفت الفنان الإسلامي ان يصور جماليات الجسد الآدمي في حركته الآسرة وبكاء وفرحاً ورقصاً بل صور الوجوه ''بورتريه'' وهي تتأمل الفراغ من أجل ان تبقى خارج الزمن والتاريخ· داخل الزمن والتاريخ ''الدرويش غياث'' لوحة رسمت على يد الرسام رضا عباسي ·1625 غياث بيده الممتدة بغصن يحمل أوراقاً ملونة، لمن تمتد هذه اليد؟ انحناءه الظهر وحزام البطن بعقدته الكبيرة وبتأمل العينين الصغيرتين المفتوحتين وبالجبة الحمراء الفاقعة وبجلال الرداء الأخضر الذي يغطي الظهر والكتفين·· ثمة كتابة بالفارسية عند زاوية اللوحة السفلى يميناً وتوقيع الرسام ليؤرخ التاريخ ضد التاريخ· ''سيدة الأرجيلة'' لوحة أخرى للرسام محمد قاسم البتريزي بدت فيها الألوان الرصاصية أكثر بهجة والوشاح الأبيض المنسرح خلف الظهر اكثر دقة والطبيعة بأشجارها وزهورها الصغيرة محتفية بالمكان والسيدة تمد يدها حاملة الأرجيلة الصغيرة·· لمن تمد يدها؟ هي تتأمل بوجهها المتسامح وكفها الأخرى تحمل كوباً من الزهور تتوزع باتقان واضح حول جبتها وصورة وجه لفتاة أخرى لا تزال هناك عند قعر الارجيلة ربما تحكي قصة أخرى رسمها صانعها لوحة في لوحة واشجار بعيدة في أعلى لوحة ''سيدة الأرجيلة'' تشير الى عالم بعيد· صور البورتريه لها حكايات ''فتح علي شاه'' بنظرته المتأملة والقاسية وبجوهرته أعلى الرأس وبلحيته الكثة وبالأوسمة واللؤلؤ كلها مجتمعة في ''بقشة'' ملمومة من الأعلى بوردة· كأنها قطرة الماء أو هدية تحمل ثروة·· صورة أخرى لحسين علي خان للرسام أبي الحسن الغفاري بدا فيها علي خان في كامل قوة شخصيته وهو يحمل القرآن الكريم بين يديه المضمومتين معاً وجبته المنتفخة تمنحه هيبة تدل على الثراء· امتاز تصوير المنمنمات بالهند الإسلامية بالدمج الرائع بين مختلف الثقافات الإسلامية ومع ظهور ''حمزة نامة'' و''باد شاهنامة - كتاب ملك الملوك'' و''أكبر نامة'' بدأت المنمنمات تحكي وتروي·· لوحة بهرام خان حين ينحني اجلالاً لهمايون من نسخة اكبر نامة احتشاد لوني ومستويات ثلاثة للوحة يبدو ان المساحة في اللوحة لا تسع الحكاية فيقسمها الفنان الإسلامي الى مستويات عدة ليستكمل حكايته فيها· صورة ''الجن'' وهو يدمر معسكراً للعدو من نسخة حمزة نامة· كل شيء يختلط فيها·· الوجوه المستفزة والرعب وطالبو الغوث والدمار والفزع والقباب في حكاية لا تعرف بدايتها ونهايتها· ظهرت ''بابرنامة'' و''باد شاهنامة'' فكررتا هذا الاختلاط العجيب في اللوحة تبعاً لحكايتها وتعدد المستويات حسب قصتها وكأنها بذلك تعيد تشكيل الفن الإسلامي الفارسي في مشهد صيد من بابرنامة في الهند المغولية وفي ''شاه جهان يراقب مصارعة الفيلة'' من بادشاهنامة ترى ذلك بوضوح· أما ''ديوان حافظ'' فقد حفل بصور نسبت الى محمد نادر السمرقندي ففي صورة منه باسم ''يوسف جالس في حديقة'' ترى جلال اللون الأبيض الحليبي منسرحاً مع الجدران ليقابله اخضرار الاشجار المزهرة ويوسف العاشق متأملاً ربما يروي اشعار حافظ· وبالرغم من ظهور ''فالنامة ـ كتاب العرافة'' في جلكندا الا ان النمط الإسلامي لم يتغير في اعتماد مستويات الرؤى في الصورة ففي لوحة اسراء النبي محمد صلى الله عليه وسلم وركوبه البراق الى المسجد الأقصى نجد السماء المكتظة بالملائكة في الأعلى والمسجد الأقصى في الأرض حين نزوله الكريم·· احتشاد لوني في السماء واحتفال سماوي في الكون والمسجد الأقصى يبتهج حاضناً الآتي من سماء الله الرائعة·· مشاعر لفنان إسلامي قادته فطرته الإبداعية لأن يعبر عن مكنوناته أراد ان يستعيد لحظة ماضية ليبقيها لحظة أبدية· لوحات من عمق تاريخ الإسلام اضاءت سماء وجدران قصر الإمارات واحتفي بها احتفاءً بالإسلام وبكنوز تاريخه العظيم··
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©