الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمجد ناصر: مشيت في طريق بلا علامات

أمجد ناصر: مشيت في طريق بلا علامات
31 يناير 2008 01:17
شاعر أردني من أوائل من كتبوا قصيدة النثر في الأردن، أصدر مجموعته الأولى ''مديح لمقهى آخر'' (1979) مع بدايات رحيله إلى بيروت التي ظل فيها حتى العام 1982 مع الحصار الشهير، انتقل منها إلى قبرص، ومنها إلى لندن، أصدر حتى اليوم ثماني مجموعات شعرية وكتابين نثريين، وترجم الكثير من شعره إلى لغات عدة· بمناسبة صدور كتاب مختارات ''جاز صحراوي'' مع رسومات من فنانين أردنيين، وهي التجربة الثالثة بعد أن كان كل من ضياء العزاوي وفوزي الدليمي استلهما قصائده في أعمال فنية، كان هذا الحوار المتناول لتجربته مع الغربة والاغتراب: بداية من ''جاز صحراوي'' المختارات التي تكاد تلخص ـ وأؤكد على تكاد ـ رحلتك الشعرية على مدى ثلاثين عاماً·· جاز الغربة والتغريب ولكن أيضاً الانفتاح والحرية، وصحراء الدفء والذاكرة ولكن القيد والتخلف، إلى أي حد هذا صحيح وهل هذا ما أردت أن يشكل مكونات الشاعر في هذه ''المختارات'' أولا ليست هذه مختاراتي أنا، بل هي قصائد اختارها الفنانان التشكيليان الأردنيان محمد العامري وحكيم جماعين من أجل مشروع تشكيلي عملا عليه· واضح من اختياراتهما أنهما ركزا على ''الثيمة'' الأردنية، أو الصحراوية تحديداً· ولو أنني أردت أن أختار مختارات شعرية (وقد فعلت في أثر العابر التي صدرت في القاهرة قبل خمسة عشر عاماً) لأخترت ربما قصائد أخرى، أو نسقاً آخر من مجمل أعمالي· كانت هناك فكرة في ذهن العامري وجماعين وقد عبرا عنها على نحو رائع في أعمالهما في اللوحة والغرافيك·· وهكذا اكتسبت القصائد المختارة معنى آخر عندما وضعت في سياق ''ثيمة''· فقد صارت لها ''نكهة'' أردنية إن جاز التعبير· هناك حوار تشكيلي مع قصائدي في ''جاز صحراوي''، وهو حوار جميل وخصوصاً عندما ترى الأعمال كلها على الطبيعة لا في هذا الكتاب الذي لم ينصف اللوحات من حيث التنفيذ· لاحظت استلهاماً مستقلاً ومتفاعلاً من قبل هذين الفنانين الصديقين· فالنص التشكيلي مستقل، بالضرورة، عن النص الأدبي· هناك طبعاً هجس بالغربة حتى في ''النص الأردني''· الغربة، أو الاغتراب بالمعنى الوجودي للكلمة، ليس بالضرورة أن تكون ثمرة المكان الغريب· قد تحصل في ''المكان الأول''· الأنا المتعددة ألا يبدو لك الأمر جمعاً بين نقيضين ربما لا يلتقيان إلا بصعوبة، أم أن هذين النقيضين يجتمعان في داخلك وقد بت تتعايش معهما بكل ما يعنيه كل منهما بالنسبة إليك كيف هو هذا التعايش، وماذا يمثل لك شعرياً وثقافياً بشكل عام نحن نجمع أكثر من أمر وطريق وفكرة فينا، حتى عندما نظن أننا على قدر كبير من الاتساق والانسجام مع الفكرة والواقع· هناك دائماً أكثر من واحد داخلنا، أكثر من شخص، وربما أكثر من فكرة وشعور· ليست الأمور صافية أو مرسومة بالأسود والأبيض لكي يكون التناقض بين الأشياء، أو داخل النفوس، نموذجياً· ليس هناك تناقض أو صراع نموذجي· هناك صراعات ومتناقضات عدة تحكم نظرتنا إلى العالم وسلوكنا فيه· قد ندعي العكس· وقد نحرص على أن نظهر للآخرين تماسكنا وانسجامنا وعدم إظهار ''ثغرات'' في تلك الأعماق السحيقة· ولكن وقفة متأملة وصادقة مع الذات تؤكد لنا أننا لسنا كذلك· إن هناك مشاعر وأفكارا تحتدم وتصطرع في دواخلنا· لم أعد أؤمن بهذه القسمة الحادة لعالم الأشياء والمشاعر· كما لم أعد مطمئناً إلى قدرة الفكرة على توحيد الأعماق ومسح نتوءاتها· بهذا المعنى أصبحت أقر بوجود تناقضاتي وأتعلم التعايش معها· وهذا ليس أمراً هيناً ولا سهلا· إنه من أصعب الأشياء أن تعترف بأنك تعيش تناقضاً وتتصارع داخلك أكثر من ذات واحدة، وأن اسمك لا يكفي وحده لتعريفك والدلالة عليك· ليست هناك فكرة قادرة على اختصارنا مهما عظمت هذه الفكرة، مثلما لا توجد قصيدة قادرة على اختصار الشعر، ولا قطرة قادرة على اختصار الماء أو تعريفه· الحرية المرعبة أود لو تحدثني عن مشاعرك في بدايات تغربك وترحالك، وهل كنت تشعر أنها ستمتد كل هذا الزمن الذي استغرق أكثر من نصف حياتك في البدء كان الاندهاش بعالم مختلف عما عرفت في الاردن· فبيروت السبعينات لم تكن تشبه عمان في شيء· كانت مساحة حرية أكبر مما تحتمله الحالة العربية· وربما حالة فوضى أيضاً· وأحيانا تختلط الحرية بالفوضى حتى ليصعب التفريق بينهما· حدث شيء كهذا في بيروت· لا أخفيك أنني كنت خائفاً ومندهشاً في آن، كنت خائفاً لأنني أدخل عالماً لم أعهده من قبل، وأقبل على حرية لم أكد أصدقها، ومندهشاً لأن هذه الحالة كانت أشبه بحلم يقظة لفتى في الحادية والعشرين من العمر· أن تكون في المدينة نفسها التي يوجد فيها أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وأنسي الحاج وخليل حاوي ومعين بسيسو· إمكانية أن ترى هؤلاء وأن تحسب على ساحتهم ليسا بالأمر البسيط لشاب قادم من عمان التي لم تكن تصلها أغلب المجلات، ناهيك عن الكتب التي تضرب صفحاً عن الرقابة والخطوط الحمر· كنت خائفا لأنني في مدينة لا أعرف فيها أحداً ولا يوجد سند لي فيها لا أقارب لا جيران لا معارف· كل ما كنت أحمله عندما وصلت إلى بيروت رسالة توصية من الياس فركوح، الذي عاش في بيروت قبلي، إلى احد المسؤولين الإعلاميين في الإعلام الفلسطيني الذي لم يهتم أصلا لأمري· كان ذهابي إلى بيروت واستقراري فيها ترجمة لحلم يقظة حلمت به في الزرقاء التي عشت فيها مراهقتي، وعرفت على أرصفتها وبين مقاهيها الطريق إلى الكلمة، ودندنات الشعر الأولى· يربكني أن الأمر حصل هكذا: كنت أحلم بغياب سلطة الأب، وسلطة الدولة، وسلطة المواضعات الاجتماعية المتخلفة الخانقة، أحلم بفوضى، بمواضعات اجتماعية من نوع مختلف، وعموماً كنت أحلم بعالم يشبه عالم الحلم نفسه، فوجدت نفسي أغادر ذلك القفص الذي يسمى العائلة والحارة والنظام الصارم الذي يتسلط على الأنفاس وهي في الصدور· فرحت وفزعت أن ذلك تحقق بسرعة· وبسرعة حصل كل شيء في حياتي، حتى كأنها سلسلة من القفزات· طبعاً لم أكن أتصور أن ذلك الخروج السريع المرتجل من عمان سيمتد كل هذا الوقت، أكثر من ثلاثين عاماً، وأنه سيأخذني إلى أمكنة لم تصلها حتى أحلام يقظتي· لا أعرف، الآن، إن كنت سأختار الطريق نفسها التي اخترتها، لو أنني عرفت أن خروجي سيكون بلا نهاية، وستكون له كل هذه الأكلاف التي يدفعها من يمشي في طريق بلا علامات· وطن الضرورة بين الحنين إلى الوطن وشعور الغربة فيه، استطعت أن تجعل من شعرك وترحالك وغربتك وطناً بديلاً، إلى أي حد يبدو لك هذا الوطن بديلاً حقيقياً قادراً على منحك ما حرمت منه في الوطن الأول، الذي لم يبق منه ربما سوى ما ظل في الذاكرة لا تصنع القصيدة مكاناً بديلاً إلاَّ من قبيل المجاز· ولا تعوض الكلمات حياة من لحم ودم ورائحة وقوام مهما كانت قوية ومعبرة· ذلك ما عرفته بعد وقت طويل على انخراطي في الكتابة· القصيدة صارت عندي ''وطناً بديلاً'' لأنني منعت من الوطن نفسه لوقت طويل، ثم عندما أمكن لي أن أعود إليه وجدته مختلفاً، لا يشبه ذلك الذي حملته في الذاكرة· لا شيء يبقى كما هو، التغير يعصف بالأشياء في حضورنا وغيابنا ولا ينتظرنا أحد عند النقطة التي غادرنا فيها الأمكنة والأشخاص· لا أحد ينتظر، إذ ليست هذه من طبيعة الأمور· أنا تغيرت أيضا، وربما تغيرت كثيراً على عكس ما تقوله القصيدة أحياناً· طبعاً هناك أشياء تبقى وتصمد ولكنها لا تكفي كي نعود بالحياة إلى الوراء أو نجمدها في لقطة أو صورة ثابتة· إنه من قبيل المجاز أو العزاء القول إن القصيدة تشكل وطناً أو مكاناً بديلاً للمكان الحقيقي· أظن أنني لم أعد أعرف ما هو المكان الحقيقي· فلا عمان ظلت مكاناً حقيقياً بالنسبة لي ولا لندن صارت كذلك· أشعر أنني انتظرت طويلاً أن يحصل شيء ما· ولكني الآن لا أعرف، بالضبط، ماذا أنتظر· تحلو للذاكرة أن تتصور بيروت مكاناً حقيقياً، ولكن بيروت لم تكن، في الواقع، سوى حلم يقظة طويل بعض الشيء· لكن هذا الحلم يراودني دائماً· أقيم ولا أعيش هذا الترحل والتغرب أخذ منك الكثير، لكنه في المقابل أعطاك الكثير، فماذا أخذ وماذا أعطى وإلى متى يستمر، أما من ''عودة''، وأقول ''عودة'' وفي ذهني أن مفهوم العودة نفسه يمكن أن يكون قد تغير لديك بعد أن أقمت بيتك ووطنك في قصيدتك كأن ''عودتي'' صارت زيارة· هي في الوقع كذلك· ولا أفعل هناك عندما أعود إلا ما يفعله الزائر أو السائح· المشكلة أنني لا أبقى ولا أعود· البقاء يعني الاختيار الواعي عن سبق إصرار وتعمد كما يقولون، وأنا لم أختر تماماً وجودي في لندن، كنت أظن أنني لن أمكث فيها إلا قليلاً مثل كل الأمكنة السابقة التي أقمت فيها، ولكن هذه الإقامة المؤقتة طالت أكثر مما حسبت ولم تتحول الإقامة عيشاً فعلياً، إذ إنني لا أفعل ما يفعله الذي ''يعيش'' ويرتبط بشكبات الحياة ونسيجها الاجتماعي والثقافي· ولا أعود نهائيا لأنني لم أعد أعرف المكان الذي أعود إليه· ربما يختلف الأمر لو أنني تمكنت من البقاء في الأردن فترة أطول مما يحصل في الإجازات· لست متأكدا من ذلك· المشكلة أنني مؤمن على نحو مزعج بنبوءة كافافي في قصيدته الشهيرة ''المدينة'' التي يقول فيها إن الخراب الذي يحصل في مكان بعينه يرافق المرء دائما وفي أي مكان حلّ· أرغب فعلاً في العودة إلى العالم العربي والاستقرار فيه، لكننا عندما نمكث في مكان، حتى وإن كان مؤقتاً، لا نستطيع بسهولة أن نتخلص من شبهة ''الاستقرار'' التي نشعرها فيه عندما يطول هذا المكوث· ما يعزيني أنني منشبك بالعالم العربي تماماً حتى وأنا بعيد عنه جغرافياً· أزعم أنني أقوم بعمل شيء ما من خلال عملي الصحافي ومن خلال كتاباتي· فلندن التي أقيم فيها هي لندن عربية، بمعنى أن عملي هو في صحيفة عربية، وزوجتي عربية ومحيطي الذي أتحرك فيه عربي، مع أنني أحاول، بين حين وآخر، اختراق هذا ''الغيتو'' من خلال المشاركة في أنشطة ثقافية مع البريطانيين أو الأوروبيين·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©