السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة ذاتية لمدينة لبنانية

سيرة ذاتية لمدينة لبنانية
31 يناير 2008 01:26
صدرت في القاهرة طبعة شعبية من كتاب ''يوم الجمعة·· يوم الأحد'' وهو مقاطع عن سيرة مدينة على البحر المتوسط وهي طرابلس في شمال لبنان، والمؤلف هو الباحث خالد زيادة صاحب عدد من الدراسات المهمة في التراث الإسلامي والعربي· الكتاب رصد للنمو والتحول العمراني للمدينة خلال العصر الحديث، وما يحكيه المؤلف ليس وقفاً على طرابلس فقط، بل حدث في كثير من المدن العربية، التي اتجهت إلى التحديث، بهدم المباني القديمة، وإقامة مبانٍ حديثة· ويقول المؤلف: ''كأن التحديث لا يتم إلا بالثأر من القديم''· ويعود التحديث في طرابلس إلى العهد العثماني، حين عين ''مدحت باشا'' والياً على سوريا، وكان من المؤمنين بالأفكار الدستورية ومن الساعين إلى تحديث الدولة العثمانية، وزار مدحت باشا مدن ولايته وناشد الأهالي إقامة مبانٍ جديدة، وفي تلك الفترة أقيم في طرابلس مسجد وحديقة عامة، ومبانٍ أخرى، مثل مبنى الساعة (1898) الذي أقيم بمناسبة مرور ربع قرن على تولي السلطان عبدالحميد الخلافة· ''التحديث العمراني'' آنذاك لم يكن عثمانياً فقط، بل كان هناك الأوروبيون حيث أقيمت المدارس الإرسالية التي بنيت خارج حدود المدينة القديمة وعلى تخومها أو في حارة النصارى وكانت هناك مدارس للطليان وأخرى للأميركان وللروس وغيرهم، لكن أكبر عملية تحديث تمت في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي· وفي ظل الحماس الشديد للعروبة، مالت مدينة طرابلس إلى التخلص من تراث بدا لها بعيداً جداً ومغرقاً في القدم· وتقرر هدم المنازل المحيطة بالنهر لتوسيع مجراه، وإقامة كورنيش على حافته، فأزيلت منازل وحمامات وأحياء عمرها من ستة إلى ثمانية قرون من الزمن، ونشطت الجرافات التي مزقت وسط المدينة القديمة، وقيل إن جرافة تعطلت لأنها لامست قبر ولي، وحافظ التخطيط على المسجد النهري، وعدا ذلك فإن عمليات الهدم لم يثر في وجهها اعتراض· نحن لسنا بازاء سيرة معمارية للمدينة بل نتابع مدى ارتباط المعمار بحال الناس والمجتمع أو انعكاسه عليهم وفي الحارة القديمة هناك تعامل خاص، الصبية يلعبون بلا خوف أو حذر، والفتيات داخل البيوت، هكذا منذ البداية، وهناك أمان كامل في الحارة، لا تمر بها سيارات ومن ثم لا تنزعج الامهات، يتركن الأطفال، ويمكن لأي جارة أن ترعى الأطفال وأن تهتم بهم، وفي هذا العالم يدخل الليل مبكراً وينتهي كذلك، يبدأ مع أذان المغرب وربما العشاء وتصبح الحارة ظلاماً دامساً، ويؤوي الجميع إلى بيوتهم، ومع أذان الفجر، يكون انتهاء الليل ويخرج الرجال إلى الصلاة ثم إلى أعمالهم ولكن مع الحداثة سوف يتغير هذا الطابع، لن يبدأ الليل مبكراً فسوف تتم اضاءة الحارة والشارع، ويعني هذا أن يسهر الناس، وكذلك لن ينتهي الليل مع أذان الفجر، بل يمتد إلى حين ظهور الصباح، ومع التحديث يظهر جهاز الراديو الذي يحطم الفواصل بين الأجيال، وتستمع ربات البيوت والفتيات داخل المنازل إلى مسلسلات مصرية تتناول الحب بين الرجل والمرأة وطريقة التعامل بين الأزواج، و يصبح بمقدور النساء والفتيات الخروج من المنازل· ويقول المؤلف: في المدرسة كان الأساتذة من أبناء طرابلس من الطبقة ذاتها ونستطيع أن نتبعهم عند الانصراف لنتعرف إلى منازلهم القريبة، وأهلنا يعرفونهم·· ومع هذه المعرفة أو تلك القرابة كما يمكن أن نسميها كان هناك شيء آخر غريب ''قسوتهم المنهجية كانت تبدو من زمن آخر أو عالم آخر· فقد كان ثمة شيء من الماضي العثماني في ملامح بعض الاساتذة''، وبين هؤلاء الأساتذة واحد ''ما كان من حينا ولا من مدينتنا وفوق ذلك كان مسيحياً'' هو أستاذ اللغة الفرنسية، كان يرتدي على الدوام سترة سوداء والقميص الأبيض له ياقة غريبة، وكان متديناً شديد الطيبة ''لكنه أصيب بالذهول حين برز في الساعة الثانية والنصف صوت المؤذن، فنهض جميع التلامذة في الصف نهضة رجل واحد، ورفعوا سبابتهم وتشهدوا بأصوات منخفضة، كانت تلك طريقتنا لنعلن للأستاذ اختلافنا عنه وكان على الأساتذة المسيحيين القلائل أن يقبلوا ذلك عند صلاة الظهر في فترة الدراسة الصباحية الأولى أو عند صلاة العصر في فترة الدراسة الثانية، ولكن تصرفاً مماثلاً، ما كان يجرؤ عليه الطلاب لو كان الاستاذ في القاعة من أبناء ملتهم ودينهم·· ويضيف: أبناء الأرياف وأبناء المدينة كانوا نموذجاً للاختلاط الإيجابي الذي لا يعرف التمييز ولا التوتر، وفي هذا الجو وفي المدرسة الجديدة كانت هناك إجازة يوم الجمعة وإجازة يوم الأحد كان التلاميذ يحصلون على اليومين، ويستمتعون بهما·· مازال المؤلف يذكر حين يذهب إلى المسجد يوم الجمعة، وما ان يرتفع صوت المؤذن، حتى تصمت كل الأصوات في السوق والشارع، أو على الأقل تخفت، وفي يوم الأحد كان يتأمل طقوس ذلك اليوم التي لا يمارسها، لكنه كان يستمتع فيه بالذهاب إلى السينما·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©