الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غريب كيف أن كل ما تبقى من المدينة: البحر والقطط؟

غريب كيف أن كل ما تبقى من المدينة: البحر والقطط؟
31 يناير 2008 01:31
ينكسر الحلم حين تنفض يديك من كل الأحلام التي خبأتها بين دفتي مدينة، تكوّم المفاهيم والمثل والأخلاق الحميدة في أقرب حاوية للنفايات، تبدأ تقتل وتسرق وتخون لأن في الحسابات الشخصية أكثر من رغبة بالانتقام، لاحقاً تعتذر من الرفاق الذين استحالوا مجرد صور عالقة على الجدران، تحزم أمر الرحيل الى حيث بلاد الله الواسعة، لكن الوطن ضيق الى حيث يلفظك باختناق، تغادر متأبطاً طائرة تسابق أزرق البحر الى فضاء يكون رحباً· وعند ارتفاع أكثر من ألف قدم، ثمة رغبة ملحة بالصراخ، تصرخ بأعلى رغبة: ''خلص''· مثلك يصرخ مخرج الفيلم برهان علوية بعد يقين بأن البحر والقطط وحدهما من سكان بيروت اللذين لم يتبدلا، وحده شاطئ البحر ما تبقى من بيروت اليوم، هناك يجلس علوية· يكتب: ''غريب كيف أن كل ما تبقى من ذاكرة المدينة جلسة في مقهى''· يحاور ''خلص'' جيل الحرب الذي هلك تحت أنقاض عقائد لا تقوم الا على قاعدة الغاء الآخر، بعض ذلك الجيل عثر على جثث مقاوميه بين أنقاض الدشم والأبنية المحترقة، وهناك من اعتزل النضال بعد أن خذلته الصور التذكارية، والمصافحات بين زعماء الحرب ''اللدودين''، جاء الاعتزال على هيئة انسحاب خافت الى رصيف الحياة،الهجرة أو الانتحار، وفق هذه النتيجة المخيبة، يحمل الفيلم الكثير من التعاطف والود الى ذلك الجيل الذي سرق من مثاليته، فاذا بالبطلين أحمد (فادي أبو خليل) وروبي (ريمون حصني)، يتحولان الى فاشيين بعد أن كان الأول ينظم الشعر، والثاني يمتهن التصوير، يبرر علوية التحوّل الذي طرأ على شخصيات الفيلم: ''انها هزيمة المثاليين، التاريخ يعلمنا أن المثالي اذا دُفع الى الآخر يخرج منه فاشياً، كل الفاشيين في التاريخ بدأوا مثاليين حتى في الأحزاب الثورية''· مشكلة أحمد الذي ينام في غرفة مزدحمة بصور رفاقه الشهداء، أن حبيبته ''عبير'' (ناتاشا الأشقر) استغنت عن الحب الذي جمع بينهما لصالح رجل من أثرياء الحرب (رفعت طربية) أما روبي الذي عقد صداقة مع طفل (ابن قناص)، فانه لا ينسى كيف أن مدير إحدى المشافي رفض استقبال الأخير، بعد أن دهسته سيارة مخلفة وراءها غيبوبة الموت· الحادثتان أسهمتا في التحول الذي طرأ على حياتهما، اذ تشكلت لديهما خلاصة مفادها أن الحياة للأقوياء، يخاطب أحمد صديقه على ''حافة'' البحر: ''ما في ماضي ولا مستقبل· في حاضر وبس· يا الهي شو بتقدر تكذب هالمدينة· بتكذب وبتصدق حالها· بس لازم حدا يدفع الثمن''· منذ ذلك اللقاء ـ المصارحة، استقر الرأي على ضرورة الأخذ بالثأر من كل من أسهم في تهميشهما· وبدأ الانتقام: قتل مدير المستشفى وسرقة أمواله، معاقبة شريك الرجل الثري الذي تزوّج من عبير، ارغام أحد الزملاء اليساريين، ممن تحول عن العمل الثوري الى المتاجرة بالخطابات، على شرب عصارة كتابه الى حد الاختناق، وأخيرا المحاولة الفاشلة لقتل عبير بفعل انتصار الحب، هكذا بعد أن يصفّي البطلان حساباتهما، ويوزعان المال على والدة الطفل المتوفي، والقطط التي توجه اليها دعوة للعشاء على ضوء الشموع، يخلص روبي الى قناعة بضرورة عقد صفقة بين الكلاب والقطط من أجل حياة أفضل: ''غير هيك ما رح يمشي الحال''· يأخذ البحر بطاقة ''ضيف شرف'' في الفيلم الذي يزاوج بين العبث والواقع، وهو يبدأ مثلما ينتهي، بالمشهد الأزرق نفسه، وكأن القرارات الحاسمة لا ترى النور الا بشهادة البحر، بين تلك القرارات: خيار أحمد الاستغناء عن المدينة بحثاً عن قرية تكون نائية، انفصال عبير عن أحمد لأن التاجر في زمن ما بعد الحرب أغنى من الشاعر، سؤال أحمد في رسالة ألقاها في بطن البحر عساها تصل الى شقيقته: ''هالمرة ما رح اسألك عن زوجك وأولادك· رح اسألك عن استراليا''، مشهد الطائرة تقل روبي الى تونس حيث تعيش زوجته، وهناك طائرة أخرى تقل أحمد الى أستراليا على خلفية صوت القبطان يعلن: أهلاً بكم··· عن يساركم الصحراء العربية، وعن يمينكم، ومن ورائكم، الصحراء العربية· المشهد الأخير قاتم في ''خلص''، الذي حصد جائزة أفضل سيناريو ومونتاج في الدورة الرابعة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، فعلى الرغم من روعة الطيران فوق الموج الأزرق، وبرغم أن الحبيبين غادرا معاً كما في قصص الحب السعيدة، ثمة وطن، في المقلب الآخر من القصة على وشك أن يفرغ من ناسه، لا أحد يختار البقاء الذي بات مرادفاً للانتحار بأشكال مختلفة، يسأل أحمد: ''ما يكون أنا ميّت، كل اللي رميوا حالن عن صخرة الروشة هن أنا· يا الهي كل ما ارجع أخلق برجع برمي حالي· رح ارمي حالي وطير''· يقول علوية: ''لا تسقط الأمة الا بالانتحار، ما زلنا قطعاناً وتنتحر، الانتحار بديل من الهزيمة، التغيير وقع في العام ،1975 عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، منذ ذلك الحين ،ما زالت الحرب قائمة، عقلية الحرب هي السائدة، الحرب لا تنتهي ما لم تخضع لمحاكمة''· ''خلص'' فيلم عن الماضي الأسود الذي يستحيل نسيانه، يرى النور بعد خمس سنوات على تصويره، كأنه في المرحلة الحرجة التي يمر بها لبنان، يدق ناقوس الخطر، يحذر: الحرب تعني موت الروح والعودة الى نقطة البداية، لكل ذلك، ما حصل وما قد يحصل، يصرخ علوية: ''خلص''، عسى أن تنفع الصرخة لكي لا يبقى في المنطقة العربية سوى صحراء قاحلة وظل رجل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©