الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السيد المغلوب.. والعبد الغالب

السيد المغلوب.. والعبد الغالب
25 يناير 2017 10:14
محمد علي اليوسفي تُطرح قضية العلاقة بــــ«الآخر» باعتبارها قضية حضارية ملازمة لمختلف الحضارات الماضية والراهنة، أساساً. ولأنها كذلك لا يمكن ربطها بمكان معين في زمان محدد، بمقدار ما تشكل واحدة من أهم المشاكل الأبدية التي تطرح في سياق أي تطور حضاري. إنها قضية مرافقةٌ لتاريخ الأقوام والأمم مع اختلاف مواقعها في السلم الحضاري: موقع الغالب والمغلوب. ويتميز هذان الموقعان، بعد استتباب الغلبة لهذا الطرف، والاعتراف بتلك الغلبة من الطرف الثاني، ولو مؤقتاً، بحرب أخرى ضمنية تواصل ما أسفرت عنه الحروب المعلنة من توزيع للأدوار. إذا الغالب، والمقصود به هنا الحضارة الماسكة بزمام عصرها، يتمتع بقوة تمكنه من الإشعاع خارج حدوده في مختلف المجالات التي تصون انتصاره وتفوَّقه، وتضمن تحكَّمه في الداخل وفي الخارج بدرجات متفاوتة من السيطرة؛ لا سيما وأنّ للسيطرة وجهيْن، كما تلوح في علاقة الغالب بالمغلوب عند ابن خلدون، أو في العلاقة الجدلية بين السيد والعبد عند هيجل. تبدأ السيطرة بالقوة العسكرية المباشرة لتواصل تحكمها من خلال الاستفادة بمصادر ثورة المغلوب، ومراكمة كل ما يضمن البذخ والعيش الرغيد. فتفرض الحضارة المتفوقة آلياتها الاقتصادية والثقافية، وإنْ كان ذلك جزئياً، لتجد نفسها قد أخذت بدورها من آليات المغلوب وخصوصياته. ولعلّ هذا الأمر يفسر اعتناء الدولة العربية الإسلامية في الماضي بحضارات الشعوب المجاورة. فاللغة العربية التي وصلتنا تزخر بالمفردات الدخيلة (هكذا كانت في البداية) التي استوعبتها الذائقة العربية بعد التفنّن في نحتها أو تعريبها جزئياً، من اللغات الأخرى، كاليونانية والفارسية والهندية وغيرها... والعكس ما نشاهده اليوم. لكنه لا ينفي تأثر الأمم الغربية والاستعمارية بالحضارات واللغات التي غزتها، تماماً كما حصل في السابق للفراعنة واليونانيين والرومان والعثمانيين وغيرهم. وإذا رصدنا هذا التفاعل، من زاوية المغلوب، وجدنا أنه لا يكتفي في الواقع بمجرد التلقي السلبي لما تقدمه له حضارة الغالب. لقد قاومها منذ البداية بكل ما أوتي، بل بكل ما تبقى له من قوة غاربة، ثم اكتفى في مرحلة ثانية بإبداء نوع من الممانعة المستندة إلى إرثه الحضاري القديم (الدين، اللغة، التقاليد، إلخ)... ومن دون فقدان هذا اللجوء إلى الممانعة السلبية، بدَا في مرحلة ثالثة يسعى إلى الاستفادة من المنجزات الحضارية المحيطة به، والمسيطرة عليه، للخروج مما اكتشف أنه تأخّرٌ وشعوذة ومعتقدات بالية، لا يمكن تجاوزها إلا من خلال الاقتداء بالغالب(المحاكاة). لكن هذه المحاكاة لن تكون تقليداً أعمى بقدر سعيها إلى الانتقاء والتوفيق، والتلفيق في أحيان كثيرة: ازدواجيات وثنائيات تطبع الثنائية الأساسية، أي علاقة الغالب بالمغلوب. لذلك تزدهر مصطلحات جديدة ممتلئة بما يعادل تلك الثنائيات: النقل والعقل، الشرق والغرب، الأنا والآخر، الشمال والجنوب، إلخ. ذلك ما تخوض فيه طليعة النخب الاجتماعية في عصرها، كما حدث في الماضي القريب مع رواد النهضة في البلدان العربية مثلاً. أي أنّ هناك مشكلة داخلية أساساً، ويخشى عليها من العامل الخارجي الذي قد يتسلل إليها. وإذا أردنا أن «نتنبأ بالماضي» سهل علينا القول، انسياقاً مع طروحات قائمة ومنتشرة، إنّ مساعي المُصلح مهدت للعامل الخارجي أرضية خصبة للتغلغل في الداخل، انطلاقاً من كون إصلاحاته التجأت إلى الاقتباس من آليات الغالب الذي لا يهب إلا الأسلحة التي يتمكن من استشرافها والسيطرة عليها. وكأن الإصلاحات الإدارية والعسكرية والزراعية وغيرها، تشبه التحاقاً ما، بحضارة الغالب، عبر قنوات أخرى أحدث، مثل اقتصاد السوق، وصندوق النقد الدولي، والأقمار الصناعية في عصرنا الراهن. لكن مثل هذا التأويل السهل يهمل جانباً مهماً في عملية التأثر والتأثير، وما تحققه من تراكم معرفي، مهما اختلفت درجة الاستفادة، ومهما كانت فداحة الثمن. ذلك أنّ الاستفادة لا تأتي إلا بعد أن تُعمّد بالدم في مرحلة الاصطدام المباشر، وبأشكال أخرى من التضحية الاقتصادية، والثقافية، وما يلحق السيادة من جراء ذلك، في معركة لا تحسمها الشهور ولا العقود، ويكون عنوانها عبر العصور: أزمة البحث عن الذات. ونحن أيضاً: بوصفنا «آخر»! تكرّر حديثنا عن «الآخر» باعتباره آخرَ غربياً، في الدرجة الأولى. ولقد تعددت الكتابات والمؤلفات والندوات الفكرية التي تخوض في مسألة تحديد الآخر، وتحديد ما يميز علاقتنا به. والسؤال هو: هل يشغل هذا «الآخر» نفسه بما نخوض فيه نحن؟ هل يكتب ويؤلف ويناقش «الآخر» المقابل له، والذي هو نحن؟ أعتقد أن الآخر «يفعل» ونحن «ننفعل». الآخر يأتينا سائحاً ليتفرج علينا وينال قسطاً من شموسنا، وبحارنا، ويطلّع على آثارنا . ويقترب منّا، سياسياً واقتصادياً، بعدوانية أقل، لينصحنا ويرشدنا وينبهنا إلى أننا نكاد نعيش خارج العصر، رغم أنّ العالم أصبح ضيعة صغيرة (بعد أن كان «قرية» في الأعوام الماضية!) مازلنا نتعثر فيها، بينما يؤمها، هو، بكل سهولة، متدخلاً في كلّ شؤونها. قبل ذلك، ألم يطبعنا بطباعه، ويصدّر إلينا ثقافته وآلاته وتنظيماته وجزءاً مهمّا من تشريعاته؟ وبعد كل ذلك، ألا ينطلق أيضاً من أحكامه المسبقة، ومصالحه الدائمة، وإنجازاته المعلنة؟ هكذا يفهم حالة الدفاع عن النفس باعتبارها عدم تسليم بالآخر، وبالأمر الواقع الذي تصنعه القوة، وينظر إلى ديانة الآخر باعتبارها ديانة مغايرة، ومحمّلة بأحقاد الحاضر والماضي. كما يسعى إلى تشكيل هذا الآخر المغاير، على شاكلته وصورته، لينفي وجوده عملياً، لا بالمعنى الجسدي أو الطبيعي، بل بمعنى المغايرة التي تعني الممانعة في بعض وجوهها. والممانعة هي الدافع الأساسي في كل ما يجري، وإلا لتعادل السلوك المتّبع في كلّ مكان وزمان، وبالنسبة لكل البلدان. فما الذي يفسر التغاضي عن «المشكلة» ذاتها، عندما تكون مستفحلة، لكن في بلد.. حليف؟ صورتنا، لدى الآخر، متشابهة إلى حدّ ما، مع فروقات لا تلامس الجوهر، لكنها تتعلق بدرجات الاختلاف، أو الممانعة في حدّها الأدنى الذي لا يكاد يتجاوز حالة الدفاع إلى الهجوم. وهذه التصوّرات تشكّل مادة للفكر والإعلام والحملات المغرضة، حتى تغدو جزءاً من ثقافة ذلك الآخر الذي يقابلنا ويتصورنا ضمن درجاتنا المتقاربة، سواء تعلق الأمر بالثروة النفطية، أم بالقضية الفلسطينية و«عنف» مظلوميها، أم بغياب الديمقراطية المفصلة من الخارج وفق مصالح المصدّرين لها. وبذلك يغدو هذا «الآخر» - وهو هنا «العربي» إجمالاً- كائناً مخيفاً، أو متخلفاً في أحسن الأحوال. وكثيراً ما يفاجأ أولئك الذين يخترقون حصار الإعلام الغربي والحملات المغرضة والأحكام المسبقة، بما يجدونه لدى انتقالهم إلى بلداننا، من لطف، وحسن استقبال وتكافل اجتماعي، فضلاً عن غنى بلداننا بتراكماتها الحضارية وآثارها. أما أولئك الذين لا يسافرون إلى مناطقنا فيعتبرون الآخرين «مغامرين» يجازفون بزيارة بلدان خطرة يميزها العنف والتخلف ومعاداة الغرب، وكثيراً ما تفاجئهم الآراء الإيجابية التي ينقلها لهم أولئك المجرّبون «المغامرون»! صدام معلن وآخر مضمر كل حضارة هي كلية وشمولية، أو هي تسعى إلى ذلك على الأقل. وهذا السعي لا يتحقق لها من خلال الهيمنة الأحادية الجانب، والمستندة إلى القوة وحدها، فهناك إواليات (ميكانيزمات) «حضارية» تلجم القوة المتغطرسة القابلة للإفلات من عقالها. وقد تكون تلك الإواليات متمثلة في نشر «مبادئ» معينة، مثل تعاليم الإسلام بالنسبة للحضارة العربية-الإسلامية، والديموقراطية وحقوق الإنسان بالنسبة للحضارة أو «الحضارات» الغربية الراهنة. وسوف تنتبه كل حضارة إلى خصوصيات الآخر، التابع، في مرحلة لاحقة، بما يخدم مصالحها.وكما يسعى إلينا الغرب اليوم، وهو الغرب الذي سعينا إليه بالأمس، نسعى إليه بدورنا: فهل نستطيع القول إن الغرب جزء منا؟ أو أكثر من ذلك: أيكون الغرب هو نحن؟فكلانا ينظر في المرآة. ومرآة الأب قد تكون هي نفسها مرآة الابن لكن مع تفاوت في القوة، والنضج، والوصاية، وما شابه ذلك. وكل تفاوت يتضمن صداماً ضمنياً أو معلناً. لذلك تحدث انتكاسات في العلاقات المتبادلة والمضمرة ولكن غير المتكافئة. وقبل أيّ صدام مؤقت، وغير دموي بالضرورة، تحدث في أحشاء المجتمع حركة قلقة تبحث عن تغيير وجه العلاقة بين الأنا والآخر. وقد تأتي الانتكاسات الهروبية من السلطة نفسها كما من الباحثين عنها، المتطلعين إليها. ففي مرحلة أولى تخشى السلطة من تجاوزات المتطلعين إلى تشكيل بديل منها باسم الماضي العتيد فتسعى إلى تقديم المبادئ الدينية ورعايتها. وقد يصل بها الأمر إلى نوع من التزمت الذي يهدف إلى الهيمنة والتسلّط باسم العودة إلى الجذور، لكنها في أثناء ذلك تحتضن وتربّي احتياطيًّا سلفيًّا سرعان ما يتكشف عن خطورة مهددة لأسس المجتمع المدني. لذلك تبدو المسألة وثيقة الصلة بمدى الرؤية الإستراتيجية للمجتمع، بعيدًا عن المكاسب الآنية التي تضمن التحكّم في البلاد وفي العباد. وهذه الرؤية الاستراتيجية المفقودة هي التي تؤدي بالمجتمع المدني إلى فقدان استقراره لتفريطه منذ البداية في ما يشكل صمام الأمان. إن هدف التنمية ذاته يصبح مهددًا؛ وما أكثر التجارب التي انتكست في العقود الأخيرة حتى وهي تحاول العودة إلى السلف الصالح، بعد انهيار مقوّمات المجتمع المدني. وأدى فقدان حرية التعبير- كعنصر من عناصر الأمان في المجتمع- إلى تفاقم ازدواجية المواجهة: مواجهة التخلف والردة في الداخل، ومواجهة الهيمنة والتسلط من الخارج.إنها مواجهة عسيرة تكذّب الشعار، المعلن دائمًا، حول ادعاء «الالتحاق بالركب الحضاري». وتشهد على ذلك محطات التاريخ القريبة منذ محاولات النهضة، مرورًا بمؤتمر باندونغ (1955)، وصولاً إلى المحاولات العسيرة لبناء تكتلات اقتصادية جديدة تحقق ما عجزت الحركات القومية وغيرها عن تحقيقه. وبالنظر إلى أن البدايات لا تحسب بالأعوام، ولا حتى بالعقود، فإن ادعاءات «الالتحاق بالركب» سوف تكون أمامها مهمة شاقة تتمثل في البحث عن تحقيق ذلك انطلاقًا من مفهوم «الالتحاق ضمن التبعية» لا سيما وأنّ العامل الذاتي وحده لا يكفي لصنع حضارة. وطريق جهنم معبّد أيضًا بالنوايا الحسنة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©