الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التعصُّب.. عدوّ الشعوب

التعصُّب.. عدوّ الشعوب
4 يوليو 2018 20:16
في عمله الخالد لمن تقرع الأجراس (دار نشر أولاد جارلس سكرنير، الولايات المتحدة، 1940)، يروي الروائي الأميركي أرنست همنغواي قصة روبرت جوردن، الشاب الأميركي المنتمي إلى الكتائب الأممية المرافقة لإحدى المجموعات المسلحة التابعة لقوات الجمهورية خلال الحرب الأهلية الإسبانية، والذي كُلف بصفته خبيراً بالمتفجرات بتفجير جسر خلال هجوم على مدينة سكوبيا، في عمله الخالد هذا الذي يحوي الكثير من الحوارات عن القتل والفاشية والدين، يسلط همنغواي الضوء على واحدة من أكثر المشاكل التي جرت وما زالت تجر البشرية للحروب والقتل: التعصب. تستكشف الرواية الأيديولوجيات السياسية وطبيعة التعصب، وعلاقة ذلك بالدين. ليس من الغريب أن يلاحظ روبرت جوردون بعد استخدام العبارة الرنانة (عدو الشعب)، من جميع أطراف الحرب، أنه «لكي تكون متعصباً، عليك أن تكون واثقاً من أنك تقف إلى جانب الحق. ولاشيء أدعى إلى ذلك من العفة. والعفة هي عدو الهرطقة والكفر». في الرواية التي هي خلاصة لأفكار وتجارب روبرت جوردون المستوحاة من تجارب آرنست همنغواي نفسه في الحرب الأهلية الإسبانية، نتعرف على العجوز أنسيلمو، الشخصية الوحيدة التي تحاول قتل التعصب في داخلها، والذي هو دليل روبرت جوردون. (الحوار من ص 57 حتى ص 61). نعم، إنه يذهب إلى الصيد وبسعادة، يقول أنسيلمو، يقتل الحيوانات، لكن أن يقتل البشر؟ كلا، فعلى عكس الأميركي/‏‏ الأوروبي روبرت جوردن، الذي لا يميل إلى قتل الحيوان، لكن ليس لديه مانع من قتل البشر إذا استدعت الحال، «لا أحد يفعل ذلك بمتعة، إذا لم يكن لحظتها مجنوناً»، لكن ليس لديه أي اعتراض «إذا كان الأمر موجباً. إذا كان يخدم القضية»، لا يميل العجوز إلى قتل الإنسان، مهما استدعت الأسباب. في إحدى حواراتهما التي تدور عن الله والدين والقتل، والتي هي كثيرة، وعندما يسأله روبرت جوردون، إذا كان قد قتل إنساناً ذات يوم، يجيبه أنسيلمو «نعم، أكثر من مرة، لكن دون متعة»، لأن قتل الإنسان هو إثم بالنسبة له، حتى الفاشي الذي عليهم قتله، لأنه كما يقول: «ضد قتل أي إنسان»، وعندما يسأله روبرت جوردون، إذا كان الإثم يأتي بالنسبة له، لأنه يؤمن بالله، يجيبه: «مع أو من دون الله، القتل بالنسبة لي هو إثم، القضاء على حياة إنسان آخر هو بالنسبة لي أمر جدي جداً. أنا أفعل ذلك، إذا كان عليّ أن أفعل ذلك، لكنني لا أنتمي إلى سلالة بابلو»، عن طريق تأكيد العجوز على ذلك، يُري همنغواي عبر شخصية بابلو، قائد المجموعة المناهضة للفاشية، وجه التعصب على الجانب الجمهوري. بابلو الذي ظاهرياً لم يخف عدم التزامه بعملية تفجير الجسر لخوفه من موتهم بعد تنفيذ العملية، والذي يصطدم سلوكه هذا مع إحساس روبرت جوردون القوي بأداء عمله وخوفه من تداعيات سلوك بابلو بإفشال العملية، يأتي خوفه عملياً من ماضيه، من سلوكه في بداية اندلاع الحرب الأهلية، المجزرة التي ارتكبها بابلو «بدم بارد» ضد أفراد «الحرس المدني» الفاشيين، عن طريق تفجيرهم وإعدامهم رمياً بالرصاص، وضد أعضاء المجلس البلدي المحلي الفاشيين في قريته، عن طريق تسليمهم لسكان القرية من الفلاحين لقتلهم واحداً واحداً، شق رؤوسهم بالفؤوس وحرق بعضهم (كما فعل أحد الفوضويين المخمورين)، تلك المجزرة التي ظلت حديثاً يدور على لسان الناس، والتي يفرد لها همنغواي صفحات طويلة من الكتاب، يرويها على لسان بيلار، زوجة بابلو والشاهدة على ما حدث، المجزرة هذه بدأ شبحها يطارده، أمر جعله يلجأ للخمرة ليل نهار، كل أعضاء المجموعة يعرفون ذلك، العجوز أنسيلمو أولهم، ذلك ما يجعله يؤكد، بأنه لا ينتمي إلى قبيلة بابلو، وعندما يحاول روبرت جوردون التخفيف من شعوره بالإثم، قائلاً: «لكن من أجل كسب حرب ما، علينا قتل أعدائنا. كان الأمر دائماً بهذا الشكل»، فيجيبه العجوز، «بالتأكيد. في الحرب علينا أن نقتل. لكن عندي أنا أفكاري الخاصة بي»، ثم يعرض فكرته: «لن أقتل حتى قساً. لن أقتل أيضاً أي ملاك أراضي. سأجعلهم يعملون كل يوم – كما عملنا نحن في الحقول، وكما عملنا مع الخشب في الجبال – طوال حياتهم، حينها سيرون، لأي شيء وُلد للإنسان. بأن يناموا مثلما ننام. بأن يأكلوا، مثلما نأكل. لكن قبل كل شيء، بأن يعملوا. بهذا الشكل سيتعلمون»، ولكي يكون واضحاً أكثر، «قتلهم لا يحمل أي درس. أنت لا تسطيع أن تدمرهم، لأن من بذورهم يأتون آخرون مع كراهية أكثر. السجن لاشيء. السجن ينتج الحبس فقط. على كل الأعداء أن يتلقنوا درساً». لعنة الأيديولوجيا هل يعرف التعصب ديناً؟ أليس هو ما تتقاطع عنده الأيديولوجيات والأديان؟ ها هو بيريندو الضابط الفاشي والكاثوليكي المؤمن كما يدعي، يأمر جنوده بقطع رأس السوردو وجماعته «الجمهوريين»، بعد موتهم، لأخذها معهم، ثم «يأخذ برسم علامة الصليب مرات عديدة، وهو يهبط منحدر التل، ويردد صلاة آفا ماريا خمس مرات»، لكن «لروح رفاقه الذين سقطوا»(ص401)، أما العجوز أنسيلمو المؤمن هو الآخر وفي لحظة يأس وغضب، يطلب العون من الله لكي يقتل أكبر عدد ممكن من الفاشيين: «ساعدني يا ربي، لكي أسيطر على حركة ساقيّ، ألا أهرب، عندما يسوء الوضع. ساعدني يا ربي، أن أتصرف غداً في المعركة مثل رجل» (ص407). وإذا كان الدين يفعل مفعوله مع الضابط الشاب الفاشي بيرندو والجمهوري العجوز أنسيلمو، فإن الأيديولوجيا تلقي ظلالها الواضحة على شخصية الشيوعي الفرنسي أندريه مارتي، الكوميسار السياسي ومسؤول فرق المتطوعين الأمميين. ففي مشهد يقترب من الكوميديا السوداء نلتقي بشخصية مارتي الذي يعرفه ال كوربورال، الرقيب ومسؤول حراسة الطريق المؤدي للقيادة العسكرية بـ «المجنون»، خلال حديثه مع غوميز وأندرس اللذين أمر هذا «المجنون» باعتقالهما، رغم أنهما من رفاقه. يقول ال كوربورال عن مارتي: «هذا الرجل يقتل ناس أكثر من طاعون الثور. لكن لا يقتل فاشيين، كما نفعل نحن! أي هراء!. أنه يقتل قبل كل شيء نماذج مختلفة/‏‏ غريبة الأطوار. تروتسكيين، منحرفين عن خط الحزب. كل البهائم الممكنة الاختلاف»... «عندما كنا في مدينة أسكوريال، لا أعرف عدد الذين قتلناهم هناك... كان علينا نحن تشكيل فرقة الإعدام دائماً. المقاتلون التابعون للألوية الأممية لم يأتوا إلى هنا لقتل رفاقهم. لكي نتجنب الصعوبات والتعقيدات كان علينا نحن الإسبان أن نقوم بذلك. عنده عادة إعدام الناس. دائماً لأسباب سياسية. إنه مجنون؟». الحرب مبرراً للقتل لماذا لا نقول، إن بعض الأشخاص يحتاجون التعصب ليطلقوا العنان لما هو شرير في داخلهم؟ في وصف لإنسيلمو للغجر، يقول: «بالنسبة لهم القتل خارج قبيلتهم لا يحمل أي إثم. أنهم ينفون ذلك، لكن الأمر فعلي»، وهم يشبهون العرب في ذلك. الحرب حجة، عذر يسمح لهم بالقتل دون التعرض للمساءلة أو للعقاب، سيقولون، أنهم يقاتلون إلى جانب الجمهورية التي تدافع عن حقوقهم، وأنهم يقاتلون المعسكر الذي يضطهدهم، ولا يعترفون أنهم يطلقون العنان للجانب الشرير الذي ورثوه من الماضي، صحيح أنه أختفى، لكنه كما يبدو ظل هناك كامناً في العقل الجمعي، ينتظر مناسبة ما لينطلق إلى العلن، لكن أليس ذلك هو نفس السبب الذي جعل سكان الريف المغاربة يقاتلون إلى جانب الجنرال فرانكو ضد الجمهورية؟ الجنرال فرانسيسكو فرانكو دي سووسا الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار قرابة سبعة وثلاثين عاماً الذي كان يتفاخر بكاثوليكيته، ما كان لينجح في انقلابه على الشرعية الجمهورية الإسبانية في صيف 1936، ويجر البلاد في حرب أهلية لو لم يعتمد في تمرده على قوة من الجنود المغاربة الريفيين (سكان الريف) بلغ تعدادها خمسين ألف جندي بقيادة ضابط اسمه المارشال المغربي محمد أمزبان. فرانكو الذي كان آنذاك قائداً عسكرياً للجيش الإسباني في المغرب، زجّ سكان الريف في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ظاهرياً بدوا أبرياء أُقتيدوا للحرب عنوة، لكن عملياً، ومن يقرأ بطولاتهم في الحرب واستبسالهم في المعارك لا يفهم في البداية، لماذا دافعوا عن الملكية والكاثوليكية والفاشية، ثالوث لا علاقة لهم به، هم الذين تربوا تربية إسلامية، ولكن نظرة متمعنة، ستبين، أن دوافعهم هي ذاتها التي حملت الغجر على القتال، هم أيضاً يعرفون أنها الحرب الآن، وأن الإنسان مسموح له القتل والهجوم والغزو، كما في الأزمان الغابرة، كما كانت القبائل تغزو بعضها، قتل الجمهوريين أو الكفرة، كما قيل لهم، هو ليس جريمة يحاسبهم عليها إله أو قانون، على العكس، سوف يكافأوون. حسناً هذا عن الغجر وعرب الريف. لكن ماذا عن الآخرين الذين يقتلون بدم بارد، يستخدمون ظاهرياً حجة ربما أقنعوا أنفسهم بها أو من حولهم، لكنهم في المحصلة، يثيرون الشكوك، هذا «المجنون» الفرنسي أندريه مارتي مثلاً، لماذا لا يكون ذهب إلى القتال في إسبانيا، لأنها الحرب، وهي فرصة له لكي يقتل أكبر عدد من البشر، دون أن يتعرض للمساءلة أو للعقاب؟ ومن يدرس ما حدث في سنوات الحرب الأهلية الإسبانية، سيلتقي بالمئات من أمثال «الرفيق» أندريه مارتي الذين لم يملكوا القدرة لإطلاق العنان لنزواتهم، لميلهم للعنف، للقتل في أوطانهم، فذهبوا طواعية، ظاهرياً للدفاع عن الجمهورية الإسبانية، لكن عملياً، ذهبوا لتصفية الحساب مع كل أولئك الذين اختلفوا معهم بوجهات النظر. تصفيات الحساب لأسباب سياسية، أمر شاع في بلدان عديدة، لكن في زمن الحرب الأهلية ازدهر بشكل لافت للنظر. كانت الحرب تدور على مختلف الجبهات، وفي الحرب تعلو أصوات المدافع على أي صوت آخر، سيئو الحظ، ماتوا، لم يهب أحد لنجدتهم، وسعيدو الحظ، يتم إنقاذهم في اللحظة الأخيرة، في حالة غوميز وأندرس ينقذهما الصحفي الروسي كاركوف الذي اتصل به ال كوربورال لكي ينقذ الاثنين من قبضة «هذا المجنون»، وانظروا: تلك هي الحقيقة، قاتل مثل أندريه مارتي، «مجنون»، الغارق في المشاكل العائلية، والذي مكانه المصحّ، يبحث عن أي عذر لكي يقتل رفاقاً له، قاتل مثله يخاف من رفيقه الروسي، لأنه يعرف نفوذ كاركوف مراسل جريدة البرافدا، الذي تمتد علاقاته حتى دهاليز الكرملين، وأن أشد ما يخشاه أندريه مارتي هو أن يسقط تحت رحمة رفاقه الروس، غضبهم عليه سيجرده من منصبه، أحد القادة الكبار للألوية الأممية، الأمر الذي يعني الكف عن القتل، بكلمة واحدة يعني لواحد مثله اعتاد القتل، الموت البطيء. الغجر الإسبان وعرب الريف المغربي احتاجوا الحرب لكي يقتلوا، ففي النهاية هم يقتلون ناساً خارج قبيلتهم، طائفتهم، ديانتهم، ناساً يعيشون بطريقة أخرى، لا يتشابهون معهم بأي شيء، هذا من جانب، فيما على الجانب الآخر قتلة «حضاريين» مثل الفرنسي أندريه مارتي وأمثاله، يذهبون هم الآخرون للحرب لكي يقتلوا ناساً، يختلفون معهم في نظرتهم للعالم، في تفسيرهم للحياة، ولكي يقتلوا بدم بارد، لابد وأن يستخدموا حجة ما، في حالة أندريه مارتي، التعصب للمبدأ، فكل مَن يعتقد أنه يقف بالضد من هذا المبدأ هو (عدو الشعب)، بالضبط بالمغزى الذي تحدث عنه روبرت جوردون، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر بالمعنى الذي عناه العجوز أنسيلمو، في حديثه عن الغجر، تبرير القتل لكل مَن هو خارج القبيلة. ليس من المصادفة، أن أول من يطلب من روبرت جوردن تصفية بابلو قائد المجموعة، هو الغجري رافائيل. لكن مهما اختلف الفريقان، إلا أن ما يجمعهما يظل واحداً: أنه التعصب، الباعث الأصلي للشر. للقتل. قتلة حضاريون هناك أيضاً قتلة «حضاريون»، مثل الفرنسي أندريه مارتي وأمثاله، هم أيضاً يذهبون للحرب لكي يقتلوا أناساً، يختلفون معهم في نظرتهم للعالم، في تفسيرهم للحياة، ولكي يقتلوا بدم بارد، لا بد أن يستخدموا حجة ما، في حالة أندريه مارتي، التعصب للمبدأ. تصفية حساب تصفيات الحساب لأسباب سياسية، أمر شاع في بلدان عديدة، لكن في زمن الحرب الأهلية ازدهر بشكل لافت للنظر، وكان على الجمهورية الإسبانية أن تتحمل هؤلاء. كانت الحرب تدور على مختلف الجبهات، وفي الحرب تعلو أصوات المدافع على أي صوت آخر، سيئو الحظ ماتوا، لم يهب أحد لنجدتهم، وسعيدو الحظ، يتم إنقاذهم في اللحظة الأخيرة. ........................................... * اعتمدنا على قراءة الترجمة الألمانية، فشر فيرلاغ، 2012 فرانكفورت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©