الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بردى وواديه وحرب المياه.. ماذا عن الكتابة؟

بردى وواديه وحرب المياه.. ماذا عن الكتابة؟
25 يناير 2017 10:31
سوسن جميل حسن ليست سوريا بحربها العبثية الفتاكة أول مثال، ولن تكون الأخير، فتاريخنا وما حفظت كتب التراث في بطونها يقدم إلينا الأمثلة الفجة المحزنة على ما خزنت هذه الأمة من قصص وحكايات وحروب كرست الخلافات والشقاق وأورثت الضغينة بين الإخوة، وبقيت كجذوة مطمورة تحت رماد الأمجاد الذابلة، ينفخ فيها كلما أرادت الحروب أن تستعر. حتى صارت حكايات تراثنا هذا مفخرة تدرسها الأجيال المتعاقبة في كتبها المدرسية، وتعقد حولها الجلسات الحوارية وتؤلف الكتب البحثية، ويتبارى فقهاء المذاهب ورجال دينها في تفنيد وقوعها وإثبات صحة الروايات وصحة إسنادها، بينما العالم يتقدم في مسيرة بناء أمجاده الحاضرة والتشبث بعجلة الحضارة التي لا تكف عن المضي إلى الأمام. مثلما شكلت حرب البسوس التي كان في ظاهرها ناقة ومنهلاً واستكباراً من قبل كليب الذي لا ترد إبل مع إبله، فكيف وقد اختلطت مع ناقة أخرى؟، علماً بقيت الأجيال تحفظه في ذاكرتها من دون تفكيك أو استخلاص العبر، بل كان من أهم وأبرز حكايات التراث تتردد في البيوت والسهرات وفي المقاهي على لسان الحكواتية. ألم تورث هذه الحادثة حرباً بقيت تستعر وتضرمها الضغينة أربعين عاماً بعد أن قتل جساس كليباً ولم يسعفه بقطرة ماء: وقال لجساس أغثني بشربة وإلا فخبّر من رأيت مكاني فقال تجاوزت الأحص وماءه وبطن شبيث وهو غير دفانِ كذلك معركة صفين بين جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان، إذ يذكر التاريخ جانباً من جوانبها هو معركة الماء، التي اختلف الرواة حول من ابتدأها، لكن ما تؤكده الروايات أن الماء استخدم كوسيلة حربية، المرتجى منها كسر شوكة الطرف الآخر. لقد قال الخليفة عمر بن الخطاب عندما طلب منه قادته تقسيم سواد العراق فيما بينهم: «والله أخشى إن قسمته لاقتتلتم فيما بينكم بالماء». وبما أن المياه أساس الحياة، ودارت وتدور الصراعات من أجله على مر التاريخ، والبشرية مهددة بالعطش أمام فجور بني البشر وانتهاكهم للأرض والطبيعة، فقد كان الماء ملهماً للشعراء والأدباء والمبدعين. عدد كبير من الروايات العربية حملت الماء أو دلالاته في عناوينها أو في متونها: ذاكرة الماء/ واسيني الأعرج، غواية الماء/ سامح كعوش، ماء السماء/ يحيى يخلف، قبضة ماء/ أسمهان الزعيم، الرماد الذي غسل الماء/ عزالدين جلاوجي، جيش الماء/ جلال العرضاوي، لغة الماء/ عفاف خلف، حارث المياه/ هدى بركات، رماد الماء/ عبدالعزيز بركة، ماء الورد/ نورة فرج، أبناء الماء/ عواد علي/ العراق، صورة في ماء ساكن/ سلوى الجراح، المياه المعلقة/ محمد مثنى، مياه متصحرة/ حازم كمال الدين. هذا على سبيل التعداد لا الحصر. كما هناك رواية مجاز العشق لنبيل سليمان التي صدرت حديثاً طبعتها الخامسة، ومن شواغلها الأساسية مشكلة المياه في المنطقة العربية، والماء كسبب مهم للصراع العربي الإسرائيلي، فإسرائيل تضع يدها على مصادر المياه ومنابعه إن كان في فلسطين أو المناطق المحتلة من سوريا، وتهجس الرواية بنبوءة العطش لدمشق الشام التي: سيصل عجز الماء فيها سنة 2010 إلى 69%، وفي 2020 إلى 80% إلا إن جُرت إليها المياه من خارج حوض بردى والأعوج. كذلك الصراع الخفي على المياه بين تركيا وسوريا: «الكومبيوتر يسأل: متى حولت تركيا نهر قويق؟ وفؤاد يجيب بلا مبالاة: منذ خمسين سنة، الكومبيوتر يسأل: ماذا جرى بحوضه بسبب التحويل؟ وفؤاد يجيب بضيق: قحل. الكومبيوتر يسخر: وحلب عطشت يا أستاذ، وفؤاد ينفر: بفضل الفرات حلب ما بتعطش يا أستاذ. فجأة لعلع الكومبيوتر: بفضل أتاتورك رح تعطش سوريا كلها ومعها العراق، سد أتاتورك هو التاسع في العالم وبحيرته هي الثالثة». النزاع على المياه في الشرق الأوسط حيث ثلث حدود الشرق الأوسط يتبع مجاري الأنهار، النزاع على المياه هنا شكل الحدود عبر التاريخ، الحضارات هنا ارتبطت بالمياه، حزام العطش يزنر الخصر النحيل من ليبيا حتى عُمان، هذا ما قاله محاضر قادم من أمريكا في الرواية خلال ندوة عن المياه. الأنهار ملهمة الشعراء مثلما هي الأنهار ملهمة للشعراء منذ القديم، فإن بردى الذي اندمج اسمه بدمشق ودمشق به في علاقة توأمة متينة، قد تغنى به شعراء كثيرون، وليس فقط أحمد شوقي بقصيدته الشهيرة التي قال فيها: جرى وصفق يلقانا بها بردى .. كما تلقاك دون الخلد رضوان. فنزار قباني الشاعر الدمشقي يذهب إلى آماد أبعد: والماء يبدأ من دمشق .. فحيثما أسندت رأسك جدول ينسابُ والحب يبدأ من دمشق .. فأهلنا عبدوا الجمال وذوبوه .. وذابوا والدهر يبدأ من دمشق .. وعندها تبقى اللغات وتحفظ الأنسابُ ولم يكن بردى ملهماً بالنسبة إلى أبناء الشام أو زوارها من خارج سوريا فقط، بل لكل سوري خاصة أولئك المتشربون بالمشاعر القومية والعروبية الجياشة، فالشاعر جميل حسن وهو ابن الساحل السوري، شكل له بردى قيمة ورمزاً، وكان قد تعرف إليه وعايشه في فترة المد القومي منذ خمسينيات القرن المنصرم عندما كانت القومية العربية تكتسح المجالات العامة، يقول عن بردى الذي جف ماؤه في التسعينيات واقفاً على ضفافه وقد رأى فيه وطناً يحتضر تحت نير القمع والديكتاتورية، وأحلاماً تنهار كما الحصون: فكيف أداري خيبتي ومرارتي، أفي بردى همُّ الرجال يخيبُ؟ أتحمل ماء أم تداري سرابه وتخدعنا؟ وعد السراب كذوبُ أيا بردى أين المودة والهوى؟ مسافات ما أطوي إليك تذوبُ أما كنتَ دفّاق النمير شفيفَه؟ وكان النمير السّكب منك يطيبُ فيا بردى ماذا أقول وخيبتي مدى أملي؟ هل قسمة ونصيبُ؟ مساؤك خير. إنما أنت سائح مقيم، وإني سائح وغريبُ. على مدى السنوات الخمس الماضية كان الماء أداة حرب فتاكة في سوريا بين الأطراف المتنازعة، فأكثر من منطقة تدور فيها المعارك كانت المياه تقطع عنها، أو تستهدف محطات الضخ أو الأنابيب التي توصل المياه، منع الماء يعني تهديد الوجود، يعني النتيجة النهائية له هي منع الحياة، وها هي حرب المياه تشتعل قرب دمشق من جديد في مباراة كسر عظم أو كسر إرادات يروح الأبرياء ضحيتها، في وادي بردى. وهذه المنطقة تربط القلمون بدمشق. بسيّمة، عين الخضرة، عين الفيجة، أشرفية الوادي، جديدة الشيباني هي قرى وادعة على طول الطريق الواصل بين دمشق والزبداني في ريف دمشق الغربي، كانت كذلك مكاناً للنزهات والسيارين الربيعية والصيفية التي تشكّل ملمحاً أساسياً من النشاط الاجتماعي لأبناء الشام، فالسيران ركن مهم في حياة الأسر الشامية وكانت السكة الحديدية تتلوى بين البساتين والجداول والمياه مسايرة مجرى بردى لتحمل الشوام إلى سيارينهم، إضافة إلى نبع عين الفيجة والذي يغذي معظم أحياء العاصمة، حتى إن اسم «الفيجة» حلّ محل اسم الماء في اللغة المحكية وفي دلالاتها، فأصبحت مياه الشرب تسمى فيجة، وصارت صنابير المياه في البيوت تدعى فيجة، وإذا انقطع الماء فيها يقول الناس «الفيجة مقطوعة»، وهكذا حتى أصبحت الفيجة شريان دمشق الحياتي. أم الوادي وإلى قبل مئة عام خلت، أي قبل سايكس بيكو الشهيرة التي قطت الجغرافيا بحدود سياسية أرضت الخارجين من الحرب العالمية الأولى، كانت منطقة وادي بردى تتبع قضاء بعلبك أيام الاستعمار العثماني لسوريا. ويقال إن بلدة سوق وادي بردى هي أم الوادي وأصله، فاسمها القديم هو آبيلا، وذكرت في كتب التراث باسم آبل السوق أي سوق آبيل أو هابيل، فعلى قمة الجبل المشرف على البلدة موقع يقال إنه قبر هابيل بن آدم أب البشرية كما تقول الأساطير وقصص الأقدمين. كانت مركزاً إداريا مهماً وإمارة زمن الحكم اليوناني والروماني لسوريا، وكانت البلدة زمن الروم تشكل سوقاً موسمياً مهماً مشهوراً على مستوى الإقليم كله، تعرض فيه البضائع القادمة مع التجار من أقاليم الشام والروم ومصر.. وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عندما كان السوق يضج بالنشاط هاجمته كتيبة من كتائب جيش الفتح الإسلامي بقيادة عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، لكن الروم أحاطوا بالكتيبة وكادوا أن يقضوا عليها لولا أن أنجدهم خالد بن الوليد بجيش عكس موازين القوى وتمت السيطرة على البلدة وصارت ولاية (آبيلا) وادي بردى، بمركزها وقراها ومزارعها التابعة لها في الوادي شرقاً وفي السهل غرباً وفي سفوح القلمون شمالاً، جميعاً تحت راية الإمبراطورية الإسلامية. لكن الحرب تتغول في الوادي وتنتهك الجمال. فهل لأن الدم يستصرخ تحت ضغط ذاكرته التي لا تموت، بقيت أول جريمة في التاريخ، قتل قابيل لهابيل، متوهجة تعيد الاشتعال في المنطقة اليوم؟ إذاً: حرب المياه تشتعل مجدداً قرب دمشق فلقد تم تلويث مياه دمشق والطرفان يتبادلان الاتهامات. اشتدت المعارك في المنطقة وازدادت حدة الصراعات والتحديات والعنف مما أدى إلى فرار السكان من الوادي بعد قصف عنيف وتبادل نيران يتكرر، بينما ينتظر المدنيون الخروج، ويتبادلون النشرات الجوية التي تختص بالطرق والحواجز الأمنية والمعلومات عن كيفية الخروج، عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه هي طبيعة الحياة، مهما اشتد الظلم والجور فلا يمكن أن يدخل الناس جميعاً في سن يأس جماعي حتى لو انتابتهم نوبات من الكآبة والخوف من المجهول، لكن يبقى سرّ ملتصق بالجينات المتوارثة، سرّ هو حصيلة إرث تراكمي من الحضارة المتعاقبة في منطقة مأهولة منذ ألوف السنين. فهل سيتحول تغني الشعراء ببردى ودمشق إلى رثاء ونحيب؟ وهل ستنقض الحرب بدمارها وخرابها على خلد الكتاب والأدباء لتشوش صور المدينة القديمة وبردى الفاتن بكبريائه، وتحتار مخيلتهم بصور بديلة عن عمران جديد لمدينتهم يتشبث بهوى الماضي وأمزجته وهو يتزيّا بلباس جديد؟ ما هو مصير الحكايات الشعبية وقصص الأولين والأساطير التي كانت محفوظة في الذاكرة الجمعية باعتبار هذه المنطقة من أقدم المناطق المأهولة في التاريخ، وما زالت أوابدها تحمل روح الآلهة التي تعددت وتتالت عليها؟ هل سيفقد التفاح والدراق والكرز الشامي رائحة أزهاره وحقوله؟ وهل ستلبس الغوطة مزاجاً حزيناً بعدما كانت عريقة في زهوها وزينتها تغوي الأدباء والشعراء وتبدع الأهازيج في أعماق أبنائها أيام القطاف وأيام البرد والسهر بجانب الكوانين؟ هل ستجف عيونها تحت سطوة حرب تعيد الجريمة الأولى وتحرق القرابين تحت قبر هابيل؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©