الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غازي القصيبي: كأن الحبّ علاقات حرب

غازي القصيبي: كأن الحبّ علاقات حرب
25 يناير 2017 10:40
إعداد وتقديم: نوف الموسـى مثلت رواية «شقة الحرية»، للأديب غازي القصيبي،إحدى أهم استشفافاته الفكرية، التي ألقت بظلالها على البعد الجمالي للغته الشعرية، ورغم التبعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في إدراك التحول لدى مكنونات الشاعر، في مرحلة من عمر الإنتاج الإبداعي، إلا أن القصيدة ظلت قريبة منه جداً، وتعكس الكثير من فيض فلسفته العامرة بالجمال، باعتباره جّل الحقيقة التي نحتاج إلى معرفتها على الكرة الأرضية. شغل القصيبي مناصب عديدة في المجال الدبلوماسي، إلى جانب مساهماته في وضع ورسم المنهجيات العامة، ورصد الاستراتيجيات، عبر خوض معترك الوزارات الحكومية في السعودية. والمثير للجدل دائماً هو القدرة النموذجية للأديب في إحداث التوازن المنسجم بين تكوينات الأدب، المغمورة بتجاوز واقع التصورات، إلى خلق العوالم المفتوحة، وبين السياسات والتكهنات المفروضة على المتغير اللحظي، وفق المصلحة العامة، إنها كمن يبحث عن صناعة متسع أكبر من الحب في صندوق مثقل بحدود النمطية العقلية... وبشكل تفاعلي استطاع القصيبي إفراز الحالة الاستثنائية لرؤيته في القصيدة، بشكل أكبر، وذلك لما يتحلى به الأدب من تحرك نوعي نحو إفشاء الطبيعة الذاتية للإنسان. يكفي أن تقرأ كتاب «مائة ورقة ورد»، لتلحظ تحركات مفهوم الحب في السيرورة الخاصة بالشاعر، وهو من آمن أنه بالقليل من الحب نستطيع أن نواصل السير في الرحلة المرعبة. ويكتب القصيبي عن دهشته المستمرة حول الحب والصراع، ومتاهات الصداقة، وما يهبط على القلب فجأة، مقدماً بعضاً من رسائل السؤال عن الحياة، وهو السؤال الذي لن يتوقف أبداً. *** تستغربين هذا الصراع الذي يوشك أن يكون قاعدة في العلاقة بين حبيبين.. كل حبيبين. تتساءلين: ألا يمكن لاثنين يحب أحدهما الآخر بعمق وصدق أن يعيشا من دون خصام، من دون صراخ، من دون فترات غضب وقطيعة. الحق أقول لك: يمكن… ولكن يصعب ! دعيني أوضح الأمر. في كل حبّ هناك رغبة خفية أو ظاهرة في التسلط على الطرف المحبوب. ومن هنا فكثيراً ما تبدو علاقات الحب وكأنها علاقات حرب. «في كل حب نكهة استعمار»، كما يقول نزار قباني. خذي الأطفال مثلاً. نحن نريد أن نحول أطفالنا إلى نسخ مصغرة منا، تحب ما نحب ومن نحب، وتكره ما نكره ومن نكره، وتذهب إلى نفس مدارسنا وتحترف نفس المهن التي نحترفها. ونحن نبرر هذا الطغيان السافر باسم الحب. كذلك في العلاقة بين الحبيبين. يتوقع الرجل من المرأة أن تكون مجرد امتداد أنثوي لشخصيته، أن يتحول وجودها إلى ملحق تابع لوجوده، أن تنطفئ كل طموحاتها وآمالها وتطلعاتها في سماء حّبه. وتتوقع المرأة من الرجل أن يعيد رسم نفسه على النحو الذي يلائمها، فيتخلص من عاداته السيئة «في نظرها»، ويطلق شاربه أو يحلقه «حسب الأحوال»، ويقلل ساعات عمله، ويتنكر لأقاربه وأصدقاء طفولته. تتوقع منه، باختصار، أن يتفرّغ لحبها. ويبدأ الصراع ويتخذ ألف شكل وشكل. أما الجوهر فواحد لا يتغيّر: رغبة كل في الاحتفاظ بشخصيته وذاتيته وتميزه أمام خطر الذوبان والانصهار والاندماج تسألين: ألا يوجد حل؟ بلى ثمة حل.. وحل ناجح امزجي الحب بشيء من الصداقة. فالصداقة بخلاف الحب، تعترف بالاستقلالية والسيادة والحدود الإقليمية لكل صديق. وامزجي الحب بشيء من المودة. فالمودة أهدأ من الحب أعصاباً، وأقصر أنياباً، وأكثر حكمة.. **** تقولين إنك خائفة. خائفة من المشي على الطريق الأخضر في الليلة القمراء إلى شاطئ الأصداف. وأنا لا ألومك. فالسعادة عندما تهبط فجأة على الروح التي أدمنت الرتابة تخيف. والشوق عندما يتمرد فجأة في الضلوع النائمة على مخدة الثلج يخيف. والشعر عندما ينفجر فجأة في الشفاه التي تلوك النثر المعلب يخيف. والسفر بشراع المجهول يخيف. والرسوّ على جزر المستحيل يخيف. والنوم تحت النجوم الساهرة يخيف. وتسلق حراب القلق يخيف. *** في عشقها الأول تحب المرأة حبيبَها أما بعد ذلك فلا تحب سوى الحب نفسه لقد قفز الحب، من دون خوف، في نار نمرود أما العقل فقد كان يراقب مذهولاً من السقف *** أتريدين أن نتقاسم الأخطاء؟ أتريدين أن نقيم محكمة مصغّرة يمثل أمامها مندوب الادعاء والمتهم ويثور جدال عنيف صاخب قبل أن يصدر القاضي حكمه النهائي؟ أتريدين أن نستعرض الماضي، ثانية، ثانية، واقعة واقعة، كلمة كلمة، لكي نقرر من أصاب ومن أخطأ؟ دعيني أختصر المشوار فأقول إننا مذنبان وبنفس الدرجة. لقد أذنبنا حين اعتقدنا أننا نستطيع أن ننصب بمفردنا خيمة من الشعر وسط عالم من الحرائق. حين ظننا أن بإمكاننا أن نفرّ من دنيا الحقد والكراهية إلى قوقعة الحنين. حين تصورنا أننا نستطيع أن نتجاهل ضجيج الكون ونفتح قلوبنا للسيمفونيات الزرقاء. كان هذا ذنبنا الأعظم. ثم اكتشفنا أن الحرائق تستطيع أن تلتهم الخيام وأن قبضة الحقد تستطيع أن تهشم القواقع الصغيرة. وأن الضجيج يخمد كل السيمفونيات بدأنا نتحاور. ونمت للحوار أظفارا ومخالب. قلت أنتِ إنه كان بإمكاننا أن نعيش بمعزل عن العالم الخارجي المشوه… لولاي. وقلت أنا إنكِ فتحت الباب الذي دخلت منه الجراثيم المسمومة. وقلنا، وقلنا. تبقى ثمة حقيقة مفروشة في وجداني كما أعلم، وفي وجدانك، كما أرجو. لقد تمكنا من أن نحلمَ، برهةً، في خيمتنا الشعرية، في قوقعة الحنين، في السيمفونية الزرقاء. أنجزنا هذه الروعة معاً. هل يهم بعدها من الذي أخطأ؟ *** لن أستطيع أن أحل معضلة وجودك.. هذه حقيقة مؤكدة.. ولن تستطيعي أن تحلي معضلة وجودي.. هذه حقيقة مؤكدة ثانية.. ذلك أن معضلات الوجود تعيش في دهاليز الروح المظلمة التي لا يتسرب إليها ضوء نجم، ولا تدنو منها نسمة هواء، ولا تطلع عليها عين قريب أو بعيد. تعيش هناك، تصطرع مع الكوابيس، مع الأشباح، مع الأسئلة التي لا تملك جواباً، مع المجهول الذي يصب في مجهول. ونحن نحمل دهاليزنا المظلمة، نروح ونجيء، نبتسم ابتسامة بلا روح، ونضحك ضحكة بلا فرح، ونتظاهر أن وجودنا خلو من المعضلات. ولكننا عندما نخلو إلى أنفسنا ندرك أننا نحاول أن نخدع قاضياً لا يخدع.. لا نستطع أن نحل معضلة وجودنا.. ولكننا نستطيع أن نقتسم لحظة وردية فاتنة. في تلك اللحظة نضحك. وتجيء ضحكاتنا صافية كالخرير. ونبتسم. وتجيء ابتساماتنا مشرقة كالشموس. نلعب على الرمل. نعدو فنسبق ظلنا، كما يقول ناجي: نمتطي أراجيح النجوم. ننزلق على تلال الخيال. نزور مقاصير الشعر. نسافر على أشعة القمر. سنقتسم هذه اللحظة الوردية الفاتنة.. ومَعها قليل من الحب.. ثمة حقيقة مؤكدة ثالثة.. بقليل من الحب.. نستطيع أن نواصل السير في الرحلة المرعبة بقليل من السَعادة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©