الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الرياضة

الخطاب الرياضي.. الحيوية في مفردات الحرب

الخطاب الرياضي.. الحيوية في مفردات الحرب
14 يوليو 2018 23:16
القاهرة (الاتحاد) في أحوال كثيرة كان المنشغلون بالسياسة ينظرون إلى جمهور كرة القدم باندهاش، ويتمنون لو تمكنوا من أن تصنع السياسة تلك الجاذبية التي تمتلكها الكرة، وتستقطب هذه الأعداد الغفيرة المعلقة عيونها بـ «الساحرة المستديرة»، لكن العلاقة بين المجالين لم تقف عند هذا الحد، بل راح كل منهما يستعير الكثير من الآخر، وكأنهما يتبادلان المواقع والمواضع رغم ما بينهما من اختلاف شديد. ويلبس مخططو مباريات الكرة «المدربون الفنيون»، أحياناً حلل الجنرالات أو كبار الساسة حين يجهزون اللاعبين للمباريات الحاسمة، كما يُجهز الجنود الذاهبون إلى ميادين القتال، أو الدبلوماسيون المستعدون لخوض تفاوض مرهق حول قضية جوهرية، والسياسيون يستخدمون طرق اللعب التي أهدت العلوم الاجتماعية «نظرية المباريات» في التفكير والتدبير، وبعضهم، إن لم يكن أغلبهم يتلاعب بالجمهور، أو يلعب معه، وهو واع تماماً لما يفعله. ويحيط بهذه الاستعارة المتبادلة تصور ينظر إلى كرة القدم باعتبارها لم تعد مجرد لعبة تسلية أو لتقضية وقت الفراغ، ولم تعد كذلك تمريناً جسدياً خالصاً، وعلى المستوى الفردي صارت كرة القدم نشاطاً إنسانياً بارزاً، له سحره الخاص، حتى أن بوسعها أن تغير من حال الذي يتفاعل معها، فتحول الغرباء إلى أصحاب، وتجعل من الآلاف، بل الملايين عائلة واحدة تشجع فريقاً معيناً، ويتوحد شعورها نحوه في اللحظة نفسها، عابرًا الهويات السياسية الأخرى، بل بإمكانها أن تحول التعساء إلى سعداء، والعكس، والعقلاء إلى مجانين، والعكس. وعلى المستوى الكلي، صارت الكرة مع الأيام ظاهرة اجتماعية متكاملة الأركان، تعبر في جانب منها عن سيكولوجية شعب معين، لتكشف لنا عما إذا كان متراخياً كسولاً أو مقاتلاً مثابراً، لا يسلّم بالهزيمة ولا يعرف اليأس، وبذا يمكن أن ينظر إليها أو استعارتها، حتى ولو كعنصر مساعد في تحليل «الشخصية القومية»، لاسيما مع ندرة الدراسات العربية في هذا الخصوص. يحفل الخطاب الرياضي بالاستعارة المستمدة من الحرب، لاسيما حين يسعى المعلق إلى إضفاء حيوية ومتعة على المباراة، فينتج العديد من الاستعارات، سواء كان واعياً أو غير ذلك، بغية إمتاع المتلقي وشد انتباهه، وربما لهذا، ولأسباب أخرى تتعلق بجوهر اللعبة نفسها، قال إيكو: كرة القدم طريقة لعمل الحرب بوسائل أقل دموية مما تعودناه، وهي مسألة يعززها جوليانو أيضاً بقوله: في كرة القدم، وهي طقس حربي مهذب، يكون 11 رجلاً هم سيف المنطقة، المدينة أو الأمة، يخلّص هؤلاء المحاربون غير المسلحين ومن دون دروع، الجمهور من هواجسه ويعيدون تثبيت ثقته: في كل مواجهة بين طرفين، تدخل العداوات القديمة والشغف القديم الذي ينتقل من الآباء للأبناء، تدخل في المعركة. تنقلب كرة القدم، إلى حرب حقيقة أحياناً، وأصبح التطرف في التشجيع فيها يحتل مكاناً كانت تحتله في السابق حماسات أخرى. هذا «النسق العسكري» للاستعارة، توزع على أربعة ألوان من الاستعارة، الأول متعلق بالفضاء واتجاهاته «المعسكر- الميدان- المعترك- الجبهة الأمامية- الوسط- الخلف»، والثاني يتمثل في استعارة الوسيلة «النهج التكتيكي- الدفاع- الهجوم- الحملة المضادة والمنظمة والسريعة»، والثالث هو استعارة المنفذ والضحية «الكتيبة- جندي الخفاء- رأس حربة- الخصم» ثم استعارة النتيجة «الانتصار- الفوز- الظفر باللقب». ويترجم خطاب التعليق الرياضي بنية الحرب، موزعاً إياها على عناصر خماسية ثابتة تناظرها عبر شبكة معجمية واسعة. وتتضمن البنية الاستعارية للتعليق الصحفي الرياضي لكرة القدم، المناورة، جس النبض، الضغط على حامل الكرة، بناء العمليات، المباغتة، التسديد، التكتل الدفاعي، التراجع، صد المحاولة، تأمين المنطقة الخلفية- التحصين- الحائط البشري، الهجوم المضاد، الانتصار، الهزيمة، الانهيار، الفوز، الظفر باللقب، سحق الخصم. وهذه الخاصية الجيو سياسية لكرة القدم ليست جديدة، فها هو جوليانو يقول: عند سور مستشفى للمجانين، في ميدان ببيونس إيرس، كان بعض الفتيان يتقاذفون كرة بأقدامهم، حيث سأل طفل: من هؤلاء؟، أخبره أبوه: إنهم مجانين. الصحفي خوان خوسيه دي سويثا ريبللي، يتذكر هذه الحادثة من طفولته، ففي الأزمنة الأولى كانت كرة القدم لعبة مجانين في منطقة ريو دي لابلاتا «الأرجنتين وأورجواي»، ولكن في أوج التوسع الإمبراطوري، صارت كرة القدم سلعة بريطانية للتصدير لا تقل شهرة عن أقمشة مانشستر أو القطارات أو قروض مصرف باريتجز أو حرية التجارة. لكن حديث هذا الرجل عن الجنون لا يخلو من معنى، حين كانت كرة القدم الشرارة التي أدت إلى انفجار الاحتقان بين السلفادور وهندوراس، فوقعت حرب بين البلدين قُتل فيها أكثر من 4000 شخص، معظمهم من المدنيين، ومعهم 10 آلاف مشوه و120 ألف مشرد، ودُمرت مئات البيوت والمنشآت. وقبل المباراة، حظرت حكومة هندوراس على السلفادوريين تملك أراضٍ بها، وطردت بعضهم وهم من الإقطاعيين الذين عاشوا فيها أجيالاً، وقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتبادلت وسائل الإعلام سجالاً شحن النفوس بالغل، وحين فرضت تصفيات بطولة كأس العالم لعام 1970 على البلدين خوض مباراة فاصلة في المكسيك لتحديد الفريق الذي سوف يتأهل إلى المباراة النهائية، بعد أن تبادلا الفوز على أرضيهما، وانتهت هذه المباراة بفوز السلفادور 3 - 2 في الوقت الإضافي، فنزل الهندورسيين إلى الشارع وهاجموا فقراء السلفادوريين المقيمين عندهم، لتتطور الأمور إلى حرب شاملة، استمرت أربعة أيام. وينبع ارتباط التصورات والاستعارات السياسة بكرة القدم بأمور عديدة، منها العملية السياسية التي تبدو معقدة، نظراً لتداخلها الشديد مع حقول معرفية ونشاطات إنسانية أخرى، ويأتي التحليل ليبسطها عبر نماذج تأخذ أشكالاً مختلفة تتراوح بين الكلام اللفظي الصرف والحسابات الرياضية الدقيقة، وهي أنها عملية تتسم بالشمول، إلى حد كبير. ويمكن في ركاب هذا، تحليل القيم الاجتماعية والسياسية الكامنة في بطولة الدوري العام، لندرك أنها مليئة بالعبر والعظات، وتقدم لوحة عريضة مرصعة بمشاهد عدة، يمكنها إنْ تجاورت أو توازت أو حتى تتابعت أن تشرح، وتكشف، جانباً من الخصال الاجتماعية للشعب في هذه اللحظة من تاريخه، منها ما هو إيجابي، وهو ليس بالقليل، ومنها نشر ثقافة تركن إلى أن الفائز فريق محظوظ، ويهزم خصومه عن طريق الصدفة، وأن هناك تواطؤاً لمصلحته، وتوجد مؤامرة على منافسيه، وهناك أيضاً الانحياز إلى التحايل على حساب الحقائق الجلية، ومنها أن المثابر ينتصر ولو بعد حين، وأن الإيمان بالتراكم يدفعنا إلى الأمام. والثاني هو تبادل المنافع، والتأثير الذي لا يخلو من تبادل الاستعارات، بين الكرة والسياسة، وهي مسألة تختلف، في حين يوجد تمايز بين الرياضة وفرقها وبطولاتها ونجاحاتها وبين العمل السياسي والحزبي، بحيث لا تؤثر الرياضة في العمليات السياسية، والمنافسة الحرة بين الأحزاب والسياسيين، ولا تؤثر الهزيمة أو النصر على مآلات العمليات السياسية، إلا نادراً واستثناء، وفي بعد آخر لا تزال للرياضة بعض الدور النسبي والتأثير على مكانة بعض السياسيين من حيث الشهرة والذيوع والمكانة، خاصة بعض ذوي الاهتمامات الرياضية لبعض الفرق الوطنية أو القومية في هذا الصدد. وفي مجالات أخرى، تلعب الرياضة وكرة القدم، عدداً من الأدوار السياسية التي يستخدمها رجال السياسة، ومن بينها توظيف الرياضة في بناء الهويات القومية، وتحقيق التماسك الجماعي، والولاءات الكبرى باسم الوطنية، أو القومية، من خلال قدرة الفرق القومية على استقطاب الولاءات، واستخدام كرة القدم كمصدر للتعبئة الوطنية والاجتماعية، وإحدى قنوات استقطاب الاهتمامات العامة للجماهير خارج المجال السياسي، والتعامل مع الفرق الكبرى بديلاً للانشغال بالحياة الحزبية. طفرة بالتربية الوطنية لم يكن رئيس أورجواي خوسيه باييه، يمزح حين وضع كرة القدم ضمن خطة إعادة التأهيل البدني لأطفال بلاده، والتي كانت بحاجة إلى ثورة حقيقية، لترتبط اللعبة بقرارات مجانية التعليم، وتعميم تدريس التربية البدنية. وسمحت تغييرات باييه بخوض لاعبي الكرة في أوروجواي غمار دوري عمالي انطلق مع بداية العشرينيات، وبعد أقل من عقد واحد كانت أورجواي تتسيد العالم في كرة القدم، وتتقدم على التوازي في التنمية والنمو بما جعلها تتصدر وقتها قارة أميركا اللاتينية في مستوى معيشة الفرد. استغلال في اتجاهات أخرى لم تعد كرة القدم لعبة بل عملية اجتماعية واقتصادية وسياسية وفنية متكاملة إلى جانب كونها مباراة رياضية، حيث يستغلها البعض في اتجاهات أخرى، فهناك حكومات تُعنى بالكرة إما إرضاء لشعوبها أو استغلال فوز يحققه الفريق الوطني، وتنسبه لنفسها وتحوله إلى نصر وطني. والمثل الصارخ على هذا ما فعلته عدد من حكومات أميركا اللاتينية في ستينيات وثمانينات القرن الماضي، خصوصاً في البرازيل والأرجنتين، فقد استغل حكام البرازيل فوز منتخب بلادهم بمونديال 1970 لتثبيت حكمهم، وكان فوز الأرجنتين بمونديال 1978 نقطة للحكومة، التي سعت إلى إقناع هذا الشعب بأن فوز منتخبه الوطني على بريطانيا في مونديال 1986 بهدفين يعتبر تعويضاً عن الهزيمة العسكرية للجيش الأرجنتيني في حرب الفوكلاند.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©