السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المتوسطية فكرة إسلامية

المتوسطية فكرة إسلامية
27 يناير 2010 21:08
يستحق كتاب “الدائرة المتوسطية.. تأصيلات ثقافية واجتماعية وتاريخية” الكثير من النقاش العلمي الجاد والمتعمق، لأن به أفكارا تحمل قدرا كبيرا من الجرأة والحماس لفكرته الأساسية. المؤلف د. عبدالرحمن الشيخ باحث جاد في التاريخ ومترجم كفء، ويفاجئنا في كتابه بأنه من دعاة المتوسطية، وانه يؤصل لها على نحو لم يسبق اليه احد في عالمنا العربي عموما، وفي مصر تحديدا، نعرف ان د. طه حسين كان من أبرز دعاة المتوسطية، وليس على مستوى مصر فقط، بل رآها فكرة تشمل كل بلاد شمال افريقيا وبلاد الشرق العربي كله. وهناك تيار كامل من المثقفين والكتاب العرب تحركوا في هذا الإطار مثل د. حسين فوزي وغيره. عن التغريب واجه أنصار المتوسطية اعتراضا أساسيا من التيار الإسلامي الذي اعتبر أنصاره الفكرة نوعا من “التغريب” والانبهار بالغرب عموما، لكن د. عبدالرحمن الشيخ يفاجئنا بالعكس تماما، وهو أن المتوسطية فكرة إسلامية أو ليست متصادمة مع الأفكار الاسلامية، ذلك ان تجار مكة حين ظهر الإسلام كانوا يترددون على الشام وملكوا ناصية التجارة بها، وتحكموا في التجارة التي تمر من الشام الى الهند، وهذا يعني انهم اتصلوا بمناخ الثقافة والحضارة المتوسطية التي كانت سائدة آنذاك في بلاد الشام، وفي السنوات الاولى للإسلام تعرض المسلمون لتعنت كبار التجار وأثرياء مكة مثل ابي سفيان وغيره، فنصح رسول الله أتباعه بالهجرة الى الحبشة، وهاجروا فعلا وعوملوا معاملة حسنة، ووجد المسلمون هناك ان مقولة أهل الحبشة في السيد المسيح لا تختلف عن مقولتهم كمسلمين فيه، والمسيحيون في الحبشة وكذا كنيستها تتبع كنيسة الاسكندرية، ومن ثم فإن المناخ العقائدي والثقافي الذي عاشه المسلمون هناك كان نتاج ثقافة الاسكندرية وبعدها المتوسطي. يقول المؤلف عبارة تبدو غامضة ولم ينسبها الى أي مصدر: “طلب النبي ممن آمنوا به أن يهاجروا الى كنيسة الاسكندرية” وهي عبارة تكاد تكون مرادفة للهجرة الى الحبشة المسيحية، كانت هجرة المسلمين الى الحبشة خرقا للحصار المفروض عليهم في مكة، وهناك بدأ الإسلام يحقق أولى نجاحاته الكبرى، بالتقائه مع احد فروع كنيسة الاسكندرية أو المسيحية في شكلها المتوسطي، ويصل المؤلف من ذلك الى القول “الدائرة المتوسطية لا تنزع من مصر إسلامها الذي هو مكون أساسي من مكونات هويتها الثقافية، لان التفاعل الناجح الأولي للاسلام كان في إطار ثقافة متوسطية كنيسة الاسكندرية بكل ما تعنيه”. لم تتوقف صلة الإسلام والمسلمين بالبعد المتوسطي عند هذا الحد، فكلنا تعرف ما جرى فيما بعد حيث التحم الاسلام بحوض البحر المتوسط، في مصر وبلاد الشام وبلاد شمال افريقيا والاندلس ثم في تركيا العثمانية حيث كان الاحتكاك والتداخل واضحا والتأثير والتأثر بارزين. اتجاه الأديان ويذهب د. عبدالرحمن الشيخ الى ان توجه الأديان السماوية منذ البداية كان اتجاها متوسطيا أي نحو البحر المتوسط، حتى منذ عهد ابراهيم الخليل ـ أبي الأنبياء ـ فقد خرج ابراهيم من أور ـ جنوب العراق حاليا ـ الى بابل بالعراق، وهو بلد لم يدرجه الباحث ضمن الحضارة المتوسطية، لكن ابراهيم الخليل توجه بعد ذلك الى بلاد الشام ونهر الأردن ثم الى مصر، وعاد بعد ذلك الى مدينة “الخيل”، وظل في هذه المنطقة بسهولها وهضابها، وهي تنتمي الى المنطقة المتوسطية، ونفس الأمر بالنسبة لنبي الله موسى، فقد نشأ في مصر وتعلم لغة أهلها، ثم خرج في سن مبكرة من مصر الى سيناء حيث قضى بها أربعين سنة ثم تركها وعبر نهر الأردن والبحر الميت في الاتجاه المتوسطي. في الديانة المسيحية يختلف الأمر تماما “المسيحية نفسها ثقافة ـ ديانة ـ متوسطية”، فقد كان النشاط الدعوي الأولى ليسوع المسيح في فلسطين وحول بحيرة الجليل وبحيرة طبرية تجول المسيح داعيا الى الله ومعلنا معجزاته في الشفاء، ومعظم سكان هذه المنطقة كانوا يعملون في صيد الأسماك وهنا لا يصبح المجال المتوسطي مجرد مكان فقط، بل حرفة ايضا بما تحمله من سلوك وثقافة. على هذا النحو لم تكن الفكرة المتوسطية غريبة عن الإسلام منذ بدايته، والذي حدث أن الإسلام انتقل الى شمال المتوسط، ونعرف جميعا قصة الأندلس، وسقوط غرناطة، فقد ترتب على ذلك خروج المسلمين من بلاد الأندلس وكانوا حوالي نصف مليون، ذهب 300 الف منهم الى الجزائر، وانتقل 130 ألفا الى فرنسا، واستقبلوا هناك استقبالا غير عدائي ووصلوا ومعهم ثقافتهم وديانتهم التي ظلت مختزنة داخلهم وعاشوا في جنوب فرنسا، ولعبوا دورا مهما في الاصلاح الديني، وما يقال عن ان الإصلاح الديني في أوربا لم يكن بعيدا عن المؤثرات الإسلامية صحيح ولا مبالغة فيه. ويرى المؤلف ان هؤلاء لعبوا دورا فيما بعد في الثورة الفرنسية ويستند المؤلف في ذلك الى ان أوروبا في مطلع العصور الحديثة لابد ان تكون قد تأثرت بالفكر الاسلامي وتفاعلت معه بشكل أكثر وضوحا. والمسلمون الذين خرجوا من الاندلس لم يؤثروا فقط في جنوب فرنسا، بل امتد تأثيرهم الى إيطاليا فقد لعبوا دورا بارزا في تشكيل اقتصاد امبراطوريتي البندقية وجنوة، ومن الجهة الاخرى لأوروبا لعبت الدولة العثمانية دورا في تشكيل ثقافة بلدان ما يعرف بشرق أوروبا وهي ايضا لم تكن بعيدة عن النطاق المتوسطي. كان يمكن لهذا الكتاب بما يحمله من دراسات وأفكار ان يقيم الدنيا لو صدر قبل عقود، لكن الفكرة المتوسطية الآن تراجعت مع تراجع اوروبا، وبرزت مكانها فكرة ومبدأ العولمة، لكن ذلك لا ينفي الجهد البحثي والعلمي الذي بذله المؤلف وإخلاصه الشديد لفكرته، المتوسطية، وانتقل بها من دائرة الدفاع ليجعلها محور التاريخ والثقافة والأديان في المنطقة كلها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©