الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة بالجسد..

الكتابة بالجسد..
27 يناير 2010 21:08
في طبعة فاخرة وأنيقة وغنية باللوحات المعبّرة عن رقصة الكَدرة، صدر للفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن كتابه الجديد تحت عنوان: “رقصة الكَدرة: الطقوس والجسد”، وهو بحث عميق وشامل في رقصة الكَدرة المعروفة كركن أساسي من تراث الرقص الحسّاني في صحراء الجنوب المغربي الغنّي بفنونه الشعبية وعاداته العريقة. والكتاب هو أول بحث شامل يسلط فيه إبراهيم الحَيْسن الضوء على رقصة “الكَدرة” التي أذهلت أشهر رحالة العالم كما أذهلت علماء الأنتروبوجيا. إن رقصة الكَدرة تندرج ضمن “الفنون الشعبية الحسّانية ذات المنحى الحركي، مثل الرقص الصوفي وفن سباق الهجن والألعاب الرجالية التي تعتمد توظيف الجسد داخل فضاء مستدير يسمى “القام” وغيرها من الفنون الإيقاعية التي تجسد العلاقة الحميمية لإنسان الصحراء مع المكان والزمان، ويمكن القول إنها أداة إبداعية تشبه القلم، في كتابة تراث المنطقة/ يكون الرقص في هذه الرقصة من اختصاص الفتيات العازبات والنساء المطلقات (وفي حالات نادرة المتزوجات منهن، لكن دون أن يكشفن عن جوانب من أجسادهن) اللواتي تتكلف بإحضارهن وصيفة (خادم أو مْعلمة) بعد تهيئتهن وتوصيتهن بعدم فتح الأعين إلا وفق القدر اللازم الذي يمكنهن من رؤية ما بحولهن.. فضلا عن تحريك الأصابع انسجاما مع حركات الأذرع والتلويح بالضفائر وغير ذلك.. ويرى مؤلف الكتاب أن “رقصة الكَدرة” تستمد اسمها من طبل الإيقاع الذي تنقره إحدى النساء فتزن به إيقاع الرقصة والجُمل الغنائية، ولا ضير أن يقوم بهذا العمل أحد الرجال الحاضرين. لكن الحقيقة غير ذلك، “فكلمة الكَدرة أو بالأحرى “الكادرة”، هي كناية عن المرأة القادرة ذات الشخصية القوية المؤثرة، ولا غرو أن يكون هذا المفهوم مطابقا لمنزلة المرأة الصحراوية في مجتمعنا منذ أقدم العصور..”، كما يرى أن حرارة الإيقاع تصعد تدريجيا، فيقوم “الحضور رجالا ونساء بالتوقيع باليدين وبالغناء، بينما المغني الأساسي يلعب بالطبل والراقصة جاثمة على ركبتيها.. عيونها مسدلة تدخل في الإيقاع مستوعبة له ومجيبة بحركات الأيدي وتمايل الرأس، هي امرأة ملتحفة تخفي وجهها وتبرز يدين مخضبتين بالحناء”. رمز الخصوبة يسهم اللعب بالأصابع واليدين والعيون ونصف الجسد الأعلى في تحديد مهمة الراقصة التي هي في الظاهر دنيوية وتنفيسية، وفي العمق رمز للأنوثة والخصوبة. تقود “الكادرة” رقصتها حتى الإعياء التام (سواء تم ذلك بالفعل أم لم يتم حسب مقتضيات الحفل)، يجب على الإيقاع أن يكون قويا، به إلحاح ونبر والأصوات من الحناجر تقارب الصياح كلما قربت الراقصة من نهايتها. وإذا كان عازف الطبل يقود الحصة إيقاعيا، فإنه يغني في نفس الوقت بتبادل مع مجموعة مختلطة من الرجال والنساء. ويستطيع صوت الطبل أن يحدث تعارضا بين صوته العميق وحدّة التصفيق. وسلبت هذه “الرقصة السحرية العجيبة التي امتازت بالمقومات الفنية الدقيقة، لب المتفرجين الأوروبيين قديما وحديثا. ورقصة “الكَدرة”، هو اسم مشتق ـ كما يقول الباحث ـ من “القدر” الآنية الخزفية، لأن آلة التزيين فيها عبارة عن قِدر أو جرة من الطين مغلفة الفم بالجلد، وينقر عليها بقضيبين بينما يصاحبها الحاضرون بالضرب الموزون على الأكف، وعلى مجموع هذه النقرات ترقص الراقصة وتتلوى متثنية، وتتشابك أصابعها ويتمايل رأسها وترقص ثم ترقص بحرارة وهي في غيبوبة، والحاضرون يسايرونها ويشاركونها نشوتها الفنية “الروحية”، وبعد الراقصة الأولى تتقدم ثانية، فثالثة، فرابعة، وكلهن في أبهى ملابس الصحراء بجنوب المغرب، الملابس ذات اللون الأزرق والتي تتدلى إلى الركبتين، وتزينهن الجواهر الفضية والعنبرية بهاء، وروعة وجاذبية.. تستغرق (رقصة الكَدرة) مجموعة من الجولات الإيقاعية، وكل جولة تمثل في الأصل إنشاد ثلاث “حمّايات” وفق خط لحني يبدأ انفراديا (مونوفوني) ليصير متصاعدا حيث ينخرط في أدائه أفراد المجموعة، وقد يطول إنشاد الحمّاية مثلما قد يقصر تبعا لقدرة الراقصة على الاستمرار في الرقص.. خارج السيطرة فحتى الكَدرة/ الإناء بشكلها المستدير تظل محملة بالعديد من الرموز والأدلة ذات المنحى الصوفي، ففكرة الدائرة ـ كصورة رمزية للخلود وكشكل هندسي تام لا بداية ولا نهاية له ـ تحيل على الحركة والحياة البشرية التي تعبر عنها الراقصة في دورانها حول ذاتها.. كما أن الغشاء الجلدي الذي يغلف فوهتها، يرمز إلى الانتماء البيئي (جلد الغنم أو البقر، أو وبر الإبل..)، إضافة إلى أن الضربات التي تؤدى عليها بالقضيبين تختزل أصواتا إيقاعية متناغمة بالغة الاتصال بالأرض والجذور..”. يشير الباحث إلى أن راقصة “الكَدرة” تفقد “السيطرة على جسدها، لتجد نفسها “مرخية” في أحضان الوجد.. وبلوغ حد الغثيان.. هكذا يذوب الجسد القديم وينصهر في رحاب العالم الآخر.. ليبدأ جسد آخر (جديد) في الظهور.. جسد مليء بالطاقات والحواس.. مرن ومطواع وقادر على صياغة مشهديته داخل الكارة.. ساحة اللعب.. أداة غواية إن الجسد بحركاته اللينة والمطواعة يشكل بعدا مسرحيا عبر الإيماءات والعلامات الحركية التي ينتجها في علاقته بالفراغ.. والفضاء.. هو ذا الرقص في رقصة الكَدرة.. إبداع له لغته الكوريغرافية الخاصة التي تتوه في متاهات الجسد وتنصهر داخل جغرافيته.. وهي ذي الكَدرة رقصة شعبية تسمو بالجسد وترقى به إلى سماوات أنقى وأرحب، وتحوله إلى أداة غواية بمفهومها الإيروتيكي.. أي حين يمارس الجسد أنوثته سبيلا في خلق المتعة والاشتهاء البصري. تبدأ الراقصة، وهي حافية القدمين، عملية الرقص بتحريك رأسها المنمق بضفائر وجدائل مزينة بالحلي التقليدية، وذلك فوق آلة الكَدرة، وقد تعمد إلى لمسها، لتتجه ـ بعد ذلك بالرقص ـ نحو أفراد المجموعة الذين يزدادون تصفيقا وحماسا وحركة/ التداويح كلما قابلتهم.. هي بذلك ترسم نوعا من الرقص الصوفي الذي يلعب دورا مهما في التقرب إلى الخالق تعالى، إذ يفي بصفة العبادة باعتبارها سمة أولية من سمات الفن الإسلامي الحركي، يساعدها في ذلك عنصرا الحركة والصوت بوصفهما عاملان رئيسيان في الوصول إلى حالة الوجد وبلوغ الحقيقة الإلهية، حيث تفقد الراقصة إحساسها بالعالم المادي.. بل تنسى حتى جسدها الذي لم يعد مِلكا لها، لتنخرط في عالم روحاني غامض يصعب فهمه وتفسيره في الكثير من الأحيان.. ولا تتمكن الراقصة من إتقان حركات الجسد، ما لم تكن على دراية واسعة بوظيفة كل عضو من أعضاء جسدها والإحساس بقيمته في الرقص، والمدى الذي يمكن أن يبلغه في حركته التعبيرية. ثم عليها إدراك الكيفية التي تتعاون بها هذه الأعضاء وتتكامل داخل منظومة كوريغرافية موحدة. هي هكذا الراقصة في رقصة الكَدرة: جسد ينفتح على ذاكرته الطفولية بحرارة الوجدان والجمال. شروط أخلاقية كما يحلل الباحث مقطع من مقاطع الأهازيج الصحراوية قائلا: “حين يتم ترديد: “الحمامة يا لحمامة.. أنت زينك ما يُطامي”، إنما للتأكيد على أن جسد الراقصة يحتاج إلى مثل هذا الكلام لكي ينتج نموذجه الجمالي، أي حين يمارس أنوثته سبيلا في خلق المتعة والاشتهاء البصري، لذلك تسعى الراقصة في (رقصة الكَدرة) جاهدة إلى إبراز مفاتنها بنوع من “الاستعراء” لإثارة الرجال العزاب ـ وغيرهم ـ على اعتبار أن الزينة هي أولا وقبل كل شيء استراتيجية مظهرية لها علاقة وثيقة بالفتنة والغواية”، كما يشير إلى أن الحسّانيين أبدعوا “كثيرا في صياغة كنايات وأوصاف دقيقة ترسم معايير الحسن والجمال لدى المرأة الصحراوية، ومن هذه المعايير: التوفر على صدر ونهد وخصر نحيل وجمال الابتسامة وطول الجيد ودفء الحوار وعذوبة اللسان وبياض الأسنان، فضلا عن غلاظة الساق، الساق الذي يحتل مركزا مهما وحساسا داخل جغرافيا جسد المرأة الصحراوية، ويمثل مجاز الجسد وصورته الجمالية، لذلك اعتبروه بمثابة الجسد الثاني للمرأة الذي يمنحها قيمتها الاستتيقية المفترضة..”. ويؤكد المؤلف على أن “في رقصة الكَدرة، يكون عرض الجسد مباحا في حدود شروط أخلاقية يحددها المجتمع، ففيها ينكسر جدار الكبت على صخرة الرقص، ويتحول المشهد إلى احتفال الجسد بذاته ضمن طقوس جماعية مليئة بالحيوية والحماس.. أنشاد متعالية بالترديد.. وكلمات متصاعدة تنتهي بالانتقال إلى عوالم أخرى، عوالم الحضرة والجدبة والوجد الصوفي.. وخلال الأداء/ الرقص وما يصاحبه من طقوس، تنسج وتتعاضد علاقات الحب بين المرأة والرجل.. وبين الرجل والمرأة ويكشف الوجدان عن الطاقة الداخلية التي تملأه.. رقص ولعب.. لعب ورقص.. حب وعشق.. وإعجاب متبادل يحظى باعتراف الجماعة.. جسد راقص.. ومتحرك.. وباحث عن الاحتضان والسكونية والاستقرار الاجتماعي.. جسد الزواج، وانتهى الأمر..”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©