الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بداية ونهاية

بداية ونهاية
28 يناير 2010 20:55
كبر الصبية وأصبحوا فتية وتركوا اللعب بالطين والتراب وانتقلوا إلى ألعاب أخرى تناسب أعمارهم وحسب طبيعة المنطقة التي نشأوا فيها تأثروا بما كان يحدث حينما يقلدون الكبار إذ أن كثيرا منهم يحملون السلاح ليل نهار فكان الفتية يقومون بشراء الألعاب المشابهة لذلك أو صناعة بنادق من الخشب يختالون بها فيما بينهم يرقصون ويمثلون تبادل النيران أو إطلاقها في الهواء كما كانوا يعايشون ذلك في حياتهم اليومية. يجلسون تحت شجرة ظليلة يتبادلون الحكايات عن بطولات الرجال من آبائهم وأجدادهم، حتى أن أحدهم قال إن جده صارع مرة عفريتا واستطاع أن يوقعه على الأرض لأن جده كانت قوته خارقة للعادة وعندما سقط العفريت وأقر بالهزيمة كشف عن حقيقة عينيه الغريبتين فسقط جده مغشيا عليه. أما الآخر فيقول إن أباه التقى مرة بجان على شكل حمار وكان الظلام يلف المكان واستطاع أن يروض هذا الحمار الذي كان أكبر من حجم الحصان وركبه ونقل فوقه حملا ثقيلا إلى مقربة من البيت وحينها وجد نفسه على الأرض بعدما اختفى الحمار او الجني فجأة، أما الثالث فيروي أيضا بطولات جده في هذا المجال ويقول إنه مرة التقى بجني اعترض طريقه فكان عقابه شديدا إذ قام جده بتوثيق الجني بحبل في شجرة وفي الصباح وجده تحول إلى فردة حذاء. وإن كانت كل هذه الحكايات مجرد أوهام وأساطير لا أصل لها ولا يوجد أحد من أبطالها فكلهم موتى إلا أن الفتية كانوا يتعاملون معها على إنها حقائق يتباهون بها ويتفاخرون بأنسابهم ويتخيل كل منهم نفسه واحدا من هؤلاء الأبطال الخارقين وينتظر اللحظة التي يحقق فيها هذه الأمنية، أما “فؤاد” فلم يكن طموحه يتجه إلى هذه النوعية، بل يريد أن يصبح ابن ليل مثل اللصوص الذين لا يخشون الظلام ويسرقون محتويات البيوت وخاصة الماشية وهؤلاء لديهم قدرات خاصة إذ يفعلون فعلتهم في وجود أصحاب المنازل أثناء نومهم ومن شدة إتقانهم لا يشعر بهم أحد رغم أنهم كثر، ويرى “فؤاد” انه من الصعب أن يلتقي بعفريت في هذه الأيام لأن العفاريت أصبحت تخاف الظهور أمام البشر بل أن الناس يخيفون العفاريت. كان الصبية يتبادلون هذه الحكايات من قبيل التسلية لكن “فؤاد” تأثر بها وأخذها مأخذ الجد، أراد أن يكون مختلفا عنهم فهو ابن عائلة كانت في الماضي من علية القوم والأعيان لكن أفرادها ضيعوا كل ما ورثوه من أطيان وأراض وبنايات وأنفقوا أثمانها على الطعام والشراب والملذات وأهملوا التعليم حتى انه لم يحصل واحد منهم على شهادة متوسطة فأصبحوا على مر السنين في مؤخرة العائلات وإن كانوا متمسكين بالماضي ومتشبثين بأمجاد أجدادهم وظهر ذلك عندما كان الفتية جالسين تحت الشجرة العتيقة التي اعتادوا التجمع تحتها كل يوم وشاهدوا “بخيت” يروي أرضه الزراعية وقد ترك بندقيته هناك بعيدا بجوار ملابسه، فسال لعاب الصبية على البندقية الحقيقية التي تخالف ألعابهم الخشبية وكانت محور حديثهم الذي تطور فجأة الى الرهان كل منهم يتحدى الآخرين في قدرته على الحصول عليها، وعندما تقترب لحظة التنفيذ يتراجعون إلا “فؤاد” الذي أراد أن يؤكد لهم انه ليس مثلهم وإنما زعيمهم وسار حتى وصل إلى بندقية وملابس “بخيت” وأخذها وانطلق عائدا في اللحظة التي شاهده فيها “بخيت” وهرول وراءه وهو يلاحقه باللعنات ويتوعده بالويل والثبور، وأسرع كل منهما الخطى حتى كاد “بخيت” يلحق “بفؤاد” وعندما كان على بعد عدة أمتار توقف الأخير وصوب البندقية تجاه صدر الرجل وهدده بإطلاق النار عليه لكن “بخيت” لم يمتثل واستمر في سيره لأنه يخشى ان يقول الناس إن طفلا تغلب عليه وأخذه منه بندقيته وهي جزء من كرامته وخشى “فؤاد” ان يمسك به وهو لا يقوى على مصارعته وستكون نهايته، فلم يكن أمامه خيار غير الضغط على الزناد لتخرج رصاصة واحدة استقرت في صدر الرجل كانت كافية لأن تودي بحياته ويسقط جثة هامدة على الأرض وتسيل دماؤه غزيرة بينما يهرب “فؤاد” بالبندقية بعيدا وكاد الرعب يفتك بالصبية وهم يراقبون تفاصيل المشهد المخيف وهرعوا الى بيوتهم يخبرون أهليهم بما حدث. أسرة القتيل رفضت أن تتهم الطفل في هذه الجريمة لأنهم يرون انه من العار أن يحاكم طفل في رجل، واتهموا أحد أقارب “فؤاد” لكن التحريات أكدت براءته ولم يكن هناك دليل اتهام ضده وحصل على البراءة، بينما كان “فؤاد” يختال ويتبختر بفعلته وانتقل من مجالس الصبية إلى مجالس الرجال وهو يحمل بندقية القتيل دليل رجولته بل اصبح بطلا يروي انتصاراته وتحولت جريمته إلى عمل بطولي أيضا يقص على الرجال تفاصيلها وهو يرمي من وراء ذلك الى بث الخوف في نفوسهم منه وفتحت أمامه بابا آخر من الانحراف فتحول إلى تجارة الأسلحة والذخائر وذاع صيته في المنطقة وهو يستقبل المنحرفين وتجار الممنوعات لكن في النهاية استطاع ان يكون ثروة كبيرة ويمتطي حصانه ويجوب به البلاد وفي كتفه بندقية آلية وأخرى احتياطية في السرج ليرهب بها كل من يقابله وبالغ الناس في الحكايات عنه وصنعوا منه أسطورة وكذبوا وصدقوا ما يكذبون وأمام ضعفهم زادت سطوته وجبروته وغطرسته فلا يرى إلا نفسه. استباح “فؤاد” كل شيء لا يعرف حرمة ولا حراما وعندما كان مرة على صهوة جواده ولم يقم له احد الرجال فعنفه بشدة وأمره ان يقوم له تحية وإكبارا لكن الرجل رفض واعتبر ذلك إهانة وترتفع نبرة الحوار وتتحول الى مشادة بالكلمات وتأخذه العزة بالإثم ويطلق الرصاص على الرجل امام بيته فيرديه قتيلا وعندما يخرج أخوه يصرخ من هول المشهد يواصل إطلاق رصاصاته عليه ليسقط بجوار شقيقه. يعلو صراخ الأطفال والنساء ويفر القاتل من المكان ويختفي من القرية كلها لا احد يعرف اين ذهب واعتقد انه سيفلت من العقاب هذه المرة مثلما أفلت منذ عشر سنوات في جريمة قتل “بخيت” توهم انه فوق القانون او أن أحدا لن يجرؤ على اتهامه لكن الأوضاع كلها تغيرت ووضع رجال الشرطة العديد من الخطط للقبض عليه فهم يعرفون كل تفاصيل جرائمه، لكن لم يكن لديهم دليل على أي منها، وأمام مخاوف أهل بلدته لم يجرؤ شاهد واحد طوال هذه السنين على الإدلاء بأقواله خشية بطشه بينما الآن اندفع العشرات يدلون بشهاداتهم يقدمون المعلومات لأنهم أصبحوا غير قادرين على تحمل المزيد من جبروته، وفي كمين محكم كان السقوط الاخير وألقي القبض على “فؤاد” ومعه بندقيته الآلية بعد ثلاثة ايام من جريمته، وتم تقديمه للمحاكمة وقضت المحكمة بمعاقبته بالسجن المؤبد خمسة وعشرين عاماً ليكون السجن له تهذيبا وتأديبا وإصلاحا رغم انفه ، يومها انطلقت الزغاريد في القرية ابتهاجا بانتهاء زمن الرعب والخوف وعودة الأمان والاستقرار وسقوط الجبروت ونهاية سنوات الاستعباد.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©