الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أونج سوكي».. ذات الوجهين

25 سبتمبر 2017 23:14
قليلة هي الدول التي ربطت اسمها وسمعتها بسياسي منفرد، أو سياسية منفردة، مثلما فعلت ميانمار (بورما سابقاً). التي بقي «وجهها» السياسي العام لعدة عقود مرتبطاً بصورة المرأة المنشقّة عن النظام القائم، التي حملت الاسم المعقّد «أونج سان سوكي». وأنا أذكر مشهد ظهورها الأول عبر شريط فيديو نادر تم تهريبه من ميانمار، وتم عرضه ضمن فعاليات المؤتمر النسائي العالمي الذي نظم في بكين عام 1995. وكانت الطغمة العسكرية البورمية قد أفرجت لتوّها عن «أونج» بعد الإقامة الجبرية التي فرضتها عليها في منزلها، إلا أن حديثها الذي ورد في الشريط المهرّب لم يتعلق بالأوضاع في وطنها، بل فضلت أن تستخدم من خلاله لغة «سريالية» موجهة لجماهير متنوعة المشارب والمواقف مثل الدفاع عن حقوق المرأة في دول العالم المختلفة الأخرى. وحتى اليوم، لا نزال نسمع فقرات من الخطاب الملهم لـ«أونج». فقد قالت في كلمة نشرت مؤخراً: «إن التسامح الحقيقي وتقبل الآخر يتطلب بذل الجهود الصادقة لمحاولة فهم وجهات نظر الآخرين، ويجب أن تنطوي تلك الجهود على الإنصات لما يقولونه بعقلية متفتحة ورؤية ثاقبة وثقة شخصية بالقدرة على مواجهة التحديات من دون الوقوع في شرك الحماقة أو التعصب الأعمى والعنف». وكثيراً ما كانت متمسكة برسالتها الأساسية التي ترتكز على «نبذ العنف» خلال السنوات الماضية، حتى عندما أعاد الحكم العسكري سجنها في بيتها وأصدر حكماً بحل حزبها ومحاكمة المنتسبين إليه. والآن، لم تعد «أونج» منشقّة عن النظام الحاكم أبداً. ففي أواخر عام 2010، أطلقت الطغمة العسكرية الحاكمة في ميانمار شعار التحول نحو الديمقراطية، وظهر وكأن هذا القرار كان بمثابة الانتصار الأول لحزبها. ومن بعده، لم يكن بالإمكان اعتبار «أونج» مجرّد ناشطة سياسية، بل أصبحت رئيسة فعلية للبلاد. وفي ذلك الوقت بالذات، توقفت تماماً عن التحدث لمتابعيها ومؤيديها في العالم في العموميات، وقصرت كلامها على الأحاديث والخطب الموجهة لمواطنيها البورميين. وأصبحت بعد ذلك هي السياسية الأكثر ظهوراً في دولة نشأت فيها المؤسسات ضمن البيئة السلطوية والحكم الديكتاتوري الذي حكم البلاد لسنوات طوال بقيادة طغمة عسكرية فاشيّة إلى أبعد الحدود. وإن كان يبدو من الناحية الظاهرية أن العسكر البورميين ابتعدوا عن المشهد السياسي في ميانمار، إلا أنهم ما زالوا يتحكمون بكل مقدرات البلد الاقتصادية فضلاً عن كونهم يحتكرون أيضاً السلطة السياسية في الظل. فهم يتحكمون بنشاطات الشركات وتوزيع الأراضي وتعيين الوزراء، ويتحكمون في الجيش وقوى الأمن. ووفقاً لهذه الاعتبارات، يمكن القول إن «أونج» تشترك بصفات عامة مع العديد من السياسيين والمناضلين المشاهير الذين قادوا عملية تحوّل بلادهم من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطية. ومن أشهرهم: نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وليخ فاليسا في بولندا، وبوريس يلتسين في روسيا، وباتريشيو آيلوين في التشيلي، وفاكلاف هافل في تشيكوسلوفيا (السابقة)، وكورازون أكوينو في الفليبين، وغيرهم. وعلى رغم أوجه الاختلاف القائمة بين هؤلاء المشاهير، فقد واجهوا كلهم المشكلة المعقدة ذاتها التي تتلخص في التساؤلات التالية: كيف نغرس حب التسامح وحرية التعبير والحرية الصحفية في صلب حوارنا الديمقراطي؟. وكيف نسعى إلى تحقيق استقلال القضاء وحكم القانون في بلدان تفتقر إلى الخبرة في هذه القضايا والشؤون؟ وقد حقق بعض هؤلاء المناضلين بعض النجاح، وفشل آخرون، ولا غرابة في ذلك طالما أن من المعروف أن غرس القيم الديمقراطية في المجتمعات التي لم تتعوّد عليها يتطلب الانتظار لأجيال. وكل هؤلاء الدعاة للديمقراطية، ما عدا نيلسون مانديلا، كُتب لهم أن يتقاعدوا عن متابعة نضالهم مبكّراً بعد أن تضاءلت شهرتهم وتلوّثت سمعتهم بشكل كبير. ويمكن القول إن «أونج» انضمّت بكل جدارة واستحقاق إلى هذه القائمة الأخيرة! وخلال السنوات القليلة الماضية، عندما استفحل العنف بين البوذيين البورميين الذين يشكلون أغلبية سكانية في ميانمار، وبين الأقلية من جماعة مسلمي الروهينجا الذين تنكر عليهم السلطة الحاكمة حقهم في المواطنة، فضلت «أونج» الصمت. وفي شهر أغسطس الماضي، عمدت جماعة متمردة من الروهينجا إلى مهاجمة مراكز تابعة للشرطة البورمية، وما لبث الجيش البورمي أن تدخل وقام بحرق قرى الروهينجا وطرد مئات الآلاف من المدنيين إلى داخل حدود بنجلاديش. وفي ردّها على هذه الجرائم الفظيعة، اكتفت «أونج» بشجب انتهاك حقوق الإنسان واللجوء إلى العنف الذي لا يجيزه القانون، ورفضت انتقاد سلوك ضباط الجيش وجنوده، أو الاعتراف بوقوع أي خطأ في معالجة مأساة المسلمين الروهينجا. وكان لهذا الموقف أن يؤدي إلى خيبة أمل كبيرة في أوساط المعجبين بها في العالم أجمع. فأين ذهبت دعوتها إلى تبنّي «العقلية المتفتحة والرؤية الثاقبة» في معالجة الأمور، أو رفضها اعتماد العنف الأعمى كوسيلة لحل المشاكل؟ ربما تكون «أونج» قد اقتنعت بالرأي العام السائد لدى شعبها بأن الروهينجا هم من الأجانب غير المرغوب في بقائهم فوق أراضي بورما. وقد يكمن سبب تبنيها لهذا الموقف أنها لا تمتلك سلطة توجيه الأوامر للجيش، وأنها تعلم أن السلطة الحقيقية القائمة في ميانمار يمكنها أن تسقط حكومتها، وهي لا تريد المخاطرة بالوقوف في الصف المعادي للجنرالات. ويمكن القول بكلمة واحدة إن الفارق الحقيقي بين «أونج» عام 1995، و«أونج» عام 2017، هو ذاته الفارق بين الطرح النظري للأمور، وبين تطبيقها عملياً على أرض الواقع. * محللة سياسية حائزة على جائزة «بوليتزير» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©