إعداد: محمد عبد الرحيم:
في مبادرة نادرة الحدوث تقدمت سنغافورة باقتراح جريء تطلب فيه من المسؤولين الاندونيسيين ان يسمحوا لهم 'بإدارة' احدى الجزر الاندونيسية! وعلى كل فإن إندونيسيا لديها عدد هائل من الجزر يبلغ نحو 17,500 جزيرة بحيث يتعذر عليها تسمية بعضها ناهيك عن بسط ادارتها على الكثير منها· أما سنغافورة التي يؤمها 4,4 مليون شخص فعلى العكس من ذلك استمرت تعاني بشدة من نقص المساحة·
وكما ورد في مجلة الايكونوميست اللندنية مؤخراً فإن الجزيرة الإندونيسية التي تستقطب جل اهتمام سنغافورة هي جزيرة بينتان التي لا تبعد سوى مسافة قصيرة عن ساحل سنغافورة· وكانت الشركات السنغافورية قد تمكنت أصلاً من بناء سلسلة من المنتجعات الفخمة وبعض المصانع هناك الا أن المبادرة الأخيرة تهدف فيما يبدو لأن تضمن الحكومة الإندونيسية تدفق المزيد من الأموال السنغافورية من أجل تحويل الجزيرة إلى ورشة صناعية عملاقة بحيث تتم إدارتها كقطعة مستنسخة من الدولة - المدينة التي أصبحت تستأثر بالثراء والنجاح· وحتى إذا ما قوبل هذا الاقتراح بنوع من الابتسامة الساخرة فإن الأمر ربما يحتاج لبعض الوقت في ظل التباطؤ الذي عرفت به إندونيسيا في اتخاذ القرار·· وذلك لأن الأمر برمته يتسق مع منطق الأموال إذ أن سنغافورة أضحت إحدى اكثر الدول المصنعة نجاحاً في قارة آسيا بعد ان اكتسبت سمعة جيدة في مجال الإدارة الفعالة التي تتسم بالمصداقية والشفافية· ولكنها مازالت 'محشورة' في مساحة لا تزيد على 683 كيلومتراً مربعاً وهي تعاني الأمرين من نقص المساحات·
وكانت سنغافورة قد نجحت أصلاً في توسعة هذه المساحة بحوالى 10 في المئة عبر مشاريع على الطريقة الهولندية من أجل استرداد الأراضي من طين البحر· أما إندونيسيا من جهة أخرى فهي في أمس الحاجة لاجتذاب المزيد من الاستثمارات الصناعية بهدف خفض معدلات البطالة المقلقة، فلماذا لا تعمل على جلب السنغافوريين لأداء هذه المهمة ؟
وهذا الأمر على كل حال يبدو أشبه بمبادرة 'الأعمال التجارية الحكومية' التي أطلقها طلاب سنغافورة عندما عمدت الحكومة إبان فترة الازدهار الآسيوي في أوائل حقبة التسعينيات إلى زرع سلسلة من الأعمال التجارية السنغافورية في الدول المتعطشة للاستثمارات في جميع أنحاء المنطقة من الصين إلى الهند· ثم لجأت بعد ذلك إلى بناء تطويرات أصغر حجماً بدأت تؤتي أكلها الآن في جزيرة بينتان والجزر الإندونيسية الأخرى المجاورة مثل باتام· وفي مقابل الحصول على درجة من التحرر من بعض اللوائح والقوانين ورسوم التجارة المحلية شرعت سنغافورة في بناء المصانع وجلبت معها بعض الشركات المحلية والمتعددة الجنسيات لتشغيل هذه المصانع· وقد عملت سنغافورة ايضاً على توفير الارتباطات اللازمة بشبكات الاتصالات الهاتفية والطرق والمولدات الكهربائية وحتى المشاريع الخاصة بالتقاعد لمستخدميها هناك· وفوق كل هذا وذاك تمكنت سنغافورة من ترسيخ 'نظام التشغيل السنغافوري' الذي أصبح بمثابة العلامة التجارية الخاصة بها بالنسبة للجودة والكفاءة العالية في الإدارة· وكانت حكومة سنغافورة تأمل في استدرار أرباح هائلة من عمليات بيع وإيجار العقارات ورسوم الإدارة في المدن الصغيرة المستنسخة على شاكلتها في المناطق الأخرى· وتمكنت من تحقيق النجاح في بداية الأمر قبل أن تحدث الأزمة المالية الآسيوية في عام 1979 وبدأت الاستثمارات الصناعية في المنطقة في التراجع والانكماش· بل ان اكبر هذه المدن المستنسخة في منطقة سوزهو بالقرب من شنغهاي قد عانت من حدة المنافسة من نسخة منخفضة التكلفة عمدت السلطات الصينية على بنائها بالقرب منها· وكنتيجة لهذه المعوقات والمشاكل أصبحت العائدات تساوي بالكاد تلك المبالغ التي انفقتها سنغافورة، كما يقول اليكس بيريرا الأستاذ في الجامعة الوطنية، وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت سنغافورة في التوسع لنقود المناطق الصناعية في جميع أنحاء آسيا ولكن بمزيد من الحذر حيث توجد الآن واحدة في الفلبين على سبيل المثال بالاضافة إلى العديد من المناطق الصناعية في الهند· ولما كانت لا تزال تعاني من احتراق أصابعها في الصين فقد بدأت الحكومة السنغافورية تصر على ان يقود القطاع الخاص توسعاتها المستقبلية في جزيرة بينتان والاماكن الأخرى على الرغم مما يبدو من ان الشركات التي ستدخل في المشروع سوف تكون تلك التي تمتلك فيها الحكومة السنغافورية حصة غالبة أو مالكة بها بالكامل· وكما يقول بيريرا فإن الحكومة بدأت تدرك ان ارتفاع تكاليف الأراضي والعمالة من شأنها ان تجبر بمرور الوقت معظم صناعاتها على الهروب إلى الدول المجاورة الأرخص تكلفة· وفي حال أن تمكنت الحكومة من تقدم المسيرة والذهاب إلى هناك اولاً ونجحت في بناء المصانع والبنية التحتية اللازمة التي تحتاجها هذه الصناعات فسوف تتمكن على الأقل من الاستمرار في استدرار أموال وفيرة من هذه الصناعات!
عدد اليوم
