السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خلخلة الآخر

خلخلة الآخر
10 يونيو 2015 21:35
تكفي إطلالة سريعة على الحضور القوي لمعالجة سؤال الفن عند الفلاسفة المعاصرين لتؤكد الحقيقة السابقة، إذ إن ما كتبه هيدجر حول «أصول العمل الفني»، ودراسته لأعمال فان جوخ، وما تناوله جاك دريدا في كتابيه: «يوميات أعمى»، الذي خص به موضوعة العمى في التشكيل، وكتاب «فن الصباغة والحقيقة»، وما لاحظه ميرلوبونتي في كتابه «العين الحية» الذي خص أعمال الفنان سيزان، وما كتبه مشيل فوكو حول «مونيه»، وتودوروف في كتابيه «مديح اليومي»، و«مديح الفرد» حيث تناول في الأول التشكيل الهولندي والاحتفاء بالحياة اليومية. كل هذه الأعمال تعكس الانْهمام بالفن لعمقه في تناول الوجود والفرد واكتشاف الأشياء وإعادة تشكيل الهويات. في هذا السياق – بالتحديد- سأعالج المجهود النوعي الذي قام به المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي. فكر مغاير طرح صاحب «المغرب المتعدد»، و«النقد المزدوج» و«الاسم العربي الجريح» وكتاب الدم «في الأفق المغربي أسئلة عميقة وجوهرية وجذرية، اتسمت بجرأة المفكر الحر، الذي اتخذ من الفلسفة استراتيجية وبرنامجا وقد تجلى ذلك في تشككه السقراطي اليقظ، وحذره الشديد من أن ينجر إلى الخطابات الأيديولوجية والتحليلات التاريخية المبسطة، كما يتضح في معاملته الحذرة مع المذاهب الفلسفية، حتى أكثرها ثورية، وفي نهجه استراتيجية تعتمد أساسا اقتراح قراءات مفتوحة، أكثر ميلاً إلى إثارة الأسئلة وفحص القناعات» (انظر: عبدالكبير الخطيبي، نحو فكر مغاير، بنعبد العالي، كتاب الدولة. (ص 9). لقد حاور بندية فكر الاختلاف الغربي واستفاد من استراتيجيته ليخلص إلى استراتيجية متعددة الأبعاد ينصهر فيها الابستمولوجي بالسيميائي بفكر الاختلاف، طارحا وراء ظهره كل أحادية منهجية، ومتحررا من كل دوغمائية. بالفعل لقد دشن لفكر مغاير، جعله ينتبه مبكرا لخصوصية الفن العربي الإسلامي، وأن يلتقي بالمقدس، ليس باعتباره موضوعا متعاليا، وإنما باعتباره حضورا في الفن. هذه اليقظة، وهذا الانتباه المبكر للاهتمام بخصوصية العلامات المشكلة للهوية، دفعت برولان بارت إلى تدبيج اعتراف عز نظيره بين المثقفين تحت عنوان «ما أدين به للخطيبي»، ورد فيه «إنني والخطيبي نهتم بالأشياء نفسها، بالصور، والآثار، والحروف والعلامات، وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي شيئا جديدا، يخلخل معرفتي لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها، يأخذني بعيدا عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسني في الطرف الأقصى من نفسي.. إن الخطيبي معاصر، يسهم في هذه التجلية التي بدخيلتي وشيئا فشيئا أدرك كيف أن المشروع السيميائي الذي أسهمت فيه ولا أزال، ظل حبيس مقولات الكلي التي تقعد كل مناهج الغرب منذ أرسطو. كنت أفترض ببراءة، وأنا أسائل بنية العلامات أن هذه البنية تبرهن على عمومية ما. تؤكد على هوية لم تكن، في العمق، وبسبب المتن الذي اشتغلت عليه، إلا هوية الإنسان الثقافي لموطني، والخطيبي يقوم بمعنى ما بالشيء نفسه لحسابه الخاص، إنه يسائل العلامات التي ستجلي له هوية شعبه... وهنا يمكن لغربي (مثلي) أن يتعلم شيئا من الخطيبي، إننا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله فليس أساسنا اللغوي واحدا، ومع ذلك يمكن مثلا أن نأخذ عنه درسا في الاستقلال (ce que je doit a Khattibi). فالخطيبي كما قدمه بارت، يخلخل معرفة الآخر، ويجره إلى أرضه، كاشفا عن خصوصية شعبه، وعن طبيعة ثقافته، فدرس الخطيبي نحتاج إليه دائما لتعميق البحث في نسق العلامات التي تشكل هوية حضارتنا، هذه الخصوصية هي ما سنحاول إبرازه من خلال تناول الخطيبي للفن العربي في سياق التنصيص على خصوصية حضارة العلامة. طبائع الحضارات.. تمايزها يستعير الخطيبي تمييزا دقيقا لطبائع الحضارات من أحد العرفاء، يقول فيه: «هناك ثلاثة نماذج كبرى للحضارات: حضارات الصورة (الحضارة الأوروبية وامتداداتها في أمريكا الشمالية والجنوبية)، وحضارات العلامة (الحضارة الهندية والصينية والإسلامية التي تقيم قوتها الرمزية في القرآن باعتباره معبد الكتاب)، وحضارات الإيقاع (كالحضارة الإفريقية)». ويؤكد الخطيبي أن مفهوم الفن المعاصر الذي انبثق في الخمسينيات باعتباره نظرة جديدة على «عالم منهار ويعاني من التقلبات» هو مفهوم متمركز حول التجربة الأوروبية والأميركية الشمالية»لا يقدم نظرة مكتملة عن ابتكار الحداثة والمستقبل في دوائر حضارية أخرى«(ص3) ولذلك يجب التفكير في المقارنة بالتمييز، وإبراز القيمة المتبادلة للحضارات الفاعلة في مسألة الفن. فما يميز الفن العربي الإسلامي، الذي راكم مسارات وموروثا، حسب الخطيبي، هو أنه موسوم بالمزيات الآتية: «استقلال اللون، وصفاء الأشكال، وهندسة مطلقة، وقوة الزخرفة سواء في العمارة أو التوريق أو الزواقة أو المنمنمات (4) والخط والفنون والحرف بتنوع موادها، من حجر ومعادن ونحاس وجلد وورق وحرير. فهناك وفرة في العلامة لا ينقصها الجمال ولا تخلو من قوة غامضة مميزة، ومن تم فإن الفن العربي الكلاسيكي ظل يخترق الحداثة التشكيلية المعاصرة. إذ «قيمة الفن ذي الأشكال الثابتة الذي يخضع للرغبة في الخلود، لم يكف عن بصم نظرة التشكيليين وذاكرتهم البصرية». (5) والتجريدية التي هي خصيصة الفن العربي الإسلامي هي «تجريدية نابعة من حضارة العلامة» (6)، ليس لها «التاريخ نفسه ولا التأليف الجمالي ذاته الذي يميز الفن التجريدي الغربي». وبحسب الخطيبي فهذا الفرق الأساس بين التجريديتين راجع إلى أن «النظر إلى العالم بعيون الكتاب والتوريق يفترض فكرا متوحدا مع كل رغبة في الخلود». وقد أوضح الخطيبي هذا الفرق الدقيق باستشهاده بقولة لبول فاليري حول الفن العربي الإسلامي اتسمت باستبصار لروح حضارة العلامة، يقول فاليري: «إن المخيلة الاستنباطية الأكثر تحررا، والتي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ الإسلام التي تحرم دينيا كل بحث عن محاكاة الكائنات في النظام التشكيلي هي التي ابتكرت التوريق، وأنا أحب هذا التحريم، فهو يجرد الفن من عبادة الأصنام، ومن الخيالات الزائفة والحكي والاعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة. أي من كل ما لا يكون خصبا بذاته، بحيث إنه يطور مصادره الباطنية ويكتشف بذاته حدوده الخالصة، ساعيا إلى بناء نسق من الأشكال يكون مستنبطا فقط بالضرورة والحرية الواقعتين التي يقوم بإعمالهما» (7). إن هناك اختلافا حضاريا يحمل في طياته الإمكانات الإبداعية الخلاقة، فرجوع المنتظم للفن الإسلامي القديم من قبل التشكيليين العرب وغير العرب ليس تعبيرا عن حنين انطوائي وتقديس للأطلال. «ربما كان ذلك الرجوع يخفي السر التشكيلي لكل حضارة تستمر في موروثها البصري، في الحجب الدائم للحياة والموت بفن الأوهام» (8) فما يميز الفن الكلاسيكي العربي الإسلامي كما بين ذلك الخطيبي في هندسة البيوت والقصور والجوامع هو صفاء الأشكال، وعراء الجدران الذي تزينها زخرفة خفيفة. وفي الخط يتبدى ذلك في الصفحة التي نجد فيها كتابة من درجة ثانية تمنح للنص تموجات بين فن الخط واللون والإنشاد الصامت. لقد أبرز الخطيبي في دراسته الرائدة الدقيقة ما للفن العربي الإسلامي من إمكانات هائلة في رفد الفن التشكيلي الحديث من مقومات ومن جماليات ما زالت تبهر وما زالت تحتفظ بديمومتها. .......................................................................................... هامش: * الاقتباسات الواردة بين العلامتين «» من كتاب الفن العربي المعاصر، الخطيبي، ت: فريد الزاهي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©