الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حضارتنا معتلّة.. ومختلّة

حضارتنا معتلّة.. ومختلّة
10 يونيو 2015 21:38
الحضارة ظاهرة مقترنة بالإنسانية، والإنسانية مقترنة بالقيم. ومعنى هذا أنه لا يمكن أن نختزل مفهوم الإنسانية في خاصية واحدة أو بُعد واحد، فلا يمكننا - على سبيل المثال- أن نقنع بمجرد القول بأن الإنسان حيوان اجتماعي أو مدني بطبعه، بمعنى أنه يميل بفطرته إلى الاجتماع بغيره من الناس والتعاون معهم؛ لأجل تدبير حاجاتهم المشتركة، وهذا أصل نشأة الصناعات التي تعتمد على جهود متباينة لكثرة من البشر. غير أن القول بأن «الإنسان حيوان اجتماعي» لا يقدم لنا فرقاً نوعياً يميز النوع الإنساني عن غيره من الأنواع الحيوانية؛ فمن المعروف أن التجمع، ومن ثم التعاون، يوجد في عالم النحل والنمل من خلال نظام اجتماعي دقيق، ربما يفوق أحيانًا نظام البشر: فالنحل يبني خلاياه من خلال عمل دقيق منضبط، يتطلب نظاماً اجتماعياً من التنسيق والمشاركة شديد التعقيد! غير أن «التجمع» أو «الاجتماع والتعاون» ليس بذاته فضيلة أو قيمة أخلاقية؛ لأنه يمكن أن يكون- كما هو الحال في عالم الحيوان- وليد الغريزة والطبع؛ فهو ليس نتاجاً لإرادة حرة فردية واعية تعبر عن نفسها من خلال المحاولة الدائمة لتجاوز الأوضاع والنظم الاجتماعية السائدة والمستقرة. وبذلك يمكن القول بأن التجمع أو الاجتماع في حد ذاته، ليس هو ما يميز التحضر الإنساني، وإنما ما يميزه حقاً هو قدرة الإنسان على التعبير عن وجوده من خلال إبداعات فردية تحاول تجاوز الأوضاع والنظم الاجتماعية المستقرة. غير أن هذا الإبداع لا يعني نبذ ما هو قائم، وإنما يعني تجاوزه من خلال تطويره، وهذا هو معنى التقدم. اعتلال الأخلاق والروح وإذا لم يكن التجمع أو الاجتماع البشري- في حد ذاته- طابعًا مميزًا للإنسان؛ ومن ثم للحضارة، فإنه يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة تلك القيم الإنسانية الأخرى التي تميز الإنسان وحده باعتباره صانعًا للقيم؛ ومن ثم للحضارة. غير أن الأخلاق من بين القيم جميعًا لها مكانة خاصة في فهم الحضارة، كما أكد ذلك كثير من فلاسفة الحضارة. ولذلك فإن الإنسان الحديث ربما ينعم بالجانب المادي المرفَّه من الحضارة المعاصرة، ولكنه- في الوقت ذاته- يفقد حريته الاقتصادية عندما يصبح أسيراً للعمل اليومي المرهق لتدبير قوت يومه، وهو عمل يُستهلَك فيه لحساب رأسمالية متوحشة، تسعى للاستغناء عنه تدريجيًا كلما تقدمت الآلة وأمكن أن تحل محل البشر. وبذلك يفقد الإنسان المدني المعاصر استقلاله الروحي، ومن ثم يفقد إنسانيته: ويتبدى هذا حينما يصبح غير قادر على أن يخلو إلى نفسه، ويفقد صلته بالطبيعة، بل بالبشر المحيطين به، حتى في مكان مكتظ بالسكان؛ بسبب السرعة واللهاث الذي يعيش فيه، والاتصال الآلي الذي يفتقر إلى الطابع الشخصي الإنساني، الذي أصبح مألوفًا في الحياة المتمدينة التي تُسقط الجانب الروحي للإنسان من حسابها! ولذلك فإن اشبنجلر Spengler في كتابه «انحلال الغرب»- الذي صدر بعد الحرب العالمية الأولى- يتنبأ بموتها حوالي سنة 2400. ولو تأملنا موقف اشبنجلر، لوجدنا أن العلل الأخلاقية والروحية (بمعنى اعتلال الأخلاق والروح) هي التي تكمن وراء اعتقاده في أن الحضارة الغربية في مرحلة أفولها: لأن هذه الحضارة يسودها الآن منطق الآلية والقوة المادية؛ إذ يُقاس كل شيء بقوة الأحصنة وبقيمته النقدية، لا بقوته الروحية، وتسود الاتجاهات اللادينية، ويغيب عنها الإبداع الفني والفلسفي، وتحركه القوى الاقتصادية والمادية والسياسة. مثل هذه الحضارة لا بد أن تكون قد فقدت طاقتها الروحية وقدرتها الإبداعية. إن هذا المنحى الأخلاقي في فهم الحضارة، وتفسير نشأتها وتدهورها، نجده أيضاً عند توينبي، ومن قبل عند ابن خلدون. حقًا إن ابن خلدون كان يتحدث عن الحضارة الإسلامية، إلا أنه كان يتخذ من تاريخ هذه الحضارة مادة خصبة يمكن أن يستخلص منها قوانين عامة تفسر نشأة الحضارة وتدهورها. فابن خلدون يصور لنا دور التحلل الخُلُقي في انهيار الدولة، وذلك في معرض حديثه عن الترف من حيث تأثيره النفسي والأخلاقي. ولا شك أن الترف له تأثير سلبي على اقتصاد الدولة، يتمثل في إسراف الحاكم وبطانته، بل الرعية أو المواطنين أيضاً؛ لأن الناس على دين ملوكهم؛ فيلجأ الحاكم لزيادة المكوس (جباية المزيد من الضرائب) ليفي بخراج الدولة (أي المنصرف)، وقد يلجأ الحاكم (أو الحكومة) إلى مشاركة الناس في أرزاقهم بالمشاركة في البيع والشراء، فتفسد الأسواق، وتُباع بضائع التجار بثمن بخس. وهذا الخلل الذي يتحدث عنه ابن خلدون هو ما يُعرَف الآن بالعجز في موازنة الدولة. توينبي والتفسير الأخلاقي إن الصورة المتطورة لفهم الصلة العميقة بين الحضارة والبعد الإنساني، ممثلاً في العوامل السيكولوجية والأخلاقية، تتمثل بوضوح لدى توينبي Arnold Toynbee في كتابه العُمدة «دراسة في التاريخ» A Study of History، الذي استغرق عشر مجلدات كتبها توينبي فيما بين عامي 1921 و1961، أي في حوالي أربعين سنة. وهذا الدافع السيكولوجي يتبدى كذلك في الـتأثير الذي تُحدِثه الأقلية الحاكمة في جموع الشعب: فعندما تفقد تلك الأقلية الطاقة المبدعة فيها، تغيب القدوة والنموذج؛ فيتحول المجتمع إلى أقلية مسيطرة تحكم بالقهر أغلبية ذليلة تتحين الفرصة للثورة. غير أن البعد الإنساني للحضارة عند توينبي، يتبدى أيضًا في تفسيره للحضارات على أساس ديني: فليس مقياس التحضر هو التوسع الإمبراطوري أو الاستعماري، بل إن هذا نذير بإفلاس الحضارة؛ لأن الحضارة عندئذ تكون قد فقدت قوتها الروحية وطاقتها الإبداعية، وهذه القوة الروحية تتمثل أساسًا في الدين. ولذلك يصنف توينبي الحضارات التي بقيت على أساس ديني، وهي: الحضارة المسيحية الغربية (في أوروبا وأمريكا)، والحضارة المسيحية الشرقية الأرثوذكسية (في روسيا ودول البلقان)، والحضارة الإسلامية، والحضارة الهندوكية (في الهند)، والحضارة البوذية (في منطقة الشرق الأقصى). إن الأقلية الحاكمة والصفوة عندما تفقد طاقتها الإبداعية وسموها الروحي، فإنها تفقد بذلك مكانتها وسحرها لدى الجماهير، وهو ما يدفع الأقلية الحاكمة إلى تعويض قصورها وإفلاسها بالتوسع الخارجي من خلال الحرب، وغالبًا ما يصاحب ذلك تقدمًا تكنولوجيًا. ولكن هذا كله يعبر عن مظهر خادع للتطور؛ لأنه يفتقر إلى التطور الروحي. كما أن الفلسفات والأيديولوجيات، التي تروج لها الصفوة، تشارك هي الأخرى في هذا الخداع؛ إذ تستخدمها الأقلية الحاكمة للتغطية على فشلها وضعفها الداخلي. فنزعة التوسع والهيمنة من خلال الحرب، إنما هي تعبير عن إخفاق النفس البشرية وعدم قدرتها على الارتقاء إلى المستوى الإنساني الذي يليق بالإنسان، وهي تكشف عن انحطاط النفس البشرية وانغماسها في نزعة بربرية همجية، وهذا نذير بفناء الإمبراطورية وهلاكها من داخلها. الحضارة وأزمة الإنسان الحديث لقد اتضح لنا مما سبق أن الأخلاق والقيم عموماً هي عماد الحضارة. وبما أن الدين مصدر أساسي للأخلاق والقيم، فإن إقصاءه أو استبعاده من حياة الإنسان، يكون نذيراً بانهيار الحضارة. وإجمالاً يمكن القول إن غياب البعد الروحي هو مناط أزمة الإنسان الغربي الحديث، الذي توشك حضارته على الأفول في رأي كثير من كبار الفلاسفة والمفكرين الغربيين أنفسهم، كما نوهنا إلى ذلك من قبل. ولقد كرس كثير من المفكرين جهدهم لتشخيص أزمة الإنسان الحديث، وهنا نجد أن الإنسان الذي يقصده المؤلف دائماً هو الإنسان الغربي، باعتبار أن الحضارة المهيمنة التي يحيا فيها هذا الإنسان هي الحضارة الغربية. وبطبيعة الحال، فإننا عندما نقول إن الحضارة الغربية هي الحضارة التي لا تزال مهيمنة، فإن هذا لا يعني أنه لا توجد هناك حضارات أخرى بجوارها، فوفقًا لتوينبي- كما رأينا- هناك أربع حضارات أخرى بجوارها. غير أنه يمكن القول إن بعض هذه الحضارات في مرحلة سكون أو كمون: كالحضارة الإسلامية، وبعضها ناهض كأنه يبعث وجود ماضٍ تليد: كحضارة الشرق الأقصى. غير أن المشكلة تكمن في أن الإنسان الغربي الحديث لا يعي مشكلته، وأن كثيراً من البشر- خاصة في العالم الذي لا يزال متخلفاً- ينظرون إلى الحضارة الغربية باعتبارها النموذج الذي ينبغي تحقيقه، وإلى الحياة التي يحياها الإنسان الغربي باعتبارها جنة عدن وغاية المراد. ومن هنا تأتي أهمية المفكر الذي يجعل الناس على وعي بأزمتهم، حتى يتمكنوا من تجاوزها أو تجنبها إن أمكنهم ذلك. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا بدأ الإنسان المعاصر يدرك أهمية النظرة الإنسانية - والأخلاقية خاصةً - لكثير من العلوم الطبيعية، فبدأت تتعاظم تدريجياً أهمية علوم جديدة مستحدثة، من قبيل: علم أخلاق الطب، وعلم أخلاق البيئة، وعلم أخلاق التكنولوجيا.. إلخ. ولذلك يمكن القول بأن الإنسان في الحضارة المعاصرة قد أصبح مفتقداً إلى نظرة شاملة للكون، وإلى نظرة أخلاقية للحياة؛ ومن ثم فقد غابت الأسئلة الفلسفية الكبرى عن هذا الفكر، وأصبح مستغرقاً في المسائل الفلسفية الأكاديمية التخصصية الصغيرة. وفي مقابل ذلك، نجد أن الرؤية الشاملة للكون، المؤسسة على نظرة أخلاقية للحياة ولدور الإنسان في هذا الكون- هذه الرؤية كانت مركزية في حضارات الشرق القديمة: كالحضارة المصرية القديمة، والحضارة الهندية، والحضارة الصينية. إن الافتقار إلى هذه الرؤية الشاملة للكون المرتكزة على نظرة أخلاقية، هو ما يهدد بالفعل مصير الحضارة الغربية؛ إذ إن له تأثيراً سلبياً على سائر مناحي الحياة الاجتماعية. وحتى الشعور بالقانون ذاته يفقد روحه؛ لأنه يصبح خالياً من الإحساس بالالتزام الأخلاقي فيما يرى اشفيتسر Schweizer في كتابه فلسفة الحضارة Kulturphilosophie؛ فالقانون والأخلاق كلاهما ينبع من فكرة أساسية واحدة، هي: احترام الحياة والإنسانية، بينما الحضارة الغربية الراهنة- ومن نحا نحوها- تسقط من حسبانها ذلك المبدأ الأساسي، الذي يكفله القانون الطبيعي للمواطن، أما غير المواطنين، الذين يقعون تحت وطأة قوة دولة أجنبية، فإنهم يعاملون معاملة الخارجين على القانون. وكأن اشفيتسر كان يتنبأ بما يحدث في عالمنا اليوم. ولذلك فإنه في فصل بعنوان «أزمة الحضارة وأسبابها الروحية» يشخص تلك الأزمة بقوله: «إن الخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جداً من تقدمها الروحي. لقد اختل توازنها». فلقد تميزت تلك الحضارة بالسيطرة على قوى الطبيعة، والاتساع الهائل في المعرفة، وكل هذا جعل أحوال الناس المعيشية متطورة من نواحٍ عديدة، ولكن الحماس للتقدم في المعرفة وأسباب القوة، يجعل تصورنا للحضارة ناقصًا معيبًا؛ إذ أننا بذلك نغالي في تقدير الإنجازات المادية للحضارة، ولا نقدر أهمية العنصر الروحي في الحياة حق قدره. ولذلك يؤكد اشفيتسر بلهجة حاسمة: «إن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية، دون أن يواكب ذلك نمو متكافئ في ميدان الروح، هي أشبه ما تكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة». الترف.. هادم الحضارات تتمثل الآثار الأخلاقية النفسية السلبية للترف، في أن الترف وإن كان في الأصل مظهراً من مظاهر الحضارة التي صنعها جيل بسواعده فانتقل من حياة الشظف إلى حياة الترف، إلا أن ازدياد الترف واستمراره يؤديان إلى ظهور جيل لم يذق إلا حياة الترف، فينغمس أبناؤه في حياة النعيم، ويعكفون على المتع والشهوات، ويركنون إلى السكون والدعة حتى يصبحوا عيالاً على الدولة، وكأنهم من جملة النسوان والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم. ابن خلدون
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©