الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وشم باريس.. صورها المتعدّدة

وشم باريس.. صورها المتعدّدة
10 يونيو 2015 21:40
الشعر والفكر، في هذا النص، يتواشجان في نشيد لا يروم تمجيدا للذات أو اختلاق ملحمة ذات نزوع مأساوي خالص، إنهما يتطابقان في جدال وحوار أشبه ما يكون بموسيقى فاغنرية: «هات حكاية جميلة وإلا قتلتك. هذا المبدأ الحصري على الإطلاق المعتمد في ألف ليلة وليلة من شأنه، عندي، أن يؤدي بكل راو حيث يتجلى: صورة لحد مشع منه – قد – ينبعث نشيد الشعر والفكر» (ص7). يزحزح الخطيبي جرحه القدري تحت ضوء كاشف، ويتقلّب تهويمات أشكاله وعنف مفارقاته، عبر تقاطعات الغيرية الصادمة، صدمة تاريخية وجمالية وفكرية، قبل أن تكون لغوية وذاتية. هويّات ملتبسة عن زخم الهويات المارقة، الملتبسة والمتعددة، ولو على سبيل الازدواجية، تلوح المدن في «الذاكرة الموشومة» كمجرات تستأثر بالغواية والمسخ والتحول، كمرايا شيطانيّة، يدخلها الخطيبي فيؤول إلى ذوات منشطرة، لا سبيل إلى لملمة شظاياها المنزاحة، بدءا بمدينة الجديدة وصنْوتها الصويرة، ومراكش مدينة مراهقته، ثم باريس ولندن وستوكهولم... يفرد الخطيبي حيزا مركزيا لباريس في ذاكرته الموشومة، على غرار باريس خوليو كورتاثار وجورج أورويل وهمنجواي وهنري ميللر.. إلخ يسافر الخطيبي إلى باريس كطالب لعلم الاجتماع في السوربون، ولا يخفي لقاءه بالغرب في «رحلة الهوية والغيرية المتوحشة»، يعلن السفر بلا رجعة كما لو كان قد عقد العزم على التلاشي في غواية الضفاف الأخرى، محملاً بأعطابه وجروحه النرجسية. باريس السريّة تبدو باريس شأنها شأن اللغة الفرنسية «غريبة جميلة شريرة»، منشطرة إلى صور، الصورة الأولية هي صورة باريس الأيروتيكية، التي يكتشف زمنها السري عبر غواية الجنس، وكان دليله إلى أبجدية «وزير النساء»، صديق مغربي له جدية الأب وخبث الخال. هناك صورة ثلاثية، لباريس سديمية، يجلو ملامحها تعاقب ثلاثة وجوه لأصدقاء غيْريّين، هم شريف الخلاسي (هوية إيرانية بولونية) شبيه ببهلوان في علاقاته النسائية، وجاك المولع بموسيقى الجاز، صاحب الجمال الخيالي، الذي يثير الاضطراب عند المراهقات، وبطرس الريفي المولع بالرسم. هكذا تتمزق أو تتلاشى صورة باريس البكر عند الخطيبي التي ارتبطت في مخيلته بسارتر، وصارت تتأرجح بين موسيقى الجاز وبريق أجساد النساء وهذر النظريات حول الثقافات الأخرى. باريس الموسيقية باريس الموسيقية، ستتضاعف مع حبّ الخطيبي للنّغمة الأشد تعقيداً، شأن صوت بيلي هوليداي وجون كولتران، الذي يحفزه قلقه على الكتابة: «جسدي ينصت فأنا كاتب» (ص 90). تتعمق العلاقة الموسيقية بباريس من خلال تعرفه على فتاة فاغنرية تعزف البيانو: «ذئبة يهيجها الهوى، أتت مرتعشة الجسد، دوارا عند الفتحات الفاغنرية، فقد تعبدت لهذا الموسيقي، تتحوط بالأسطوانات وتعزف على البيانو، جنونية، مشبوهة، مأساوية حتى التشنج» (ص 101). وعبر التسكع معها في نوادي الموسيقى يكتشف الخطيبي الحدود القصوى للذة والمعنى، الحدود القصوى للفراغ المفزع أيضاً. باريس الأدبية ثمة صورة أخرى لباريس الأدبية والثقافية، المتعلقة بتردّده على الحلقات الشعرية في المقاهي السرية، والجماعات في الحي اللاتيني الذي يصفه بمزبلته، أو قصره الرّملي «فيه أدفن مراهقتي فيما المبتزون ينامون في نهر السين مسدلي الجفون» (ص 91). في صلب ذلك الزخم الهادر كتب الخطيبي أشعارا وقصصا ونصوصا نقدية، مدركا لفخ باريس الشبيهة بمؤامرة، وفي معترك هذه التخوم، نسج صداقات مع كتاب كآلان روب جرييه، الذي ينعته بالمهووس المنهجي،: «نظام معتوه من العادات المضحكة السخيفة» (ص 92). أما باريس السينمائية، فصورة مزدوجة لها صلة بارتياده قاعات السينما بتلك المرحلة البكر، التي كانت تعرض أفلام شابلن مع أخرى ذات علاقة هشة بالواقع من جهة، ومن جهة ثانية لها صلة بصداقته مع المخرج جودار، الذي جمعتهما نقاشات حول أفلامه وفق هذيان الثقافات حسب توصيفه. هناك صورة لباريس اليسارية والراديكالية، ذات الارتباط بحرب الجزائر، إذ يعلن الخطيبي نفسه إلى جانب ماركس، كمناضل منقسم على نفسه (يختار الالتزام العملي حين يحلو له، ويختفي حين يمسي مأساة سخيفة) ص 95. يعود الخطيبي لباريس الرسم والفن التشكيلي، ليقرّ بأن الفنان شاجال كان هو الدليل العملي إلى المعرفة الفنية وتذوق اللوحات، إضافة إلى الرسام المغربي الشرقاوي الذي فتح باب الكلي في وعيه الجمالي، فيما يتعلق بنظرية الألوان. ثمة شعور يسجله الخطيبي غداة دخوله لمعرض ووقوفه أمام لوحة، إنه يشعر بوحدة تجعله يفكر في الهرب، وتكفيه لوحة واحدة لمدة أسبوع كي يستمتع باهتزاز إيقاعها البصري ورعب اللون. أما المعارض فيشبّه نضارتها (بنضارة المقابر: الغرب يعرف جيدا هذا المذاق الأخروي الذي ثمنه ألم الرسامين الكبير) ص: 96. ثمة صورة أخرى لباريس المسرحية، لا يتعلق الأمر بمشاهداته لمسرحيات في مسارح بعينها، بل يتعلق بنصوص مسرحية كتبها هو نفسه، وأُخرجتْ ومُثّلتْ، بعضها كان فاشلا وبعضها ظفر بنجاح خاص.. ابتدع الخطيبي مسرحاً جديداً: «لم يعد للمؤلف ولا للمخرج ولا للشخصيات أية فائدة. تقنية عجيبة لتدمير الحياة وخلقها من جديد» (ص 98). فضلا عن صورة ضمنية لباريس بورجوازية، تكشّفتْ له من خلال علاقته بصديق جزائري، كان يتقصى نساء القرى المجاورة المترفة، ويغنم لحظات جنسية مع زوجات الأثرياء، يأتي بهن فرادى ومثنى وثلاثا، فتواطأ الخطيبي معه في اللعبة، معريا عن وجه سافر للمدينة، عبر مطبخ زوجات الأثرياء.. باريس الخيانة الموشومة والعلاقات الإنسانية المزيفة والانتهازية.. تلك هي صور باريس الموشومة، المتاهيّة في المجمل، صاخبة وناهبة، حالمة ومجنونة، فردوسية وجحيمية، أليفة وغريبة، عابرة وراسخة، مضيئة وعاتمة، سديمية وملتبسة، واحدة ومتعددة، متناغمة وانشطارية.. إنها باريس الذاكرة الموشومة، التي ينعتها الخطيبي في علامة مكثفة وموجزة، بمرتع غيريته: «الغيرية امرأة، والغيرية المتوحشة غواية خفية» (ص 104). ....................................... * عبد الكبير الخطيبي، الذاكرة الموشومة، ت: بطرس الحلاق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر1984. مدينة كل شيء تتبدى باريس في نص الخطيبي: صاخبة وناهبة، حالمة ومجنونة، فردوسية وجحيمية، أليفة وغريبة، عابرة وراسخة، مضيئة وعاتمة، سديمية وملتبسة، واحدة ومتعددة، متناغمة وانشطارية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©