الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حق الاختلاف... ومسألة الآخر

11 يونيو 2011 23:54
إبراهيم رمضان متخصص في شؤون الشريعة والفقه المقارن ممّا حفظتُه عن والدتي رحمها الله تعالى، قصّة هادفة منسوبة إلى نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد جاء في القصّة: أن إبراهيم عليه السلام كان لايحبّ أن يأكل إلاّ مع ضيوف، وكان يحرص على ذلك كلّ الحرص، حتّى إنّه كان يتصدّى لسبل الناس المطروقة ليحظى بضيف يضمّه إلى مائدته، وربما انتظر لهذا يوماً أو بعض يوم. وفي أحد الأيام قصد بعض الطرق ليجد ضيفاً يشاركه غداءه، فظفر بمسن نيّف على الثمانين من العمر، وبعد الدعوة والترحيب، وبعد أن جلسا إلى مائدة الطعام، خاطب إبراهيمُ الضيفَ قائلاً: يا أخي سمِّ الله وتفضّل للطعام. فنظر الضيف منكراً وقال: ولكننّي لا أعترف بوجود إله حتّى أذكره، فغاظ هذا الكلامُ إبراهيمَ، وعبثاً راح يحاول أن يقنعه بفساد مقولته، ولمّا استيأس منه أخذ الطعام من أمامه ودفعه خارج خيمته. وما أن خرج الرجل وعاد إبراهيم إلى عزلته حتّى عاتبه الله تعالى على صنيعه مع الشيخ، وحاول إبراهيم أن يبرّر أمام ربه عز وجل أنّ الرجل ملحدٌ لا يؤمن بالله، فقال له الله تعالى: يا إبراهيم، أرزقه منذ ثمانين عاماً وأنا أعلم به، وأنت ضِقْتَ عن إطعامه وجبةً واحدةً. فسارع إبراهيم وراء الرجل معتذراً، حتّى أدركه بعد مسافة طويلة، فتعجّب الرجل وشرح له إبراهيم ما حصل، فقال الرجل: ربٌّ يعاتب عبده من أجل من ينكره ربّ كريم. أسوق هذه القصّة لا لأناقش سندها وصحتها إثباتاً أو نفياً، بل لأستفيد من العبرة التي وردت فيها بأسلوب إقناعيّ لا يضعفه أن تكون هذه القصّة غير ثابتة تاريخيّاً، وربّما ألّفها حكيم ليعرِض رأيه في قالب من الحوار، مستعيناً بالشخصيّة المناسبة لحمل هذه العبرة وأدائها. وكثيرة هي النصوص الدينيّة المؤيّدة لهذه العبرة، إن كان في معنى تكريم الإنسان بغضّ النظر عن انتمائه، أو في معنى تفويض حق الاختيار للإنسان دونما إكراه. فقال سبحانه وتعالى: "ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء: 70). وهذه النصوص تسوقنا إلى قبول حقّ الآخر في أن يكون مختلفاً، سواء في المعتقد أو في السلوك. غير أنّ التاريخ والواقع يحملان صوراً كثيرة، لدى بعض الناس، من إنكار هذا الحقّ للآخر والاحتفاظ به للأنا. وكأنك أنت لا يحقّ لك أن تخالفني، ولكن أنا لي كل الحقّ في أن أخالفك! ذلك أنّ الرافضين للآخر ولحقه في الاختلاف يلجؤون إلى نصوصٍ أُخَرى ويجعلونها أدلّةً لمذهبهم، فيُضيّقون سَعَةَ الدين، ويُشوِّهون سماحته. وإزاء هذا الحاصل فإنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتق النخب الواعية في المجتمعات تتعاظم، وعليهم أن يجهدوا ليبيّنوا لجمهور الناس أنّ حقّ الآخر في الوجود والاختلاف مساوٍ لحقّ الأنا فيهما، ودفاع الأنا عن حقّ الآخر يجب أن يكون تماماً كدفاعها عن حقّها سواء بسواء، فتكامل الإنسان مع أخيه غناء وقوّة، وتقاتلهما إفلاس وضعف. ولا يكفي لإثبات هذا استحضار النصوص الثقافيّة دينيّةً وغيرَ دينيّة، بل لابدّ من تعميم ذلك سلوكاً وثقافةَ حياة، ليُدرك الإنسان أنّ مصيره مرتبطٌ بمصير الآخر رخاءً وشقاءً، راحةً وعناءً. إنّها مسألة تربية وتوجيه بقدر ما هي مسألة تعاليم وفلسفة. وتضافر الجهود بين الموجّهين الدينيّن والمربّين من أهل ومعلّمين للتركيز على المساحات المشتركة بين بني البشر، وأنّها أكبر بكثير مما قد يضيقه الاختلاف، عاملٌ مهمٌّ لكسب هذه الجولة. ولابدّ من الاعتراف بأنّ ما تعيشه المجتمعات من صراعات عنيفة، لا يخدم فكرة قبول الآخر، فلا يمكن للإنسان وهو يشعر بأنّه مهدّد في وجوده وهويّته أن يتعامل مع الآخر باتّزانٍ وعقلانيّة، وتنتج عن هذا الشعور ردّات فعل يكون لها أثرٌ كبير في توسيع هوّة الاختلاف وتغوير عمقها. إنّ التعرّف إلى الآخر عن كثب ومخالطته يكشفان للمرء أنّه يشبه الأنا، وأنّ الصراعات المريرة التي قامت على أساس الأنا والآخر خدمت في أكثر الأحيان، ولا تزال، أشخاصاً وصوليّين، يفكّرون في أشخاصهم، ولا يهتمّون للأنا ولا للآخر. الأمر الذي يُسهم في تحرير الأفراد بشكلٍ أو بآخر، ويجعلهم أقدر على التواصل والتعاون، وكلّما كان ذلك في مرحلة أبكرَ من حياة الفرد، كلما كان مردوده أكثر. ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©