الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علينا الاعتناء بـ «صِدام العصبيّات» لا «صِدام الحضارات»

علينا الاعتناء بـ «صِدام العصبيّات» لا «صِدام الحضارات»
28 سبتمبر 2017 01:56
أحمد فرحات بيروت (الاتحاد الثقافي) د. فريدريك معتوق واحد من أبرز وأنبه علماء الاجتماع في لبنان والبلدان العربية اليوم. عمل ويعمل على صقل أدواته النظرية ومفاهيمه العملانية لتقديم بحث سوسيولوجي عربي خالص، يقوم على دراسة ظاهرة عربية معاصرة، وهي هنا ظاهرة استنهاض العصبيّات، بالاعتماد على نظرية عربية أيضاً، هي نظرية ابن خلدون في العصبيّة. يعتبر البروفسور معتوق ابن خلدون أستاذه في تأليف كتابه الجديد «صدام العصبيّات العربية» (يصدر قريباً في بيروت)، وخصوصاً لجهة استناده إلى أطروحة صاحب «المقدمة» في العصبيّة، والتي تعود إلى ستة قرون ونيف خلت، حيث تسنّى له كمؤلف تقديم بعض الإضافات عليها من منطلق المستجدّات السياسية والمعرفية التي حصلت في التاريخ العالمي، وأبرزها نشوء المواطنة المدنيّة في الغرب في أعقاب الثورة الفرنسية، والتي حضرت نظرياً في الخطاب السياسي العربي لمرحلة ما بعد النهضة. ويعترف د. معتوق بأنه وجد لدى ابن خلدون مختلف الأساسيّات النظرية التي كان يحتاج إليها في مبحثه الجديد، مشيراً مع «أستاذه» الكبير إلى أن العصبيّة مسألة قابلة للتفكيك، كونها مركّبة تركيباً ذهنياً أصلاً.. وهكذا فصاحب «المقدمة» لا يتعامل مع العصبيّة كمفهوم مقدّس وسرمدي، بل كمفهوم نسبي، عمرانياً واجتماعياً. هنا حوار مع د. فريدريك معتوق بمناسبة قرب صدور كتابه «صدام العصبيّات العربية» في بيروت، والذي يُقدّم فيه استعراضاً لتجارب السياسة والدين في اليهودية والمسيحية والإسلام. وهو يتطرّق إلى ظاهرة العصبيّة من منظور علمي بحت، تاريخياً وراهناً، فلا يرى فيها سلباً بالمطلق، ولا هي بالطبع شأن إيجابي يُعوّل عليه. فالعصبيّة، كما يراها، منظومة تفكير حيّة، ليست مغلقة ولا جامدة (كما السائد لدى غالبيّة المثقفين العرب)، بل قادرة على التأقلم مع المستجدّات والتطوّرات، إلا أنه ينصح، في النتيجة، بأن عصبيّات العالم العربي بحاجة إلى بديل حضاري، لا إلى عمليات مواءمة. في ما يلي تفاصيل الحوار: * بروفسور معتوق، قدّم لنا مدخلاً لكتابك الجديد «صدام العصبيّات العربية»؟ ** دار الحديث طويلاً في العقدين المنصرمين حول «صدام الحضارات»؛ وكنت ألمس على الدوام أننا غير معنيين فعلاً بهذه الفكرة التي صاغها صموئيل هنتنغتون على قاعدة إشكاليّة غربية. أما نحن في العالم العربي، فمعنيون بصدام العصبيّات. بدأت أقارب الموضوع مطلع التسعينيات من القرن الفائت في كتاب حمل عنوان:«جذور الحرب الأهلية» في لبنان وقبرص والبوسنة والصومال؛ وقد توصلت في حينه إلى بعض الاستنتاجات الدالة، ومنها أن الحروب الأهلية، إنما تتكاثر في البلدان ذات التركيبة الاجتماعية والسياسية الهجينة. آنذاك بدا كلامي عن الصراع بين العصبيّة الإسلامية والمسيحية في الحرب الأهلية اللبنانية، والكلام بين العصبيّة اليونانية والتركية في خضم الحرب الأهلية القبرصية، والكلام عن الصراع بين العصبيّة الصربية والعصبيّة البوشناقية في البوسنة؛ كما الكلام على الصراع بين عصبيّات قبائل الوسط والشمال والجنوب في الصومال، كلاماً مزعجاً لا يتناغم مع ما اعتادت الآذان سماعه في تحليلات لا تأخذ بعين الاعتبار إلا المشهديات الإيديولوجية الكبيرة؛ غير أن بحثي الميكروسوسيولوجي في يوميات الأحداث التي جرت في مختلف هذه البلدان، كان يبيّن لي صحة فرضيّة العصبية... إلى أن جاء زمن ما سُمّي بـ«الثورات العربية» بعد العام 2011، حيث طغت على سطح الماء غوّاصات العصبيّة التي كانت تشتغل قبل ذلك على نحو كامن تحت سطح الأحداث السياسية المعلنة، بحيث أضحت هويّات الصراع المعلنة من طبيعة عصبيّة يجاهر بها المتقاتلون ويتصرّفون بـ«هداها». في هذه الأثناء كنت على يقين من مسألتين مترابطتين (كما الحالات التي درستها قبل عقدين من الزمن)، تتمثل الأولى بالعقل المدبّر الخارجي القيّم على إثارة هذه الصراعات الداخلية في بابها العصبيّ، وتتجسّد الثانية في هذا التلذّذ الداخلي المحلّي باستنهاض الصدامات العصبيّة المذهبيّة، بحيث إن مسؤوليّة العامل الخارجي تتغذّى من مسؤولية العامل الداخلي. وبما أنني عالم اجتماع عربي معني بقضايا المجتمعات العربية المعاصرة، رأيت أن من واجبي وضع هذه الظاهرة على الطاولة، وتشريحها. ومن أجل ذلك عملت على صقل أدواتي النظرية ومفاهيمي العملانية، بغية تقديم بحث سوسيولوجي عربي يقوم على دراسة ظاهرة عربية معاصرة (استنهاض العصبيّات) بالاعتماد على نظرية عربيّة أيضاً (نظرية ابن خلدون في العصبيّة). * ذكرت ابن خلدون، الذي كان بالفعل من أوائل الذين قرأوا العصبيّة من خلال القبيلة، وتوصل في المحصلة إلى أن التحوّلات السياسية والاجتماعية في مسار التاريخ العربي والإسلامي يمكن أن تُقرأ كلها من خلال مفهوم العصبيّة ومفتاحها العريض.. والسؤال كيف كان صاحب «المقدمة» حاضراً في ذهنك لدى انخراطك في مشروع تأليف كتابك حول العصبيّات العربية الراهنة؟ ** ابن خلدون هو أستاذي، أسوة بعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. ولطالما استعنت بالثاني في كتابي «سوسيولوجيا التراث»، بالاستناد إلى نظريته في الهابيتوس. أما اليوم، فاستند في كتابي الجديد على نظريّة ابن خلدون في العصبيّة. وبما أنّ نظرية ابن خلدون تعود إلى ستة قرون ونيّف، فقد تسنّى لي تقديم بعض الإضافات عليها من منطلق المستجدّات السياسية والمعرفية التي حصلت في التاريخ العالمي.وعلى الرغم من أن نظرية ابن خلدون كانت بحاجة إلى هذا الربط بالحاضر، في ما يشبه الـ LINK المعرفي، فإني أعترف بأنني وجدت لديه مختلف الأساسيات النظرية التي كنت أحتاج إليها، كمثل تعريف العصبيّة، التي هي عنده كلّ يتألف من ثلاث عتبات: ففي العتبة الأولى ثمة النعير، أي الصراخ الذي يخرج من أعماق الحنجرة؛ وفي العتبة الثانية هناك التذامر، أي التجمّع والاستنفار الذي تتحوّل فيه العملية من الفرد إلى الجماعة؛ وفي المرتبة الثالثة هناك الاستماتة، وهي تعني الانتقال من الاجتماعي إلى السياسي، ومن السكون الداخلي إلى الاستشهاد من أجل أهل العُصبة، علماً أن من يعطي إشارة النعير فالتذامر فالاستماتة، هو صاحب الشوكة في العُصبة. كما أن ابن خلدون قدّم لي مفهوماً مؤازراً تمثل بالصبغة الدينية التي تتلّون بها العصبيّة عندما ترتئيه مصلحة أهل العُصبة، فتلبس هذه الصبغة أو تتخلّى عنها بحسب الحاجة، في مثال قبيلتي المصامدة وزناتة في المغرب العربي. وهذا المفهوم الخطير والجريء، إنما يشير تحت قلم ابن خلدون إلى مسألتين: الأولى، هي سهولة الانتقال بالعصبيّة من رابطة الدم والرحم إلى العصبيّة كرابطة دم ودين ومذهب، على غرار ما هو حاصل اليوم. أما المسألة الثانية، والأخطر في هذه اللعبة، فهي أن العصبيّة القبليّة هي التي تمسك بزمام المبادرة، وتجرّ الدين أو المذهب إلى ملعبها؛ علماً أن الهدف الأبعد للعصبيّة، مهما كانت صيغتها أو صبغتها، هو المُلك، أي السلطة. كما أشار ابن خلدون بنباهة لافتة إلى أن العصيبّة التي تقوم في الأصل على الأنساب «شيء وهمي»، بمعنى شيء رمزي ومعرفي، وبالتالي فإن العصبيّة قابلة للتفكيك، كونها مركّبة تركيباً ذهنياً أصلاً؛ فهو لا يتعامل مع العصبيّة كمفهوم مقدّس وسرمدي، بل كمفهوم نسبي، عمرانياً واجتماعياً. * يقال إن العصبيّة هي الأصل في مراحل التاريخ البشري، وهي المحرك لعناصره البشرية المتنازعة على هذه الأرض، وعليه يقال إن القضاء عليها هو أمر مشكوك به وعليه، ولأجل الحدّ منها، ينبغي تنظيم هذه العصبيّات بتنظيم العلاقات المتوازنة في ما بينها في إطار المجتمع الواحد، وفي العلاقة مع سائر المجتمعات... ما تعليقك؟ ** بعد بحث طويل ومعمّق، تبيّن لي أن هذه الفكرة صحيحة؛ فالعصبيّة أول شكل للرابطة السياسية بين البشر؛ وعليه فهي أول وأقدم شكل للوعي السياسي عند الإنسان مذ كان يعيش في ما يعرف بالقطيع البشري الأول. العصبيّة هي الشكل التركيبي الأول للوعي الاجتماعي السياسي البشري، وهي ما ميّزه عن الحيوان، ذلك أنها جمعت تحت قيادة واحدة عشيرة صغيرة، ثم أكبر فأكبر إلى أن أصبحت قبيلة ثم قبائل وبطون. ولولا هذا التماسك الداخلي الواعي الذي قدمته العصبيّة واستماتت في الدفاع عنه على مستوى الجماعة، ثم العشيرة، ثم القبيلة عند المجموعات البشرية كلها، لما تمكن الإنسان من البقاء والتغلّب على حيوانات أقوى منه. وبهذا المعنى، شئنا أم أبينا، نحن مدينون للعصبيّة التي كانت إبيستمولوجياً أول شكل متقدّم نوعياً للوعي البشري، حيث إنه قبل تشكّل العصبيّة، كان الإنسان يعيش في ما يُعرّفه إميل دوركهايم بـ«التجمّع»؛ في حين أنه بعدها بات يعيش في صيغة التشارك؛ لذلك فإن التخلّي عن هذا الإرث المعرفي الثمين غدا صعباً جداً. بيد أنه تبيّن لي، من ناحية ثانية، أن العصبيّة منظومة تفكير حيّة. هي ليست مغلقة ولا جامدة، كما هو سائد لدى المثقفين بعامة، بل إنها نظراً لتجربتها التاريخية الطويلة، قادرة جداً على التأقلم مع المستجدّات؛ فعلى سبيل المثال، عندما ظهرت الأديان السماوية في حقبات زمنيّة مختلفة، وفي بيئات مختلفة، كادت العصبيّات تندثر كرابطة قبليّة، وكمنظومة فكرية سياسية خالية من أي بعد روحاني؛ فما كان يهمّ العصبيّات، كان المُلك الأرضي، في حين أن الأديان كانت تَعِد ناسها بالملكوت السماوي والحياة في الآخرة. غير أن العصبيّة عرفت كيف تستغل حاجة الأديان للحماية، ثم للسلطة، لتدخل معها في عمليات شراكة سياسية، أدّت بها إلى البقاء في السلطة تحت عناوين جديدة وشعارات مبتكرة. وفي كتابي الجديد «صدام العصبيّات العربية» استعراض لتجارب السياسة والدين في اليهودية والمسيحية والإسلام في هذا المضمار. لذلك، وبعدما غدت العصبيّة رابطة دم ودين ومذهب، وخاضت حروباً دينية، ثم مذهبية بعينها، بات التخلّي عنها شديد الصعوبة. أضحت بعد خضوعها الطوعي لعملية إعادة التأهيل البنيوية جزءاً من السلطة، شرقاً وغرباً، وجزءاً من الوعي السياسي التقليدي. أما أمر إزاحتها من الساحة بعد هذا التجذّر الطويل في الوعي البشري، فلن يكون عبر عمليات مساومة (علماً أن العصبيّات حاضرة دوماً للمساومات)، بل عبر طرح البديل. جاء هذا البديل عنيفاً في التجربة الغربيّة، عبر الفصل القسري بين الدين والدولة إبّان الثورة الفرنسية، التي تمخّضت عن صيغة حكم جديدة تفصل الدين عن السلطة السياسية عبر إطلاق الدولة الحديثة، دولة المواطنة القائمة على الدخول في صيغة الـ république من res publica التي تعني باللاتينية نظام الشأن العام؛ ودولة المواطنة قائمة على المساواة بين المواطنين جميعاً، على تنوّعهم الديني والمذهبي في نظام حكم قوانيني واحد يساوي في ما بينهم. والواقع أن الوعي السياسي لم يبتكر نظاماً أفضل حتى اليوم، حيث يقوم هذا البديل على التكامل integration بين مواطنين أحرار، لا على الاندماج القسري بين أناس لا استعداد لديهم للتخلّي عن عصبيّاتهم. والبلدان التي تقدمت جداً، في مقلبنا الآسيوي، هي تحديداً تلك التي اعتمدت صيغة هذه الدولة الحديثة كالصين وسنغافورة مثلاً. فتنظيم العصبيّات هو الحل الأسوأ، لأنه يبقيها في السلطة ويشرعن سيادتها الاجتماعية. وعصبيّات العالم العربي المعاصر بحاجة لبديل، لا لعمليات مواءمة، حيث إن هذه الأخيرة ستبقيه، جنباً إلى جنب مع تركيا وإسرائيل وإيران في حلبة من الصدامات الشرق أوسطية المستدامة. العصبيّة العربيّة المتجدّدة * إذاً، وبناء على ما سبق وذكرتم، هل بإمكاننا القول بعصبيّة إيجابيّة وأخرى سلبيّة؟ ** كيف للعصبيّة أن تتوزّع على خانتي الإيجابية والسلبية، والعصبيّات كلها مبنية على مبدأ أساسي هو الغلب؟ هدف العصبيّة الاستراتيجي، بحسب ما أوضحه ابن خلدون، هو المُلك، أي السلطة. وبلوغ هذا الهدف الأبعد، لا يتمّ إلا بالغُلب. لذلك فإن العصبيّة منظومة فكرية سياسيّة في المقام الأول، لا يتحقق مشروعها إلا ببلوغ السلطة؛ ولا يكون ذلك متاحاً، في منظورها، سوى بالتغلب على العصبيّة أو العصبيّات الأخرى المحيطة بها. من هنا لا ديمقراطية في الفضاء العُصباني. تؤخذ السلطة بالغُلب، بالقوة، وبكسر العدو، أو الخصم العصبي الآخر عسكرياً. في الدولة الديمقراطية الحديثة العدالة مبدأ، والمساواة مبدأ، والحرية مبدأ. أما في دولة العصبيّة، فالغُلب مبدأ، وشتّان بين هذا وذاك. في كل الأحوال لسنا مضطرين للذهاب بعيداً في هذا المجال؛ فالأمثلة كثيرة من حولنا. ما الذي تمكنت منه دولة العصبيّة المنتشرة في العالمين العربي والشرق أوسطي حتى اليوم؟ واقعاً لم تفرز هذه الدولة إلا ثلاث صيغ كلها فاشلة استراتيجياً. الصيغة الأولى، هي الصيغة التي ينفصل فيها المكوّن العصبي الأول عن المكوّن الثاني.. والعكس صحيح، كما حصل في السودان مثلاً، أي تقسيم نهائي وصريح للبلاد. واللافت، أن هذه الكارثة التي حصلت أمام أعيننا لم تستحوذ، لا على اهتمام المثقفين العرب، ولا على انتباه مراكز الأبحاث الذين تجاهلوها جميعاً، معتمدين سياسة النعامة. الصيغة الثانية، هي صيغة يسيطر فيها المكوّن الأول على الثاني، أو الثاني على الأول، كما هو حاصل في العراق وسورية وغيرها من بلدان الشرق الأوسط. في هذه الصيغة ثمة دمج قسري لمكوّن مغلوب من قبل مكوّن غالب، فتكون دوماً الحرب الأهلية بالمرصاد فيها، بتدبير خارجي ولكن بوقود محلّي. الصيغة الثالثة، هي الصيغة اللبنانية المهتزّة التي كانت معتمدة قبل الحرب الأهلية، والتي عادت وكرّستها اتفاقية الطائف بعد مخاض دموي عسير. لذلك، فإن جميع هذه الصيغ لم توفر الحل، لأنها تقوم كلها على مبدأ الغُلب، أو تمويه الغُلب، لا على مبدأ المساواة السياسية الحقيقية بين المواطنين. وحدها الصيغة الديمقراطية الحديثة، هي التي تمكنت من تقديم بديل تكاملي صحيح لمشكلة العصبيّات البنيويّة. * العصبيّة العربيّة المتجدّدة.. هل هي ترجمة عملية لمسار ظهور العصبيّة منذ الجاهلية إلى اليوم؟ ** العصبيّة لا تتجدّد، بل تكتفي باستنهاض نماذجها الماضية في توليفات معاصرة؛ والسبب بسيط، وهو أن العصبيّة تقوم في تجلياتها المختلفة على أنموذج إرشادي واحد، مبني على رابطة العُصبة في مقابل عصبيّات أخرى تعتبرها مخاصمة لها، فتبادلها التخاصم النضالي إياه، في زمن ابن خلدون، كما في زمننا الحاضر. ينبغي هنا ألّا ننسى أن العصبيّة كانت قائمة منذ ما قبل الجاهلية بكثير، وأنها تعود إلى أول منظومة اجتماعية – سياسية عرفتها البشرية كما أسلفنا. لذلك فهي تستمدّ خبراتها المعرفية من هذا المخزون التاريخي الطويل، الذي أبقاها حيّة وحيويّة وتفاعليّة (لمصلحة أهل العُصبة وباتجاه آحادي) على مدى التاريخ. الصدمة التي واجهتها تمثلت بظهور الدين الإسلامي كدين سماوي جديد. وكادت هذه الصدمة تطيحها لو أنها لم تُعِد تأهيل نفسها وتدخل مجدداً إلى السلطة من الباب الخلفي. التغيير الأبيستمولوجي الذي حصل بعد الجاهلية، هو أن العصبيّة أضافت إلى مكوّناتها ما سمّاه ابن خلدون «الصبغة الدينية»، التي بقيت برانيّة، حيث إن جوهر العصبيّة لم يتغيّر.. من رابطة دم ورحم انتقلت إلى رابطة دم ودين ومذهب، مع الغُلب كمبدأ سياسي أساسي. فما حصل في التجربة الإسلامية – وقبلها في التجربتين المسيحية واليهودية – هو أن العصبيّات استقطبت بغير أسلوب الأديان، وأدخلتها من حيث لا تدري إلى فضائها السياسي الأرضي، بحيث إن ظهور الدين السماوي كان بإمكانه أن يكون مميتاً بالنسبة إلى العصبيّات لو تمسّك بالملكوت السماويّ وأصرّ بالابتعاد عن المُلك الأرضيّ. من هنا لم يشكّل تلقيح الدين للعصبيّات لحظة تأسيسية بالمعنى الأبيستمولوجي للكلمة، بقدر ما شكّل لحظة تحوُّلية ليس إلا.. مجرد نقطة تحوّل مبنيّة على مصلحة أهل العُصبة في إعادة التموضع على الخريطة الجيو- سياسية العامة. فمنطق العصبيّة هو واحد منذ غابر الأزمنة وحتى اليوم. وقد لفتني في هذا الصدد الكلام الذي كتبه الفيلسوف الألماني هيغل حول صدام العصبيتين الكاثوليكية والبروتستنتية في بلاده إبّان حرب الثلاثين سنة، وبعدها، في وضعية تشبه تلك التي نحن فيها اليوم. العصبيّة غير التعصّب * ثمة قائل بعصبيّة «الإنسان الأبيض» في الغرب، وهي سائدة إلى اليوم، على الرغم من كل القيم التي أرساها عصر التنوير والحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان.. إلخ ** سمح لي التعمّق بالتفكير في مسائل العصبيّة وأحوالها، بتمييزها عن سواها من المفاهيم المشابهة، حيث إننا غالباً ما نخلط في ما بينها، فالعصبيّة هي غير التعصّب. العصبيّة منظومة فكرية متكاملة، مآلها الأخير الاستئثار بالسلطة.. أولاً، لا تستقيم العصبيّة من دون هذا البعد السياسي الذي هو صلب بنيانها، ومن هنا فإن العصبيّة أخطر بكثير من التعصّب، ذلك أنها تدخل بغير حلّة وأسلوب في القوانين الأساسية للدول ودساتيرها (كما حصل في جنوب أفريقيا سابقاً على سبيل المثال، وكما يحصل في إسرائيل حالياً) وتكتسب شرعية دستورية ملزمة في أحكام القضاء والمسائل الوطنية العامة؛ وبعد ذلك تحوز على صدقيّة رسمية في المناهج التربوية والبرامج الثقافية والإعلامية الرسمية. أما التعصّب الديني أو العرقي، فموقف ذهني مكشوف، لا يحظى بغطاء سياسي ويفتقد إلى الشرعية الدستورية. لذلك مهما تعصّب إنسان أبيض في الولايات المتحدة، أو في جنوب أفريقيا لأبناء عرقه، فإنه يقع تحت طائلة القانون عندما يمارس تعصّبه في المجال العلني العام. من هنا مثلاً، إن تعصّب فرنسيّ أو ألمانيّ لجنسيته، فإن القوانين العلمانية المرعية الإجراء لن تسمح له بتجاوز خطوط الحقوق المدنيّة للإنسان الآخر (العربي المسلم مثلاً) الذي يميل إلى تحميله مسؤولية الأعمال الإرهابية التي تقع في بلاده، بحيث إن تعصّبه ملجوم ومقيّد بمواد قانونية جزائية. أما عندما تعيش في دولة العصبيّة، فإن القانون والقاضي ورجل الشرطة والمخابرات، وحتى عموم الناس ممن هم من أهل العصبيّة الغالبة في الدولة، يدافعون عن عصبيّتك سياسياً وإدارياً وثقافياً وإعلامياً، بحيث لا تكون مكشوفاً. لذلك، وفي ضوء ما نشاهده ونعيشه من حولنا، فإن العصبيّات التي نعيش في ظلّها أقوى وأشرس وأخطر من التعصّبات التي نتّهم بها الغربيين عموماً. * يرى البعض أن الإسلام نهى عن القبليّة بصفتها عصبيّة جاهليّة، ولكنه لم يدعُ إلى نبذ القبيلة بصفتها جزءاً من التركيبة الاجتماعية، ولا حاول ذلك.. وكان المجتمع المديني الأول في الإسلام أيام الرسول الكريم مُنظماً وفق القبائل كنوع من الحدّ من صراع القبليّات.. ماذا تقول؟ ** لهذه المسألة شقّان: شقٌ نصيّ وآخر عملاني. الشق النصيّ في القرآن الكريم لا يدعو بأي وجه من الوجوه إلى استنهاض العصبيّات، بل هو يتجاهلها ويعتبرها لاغية من منطلق روحاني؛ لا بل إن الكلام المتعلق بشعراء القبائل (إعلاميّو ذلك الزمان) في سورة الشعراء، يستهجن بوضوح ترحالهم الأجوف وإشاداتهم السطحية بأهل عُصبتهم والتفاخر بعصبيّتهم؛ لذلك فإن التفلّت من ثقل هذا التراث السياسي المعقّد العائد إلى آلاف السنوات، لم يكن بالأمر السهل. فالروحانيّات التي كان يقدمها الإسلام كانت جذّابة جداً، غير أن الطمع بالسلطة، وبامتيازاتها المادية، لم يغب لمجرد ظهور الروحانيّات؛ فكان طبيعياً إلى حدّ بعيد أن تصطدم السماويّات بالأرضيّات. لم يحصل ذلك في زمن الرسول، حيث بقي مكتوماً. بيد أنه غداة رحيله، تعالت الأصوات مطالبة بأن تكون الخلافة لقريش، مع كل ما يحمله معرفياً هذا المطلب من مندرجات سياسية أبرزها تكريس عصبيّة بعينها. حاول أول الخلفاء الراشدين البقاء على الخطّ الذي كان قد رسمه الرسول الكريم؛ غير أن الأمور بدأت بالتراجع تدريجاً بعده، في ما كانت تقوى شوكة القبائل المحاربة والطامعة بالغنائم لنفسها، لا لبيت المال، إلى أن تطوّرت الأمور، كما يشير الباحث التونسي إمحمد جبرون، إلى الانتقال من الأمّة إلى العصبيّة إبّان خلافة معاوية بن أبي سفيان، ومن القرآن إلى السلطان. بعد ذاك حصل للإسلام ما حصل لليهودية والمسيحية، أي الانتقال من المجال الديني الروحاني البحت إلى المجال الديني السياسي، الأمر الذي سمح للإقطاعيّات الفيودالية في الغرب من تقاسم السلطة مع رجال الكنيسة، وسمح لعصبيّات القبائل باستنهاض عصبيّاتها تحت غطاء الدين. أما في الشق العملاني، فتنقلنا الوقائع إلى الحقل السياسي الذي كان آنذاك أفقاً قبلياً مبنياً على العصائب؛ لذلك لا لبس في النص القرآني حول العصبيّة بحدّ ذاتها. * العفيف الأخضر، أحد المفكرين التوانسة كان يائساً من زوال العصبيّات في عالمنا العربي الحديث ودعا في أواخر حياته إلى التربية التكنولوجية، قائلاً إنها العصبيّة الوحيدة التي تخلّصنا من عصبيّات الماضي والحاضر كلّها.. ما تعليقك؟ ** هناك أكثر من فكرة في هذا القول؛ فالتربية التكنولوجية ليست، ولا يمكن أن تتحوّل إلى عصبيّة. جلّ ما يمكن أن تولّده هو تعصّب للعلم، كما حصل مثلاً في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا مع ظهور العلمويّة (Scientism) فالعصبيّة هي مشروع سلطة، لا مجرد ذهنية عامة أو ثقافة عامة؛ فالتربية التكنولوجية تولّد عقلاً مفتوحاً يلتزم بالحجة والبرهان، وبالتالي يستحيل عليها أن تبلغ الانغلاق المفاهيمي والعقلاني الذي تشترطه العصبيّة. فقط العيش في دائرة مفاهيمية مغلقة، خاصة بأهل العُصبة، هو الذي يولّد ما نسميه الذهنيّة العصبيّة بمندرجاتها المعروفة. التربية التكنولوجية، لكونها تربية علمية، تولّد تفكيراً مفتوحاً. أما التربية العصبيّة، فتولّد تفكيراً دائرياً، على حد ما شرحه طوماس كوهن. لكن ينبغي علينا ألا نتسرّع في الاستنتاج، حيث إن الوقائع الاجتماعيّة قد تؤدي إلى دحض افتراضاتنا النظرية، حيث إن التربية التكنولوجية، على حسناتها، هي شرط ضروري ولكن غير كافٍ لسيادة العقل في سلوك الناس اليومي والعملي. تشير الوقائع في هذا الصدد، مرة جديدة، أنه تحت الاختبار، العصبيّة التي عصت على الأديان وعصت على الرأسمالية، قد عصت أيضاً على التكنولوجيا وما استتبعته على المستوى التربوي؛ ذلك أن العصبيّة كمنظومة تفكير وممارسة وتفاعل نفس – اجتماعي متماسكة وحيّة، وقادرة على استيعاب أقسى الصدمات. تتمتع العصبيّة بمرونة كبيرة لدرجة أنها تستوعب الهزّات والضربات في العالمين الإفريقي والشرق أوسطي من دون أن يتأثر جوهرها؛ فهل أن «المولات» الحديثة والكبيرة المنتشرة في أنحاء العالم العربي، قد تمكّنت من محو العصبيّات عندنا؟ وهل أن التحديث، مهما بلغ حجمه، جدير بتغيير ما في الأذهان والقلوب والتراث الاجتماعي والثقافي لوحده؟ طبعاً لا، بل إن التربية التكنولوجية والعلمية قابلة للتجيير لمصلحة العصبيّات بتوسيع دائرة انتشارها وتفعيل قبولها العام ومضاعفة صدقيتها. لذلك، بالمناسبة خاتمة كتابي تحمل العنوان الآتي:«محو العصبيّة قبل محو الأميّة»؛ إذ ما فائدة أن تكون متعلّماً علوماً حديثة، فيما تعتمد سلوكاً متخلّفاً في حياتك اليوميّة والعملية؟ّ! العصبيّات أكلت الرأسمالية * هل الرأسماليّة هي نوع من العصبيّة الكونيّة المبنيّة على معتقد الربح لذاته؟ ** سؤالك هذا جميل ومفاجئ، وهو سيدفعني إلى التوسّع بالتحليل على ما يبدو. أولاً، السؤال مبرّر لكونه يشير إلى ظاهرة العولمة الأخطبوطية التي باتت تجتاح العالم أجمع، والتي تضع العالم بأسره في قلب منطق واحد، هو «الربح قبل الناس»، كما أشار إليه نعوم تشومسكي في أحد مؤلفاته. صحيح أنّ الرأسمالية قد شكّلت اليوم في أقصى أشكالها (العولمة) ما يشبه الذهنيّة الكونيّة المتمحورة حول الاستهلاك والمجتمع الاستهلاكي، بيد أنها لم تتمكّن من النيل من العصبيّة أو من الحلول مكانها. لم تتمكّن النزعة الرأسمالية من تشكيل بديل للعصبيّات، لسبب جوهري هو خلّوها من الشحنة – النفس اجتماعية التي تتميّز بها العصبيّة، والتي تجعل أفرادها المعبّئين يستعدون للاستماتة في سبيلها؛ فما من جماعة رأسمالية تستميت دفاعاً عن مصالحها، بل إن الرأسمال جبان، يهاجر أهله عند أول طلقة مدفع في مختلف بلدان المعمورة، كما هو معروف. كنظام اقتصادي، أقصى ما تمكّنت من إرسائه الرأسمالية، هو ذهنيّة شغوفة بالمواد الاستهلاكية الجديدة وعقلية ربحيّة مفتوحة على الجشع. وقد تمكّنت لذلك من التغلغل في مختلف مجتمعات العالم، من دون أن تتمكّن من توحيدها على المستوى المعرفي، بحيث تبنّى الجميع تقريباً الثقافة الرأسمالية، من غير أن يتبنّوا معرفتها ومندرجاتها. من هنا نرى في جميع البلدان ذات البنية المعرفية العصبانيّة اعتماداً للنظام الرأسمالي وسلوك العولمة، من دون أدنى تخلّ عن القناعات العصبيّة، لا بل إننا نشهد، أينما كان من حولنا، ظاهرة مماثلة لتلك التي حصلت إبّان اصطدام العصبيّات بالأديان السماوية في الماضي البعيد، أي إعادة تأهيل طوعيّة للعصبيّة في ضوء مستجدّات الزمن الرأسمالي الجديد، حيث بادر أصحاب الشوكة في مجتمعات الشرق الأوسط وأفريقيا على نحو خاص إلى الدخول من دون خشية في رحاب الرأسمالية، ثم العولمة، فلحقتهم المجتمعات المرتبطة بهم، ولم يتخل أحد عن انتماءاته العصبيّة. ما جرى بالأحرى هو تغلغل العصبيّات داخل النظام الرأسمالي والاستفادة مما كان يقدمه بغية تقوية نعراتها وتحديثها زمنياً، الأمر الذي ولّد لدى التنظيمات الإرهابية الراهنة قوة عصبيّة مضاعفة، تدمج بين أحدث آليات النظام الرأسمالي وأقدم مظاهر العصبيّة؛ فالعصبيّات أكلت الرأسمالية ولم تؤكل من طرفها. تغير برّاني التغيّر الأبيستمولوجي الذي حصل للعصبيّة بعد مرحلة الجاهلية هو أنها أضافت إلى مكوّناتها ما سمّاه ابن خلدون «الصبغة الدينية» التي بقيت برانيّة، حيث إن جوهر العصبيّة لم يتغيّر، فقد انتقلت من رابطة دم ورحم إلى رابطة دين ومذهب. من هو معتوق؟ فردريك معتوق، عالم اجتماع لبناني (مواليد لبنان 1949). عميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية بين عامي 2004 و2013. ومشرف على أطروحات الدكتوراه في المعهد. مدير معهد العلوم الاجتماعية (الفرع الثالث) بين عامي 1980 و1994، مدير الدراسات العليا في معهد العلوم الاجتماعية (2001-2002). مدير الدراسات العليا في المعهد مجدداً (2003-2004). المؤلفات باللغة العربية: * له 20 مؤلفاً باللغة العربية هي: تطور علم اجتماع المعرفة، 1982. مسرح العمال المهاجرين في فرنسا، 1984. تنوع ثقافي، لا تعددية ثقافية، 1985. منهجية العلوم الاجتماعية عند العرب وفي الغرب، 1985. العادات والتقاليد الشعبية اللبنانية، 1986. تطور الفكر السوسيولوجي العربي، 1988. المعرفة، المجتمع والتاريخ، 1991. قاموس العلوم الاجتماعية، (عربي – إنجليزي – فرنسي)، 1993. جذور الحرب الأهلية، 1994. معجم الحروب، 1996. الحرفيّون في لبنان: واقع وآفاق، منشورات اللجنة الوطنية لليونيسكو، بيروت، 2002. معدّ كتب محافظة الشمال في مجموعة أقضية لبنان الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية وU.N.D.P. مركز الأبحاث، بيروت، 2002. مرتكزات السيطرة الغربية، مقاربة سوسيو -معرفيّة، 2007، سوسيولوجيا التراث، 2010. مرتكزات السيطرة: غرب/‏‏‏ شرق، 2011. الموسوعة الميسّرة في العلوم الاجتماعية (عربي – إنجليزي – فرنسي)، 2012. المارد الآسيوي يسيطر، 2013. سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية - الفينيقية، 2014. سوسيولوجيا الفن الإسلامي، 2016. منتدى المعارف (طبعة ثانية مزيدة) بيروت، 2017. المؤلفات باللغة الفرنسية: 1.Les Contradictions de la Sociologie Arabe، éd. l›Harmattan، Paris، 1992 2eme ed. 2001. 2. Les Abeilles de l›Ermite: (roman)، éd. An nahar، Beyrouth، 2009 له ترجمات من الفرنسية إلى العربية: جرثومة الحرب الأهلية، لعدنان حب الله، الفضاء العربي، (جماعي)،
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©