الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المترجمون خيول بريد التنوير

المترجمون خيول بريد التنوير
28 سبتمبر 2017 13:36
سلطان العميمي مما لا شك فيه أن الترجمة احتلت منذ وقت مبكر من تاريخ الحضارة البشرية المرتبطة بالكتابة والأدب واللغات، مكانة مهمة في تغيير مسارات الأمم وحضاراتها، بل وحتى في استقرارها وتوسع حدودها وازدهار فنونها وآدابها. ويمكن أن يؤرّخ لأوّل عمل في التّرجمة باعتباره أوّل شاهد على تماسّ اللّغات والثّقافات عرفته حضارة ما بين النّهرين في شكل معجم مزدوج اللّغة سومريّ- أكَّديّ. وهو عبارة عن جدول ذي خانتين تتقابل فيهما الكلمات في اللّغتين وبطريقتي كتابتها. واحتفظت مكتبات اللّوحات الطّينيّة بوثائق لا تحصى لمراسلات مكتوبة بلغات مختلفة (تلّ العمارنة، أنموذجاً) تخبر بوجود نشاط ترجميّ مكثّف بين مصر القديمة وبلاد الرّافدين كان يمدّ جسراً للتّواصل بين الثّقافات والحضارات منذ أقدم العصور (1). ولعبت الترجمة دوراً مهماً في بث أشعة التنوير على المجتمعات، وحمل المترجمون عبر ترجماتهم رسائل التنوير، وعنهم يقول الشاعر الروسي بوشكين «المترجمون هم خيول بريد التنوير». عملية الترجمة ليست مجرد استبدال لغة بأخرى، ففي الترجمة تتلاقى ثقافات مختلفة وشخصيات مختلفة، ومخازن تفكير مختلفة، وآداب مختلفة، وحقب مختلفة، ومستويات مختلفة من التطور، وتقاليد مختلفة، وسياسات مختلفة (2). وتكتسب الترجمة مكانة مهمة في مجال انتقال العلوم والفكر والأدب من مجتمع إلى آخر للأسباب التالية: 1- تعتبر الترجمة محرضاً ثقافياً يفعل فعل الخميرة الحفّازة في التفاعلات الكيماوية، إذ تقدم الأرضية المناسبة التي يمكن للمبدع والباحث والعالم أن يقف عليها، ومن ثم ينطلق إلى عوالم جديدة ويبدع فيها ويبتكر ويخترع. 2- تجسر الترجمة الهوة القائمة بين الشعوب الأرفع حضارة والشعوب الأدنى حضارة. 3- تعتبر الترجمة هي الوسيلة الأساسية للتعريف بالعلوم والتكنولوجيا ونقلها وتوطينها. 4- الترجمة عنصر أساسي في عملية التربية والتعليم والبحث العلمي. 5- الترجمة هي الأداة التي يمكننا عن طريقها مواكبة الحركة الثقافية والفكرية في العالم. 6- الترجمة وسيلة لإغناء اللغة وتطويرها وعصرنتها (3). وهكذا، فإنه مما لا يدع مجالاً للشك بأن الحضارات البشرية قامت في جزء كبير من نهضتها ونموها وتطورها على الاستفادة من عملية الترجمة لعلوم غيرها من الحضارات وآدابها، وعن هذه العلوم المترجمة وآدابها المستفادة، تولّدت ترجمات جديدة قامت عليها حضارات أكثر تطوراً ومحملة بثقافات جديدة وأكثر عمقا، ويستمر هذا التوالد ليشكل دائرة لا تتوقف من الديمومة في التأثير. إذن هناك أيضاً منفعة متبادلة بين الترجمة والنمو الحضاري والثقافي، آخذين في عين الاعتبار من جهة أن «الترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى» (4)، ومن جهة أخرى «إن الترجمة هي ما يفتح الثقافة، ما يفتح النصوص على الخارج، ما ينقلها وما يحولها. وبفضل هذا التحويل، فإن كثيرا من المؤلفات تكتسب أهمية يعجب لها الأدب الذي كانت تنتمي إليه في البداية. وتتخذ خصائص لم يكن ذلك الأدب ليعترف لها بها» (5). لقد توقفت كثيراً في مشواري البحثي عن الترجمة، عند التأثير الذي أحدثته المؤلفات العربية القديمة في الآداب العالمية، والاهتمام الذي حصلت عليه هذه الأعمال عند الغرب، وترجمتهم لها ترجمات عديدة، وكتابة دراسات وأبحاث لا تتوقف عنها. ويمكن القول إن ثلاثة من أهم المؤلفات التي ترجمت من العربية إلى اللغات الأجنبية الأخرى، وهي: ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ورحلة ابن بطوطة، تشكل ظاهرة فريدة في مدى ارتباطها بالترجمة منذ ساعة كتابتها إلى يومنا هذا. وتكتسب هذه الظاهرة المرتبطة بالترجمة، فرادتها من جانبين، الأول على مستوى البنية الحكائية واللغوية الخاصة بكل عمل من هذه الأعمال في نصها العربي. والثاني على مستوى الترجمات المتولدة دون توقف نتيجة ترجمة هذه الأعمال من العربية إلى اللغات الأخرى. البنية الحكائية واللغوية بني كتاب «ألف ليلة وليلة» منذ الأسطر الأولى منه على الحكاية التي تتوالد عنه حكاية، ويقوم كتاب كليلة ودمنة على حكايات تروى على لسان الحيوان والطير. أما رحلة ابن بطوطة «تحفة النظار في غرائب الأمصار»، فعلى الرغم من انتمائها إلى أدب الرحلات، إلا أن هذه الرحلات اكتسبت جزءاً من أهميتها من جانب أدبي مهم، هو جانب سرد الحكايات التي تعرض لها ابن بطوطة في رحلته، ورواها. وهكذا شكّلت الحكايات خيطاً مهماً يربط بين هذه الأعمال الثلاثة، إلا أن هناك خيطاً آخر يجمع بينها، لا يقل أهمية عن الخيط السابق، وهو خيط الترجمة الذي كان وجوده مهماً لخروج هذه الحكايات إلى النور، وسردها في العمل وبنائه عليها. ولا أتحدث هنا عن ترجمة هذه الأعمال من العربية إلى اللغات الأخرى، إنما أتحدث عن الترجمة داخل هذه الأعمال والحكايات في نصها العربي. كيف؟ أولاً: ألف ليلة وليلة لننظر بداية إلى ألف ليلة وليلة، التي يجمع أغلب الباحثين على أنها مؤلفها عربي، لأسباب عديدة، منها أن أغلب الأحداث جرت في مناطق ومدن عربية، وضمت شخصيات عربية بعضها له وجود تاريخي معروف، وتضمنت أشعاراً كتبت بالعربية. ويظن بعضهم أن الراوي الحقيقي/&rlm&rlm&rlmالعالِم في الليالي هي شهرزاد، إلا أنه بتمعن مطلع الليالي نستنتج أن المؤلف الحقيقي/&rlm&rlm&rlmالعالِم هو مؤلف مجهول، يفتتح حكايات الكتاب، بحكاية الملك شهريار وأخيه شاه زمان، وبنص مطلعه: «فقد حكي، والله أعلم وأحكم وأعز وأكرم، أنه فيما مضى وتقدم من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم وكان له ولدان أحدهما كبير والآخر صغير وكانا فارسين بطلين وكان الكبير أفرس من الصغير وقد ملك البلاد وحكم بالعدل بين العباد وأحبّه أهل بلاده ومملكته وكان اسمه الملك شهريار. وكان أخوه الصغير اسمه الملك شاه زمان، وكان ملك سمرقند العجم، ولم يزل الأمر مستقيما في بلادهما.. إلخ» (6). ثم يسلم هذا المؤلف «المجهول لدينا» صوت الراوي العليم إلى شهرزاد، التي تبدأ في رواية الحكايات على لسانها لشهريار. ومن يتأمل مطلع حكاية «الملك شهريار وأخيه شاه زمان» يجد أن شهريار وشاه زمان شخصيتان تحملان اسمين غير عربيين، وتعيشان في بلدان غير عربية «مملكة ساسان بجزائر الهند والصين». وبعيداً عن حقيقة وجود هاتين الشخصيتين من عدمه، ألا يفترض أنهما تتحدثان بلسان غير عربي؟ وماذا عن شهرزاد - غير العربية - ابنة الوزير التي تسرد الحكايا على شهريار؟ وماذا عن شخصيات حكايات شهرزاد؟ سنجد بتتبعنا لها، أنه يوجد إلى جانب الشخصيات العربية، عدد غير قليل من الشخصيات غير العربية، ممن تعيش خارج المناطق العربية، مثل: الأمير حسين، أكبر أبناء سلطان جزر الهند، وسافر إلى «بسناغار» في «الهند» ليشتري بساط الريح، والأمير علي، الابن الثاني لسلطان جزر الهند. والأمير أحمد، أصغر أبناء سلطان جزر الهند. هناك أيضاً الأميرة بدر البدور ابنة إمبراطور الصين الوحيدة، والملك يونان حاكم إحدى مدن فارس القديمة في مقاطعة «زومان»، والملك كسرى الثاني، ملك الساسانيين منذ سنة 590 إلى 628، وزوجته شيرين. هل تساءلنا يوماً بأي لغة كانت تتحدث هذه الشخصيات، أليس من المفترض أن يتحدث كل منها بلغته، كالصينية والهندية والفارسية؟ كيف نطق هؤلاء بالعربية في الحكايا؟ كيف تفاهموا مثلاً مع الشخصيات العربية التي التقوا بها؟ كيف ذابت الفوارق اللغوية وتكلم البشر مع الجن؟ لا نجد في الحكايات إجابات عن هذه الأسئلة، ولم تخبرنا الحكايات عن وجود مترجم ساعد شخصياتها على التواصل مع من يتحدثون بغير لغتها. هناك إذن مترجم خفي لا نعرفه، لولاه ما وصلت حكايات أولئك إلى مؤلف العمل الذي نسج هذا النص العبقري لحكايات الليالي. هل كان المؤلف يجيد التحدث بغير العربية؟ أم إنه سمع بحكايات أولئك عن مترجم يتقن أكثر من لغة؟ أم إنه سمعها ونقلها عن مجموعة من المترجمين «ثلاثة على الأقل: هندي وفارسي وصيني»؟ لا شك لدينا إذن في أن ألف ليلة قامت في جزء مهم منها على الترجمة، حتى لو كانت ترجمة افتراضية غير حقيقية «بافتراض أن جميع الشخصيات غير العربية هي من صنع خيال المؤلف»، إلا أن الشخصيات في الأخير كانت تنطق في الليالي بلسان عربي رغم أنها غير عربية! ولا نغفل إضافة إلى ما سبق أن جزءاً من الحكايات التي تشكل ألف ليلة وليلة ذات أصل هندي ويوناني وفارسي (7). ثانيا: كليلة ودمنة نقل برزويه كتاب كليلة ودمنة إلى الفارسية عن أصول هندية، ثم ترجم ابن المقفع الكتاب إلى العربية، وهي الترجمة التي أنقذت الكتاب من الزوال، إذ ضاع الأصل الفارسي، وبقيت ترجمة ابن المقفع الصورة الوحيدة الباقية للكتاب كما وضعه برزويه، وقد لقيت هذه الترجمة العربية ترحاباً من اللغات الأخرى التي اعتمدت عليها في ترجمتها الكتاب ودراسته (8). ويقوم كتاب كليلة ودمنة على الحكايات التي كان ألفها ورواها الحكيم الهندي بيدبا لدبشليم ملك الهند، وقد رواها في الكتاب على لسان الحيوانات والطير التي تنطق بالحكمة في شؤون الحياة والسياسة والـمُلك. إلا أن لغة الحيوانات والطيور كانت تحتاج إلى من يفهمها، ويترجمها إلى العربية. تقول المعاجم العربية: «تَرْجَمَ كلامَه إِذا فسره بلسان آخر» (9). أليست الترجمة مفتاحاً لفك العُجمة في اللغة واللسان؟ تقول المعاجم: «أَفْصَحَ الأَعْجَمِيّ قال أَبو سهل أَي تكلم بالعربية بعد أَن كان أَعْجَمِيّاً، والعَجَمِيُّ مُبْهَمُ الكلامِ لا يتبين كلامُه، والعَجْماء والمُسْتَعجِمُ كلُّ بهيمةٍ» (10). إذن هناك ترجمة من لغة البهائم العجماء إلى اللغة البشرية، رغم أنها ترجمة وهمية في الحكايات، قائمة في حقيقتها على خيال المؤلف. وهكذا كانت جميع الحكايات التي على لسان الحيوان والطير في كليلة ودمنة، قائمة على ترجمة من نوع خاص. ثالثا: رحلة ابن بطوطة لعبت رحلة ابن بطوطة وكتابه «تحفة النظار في غرائب الأبصار وعجائب الأسفار» دوراً كبيراً في نشأة أدب الرحلات، وقد سافر هذا الأديب والرحالة المغربي خلال فترة حياته أكثر من 73000 ميل (قرابة الـ120 ألف كيلومتر)، وزار ما يُعادل 44 دولةً حديثة، واستغرقت رحلته 27 سنة 1325-1352م (11). إلا أن جزءاً مهماً من كتابه المهم يقوم على سرد الأحداث والحكايات التي واجهها في رحلته. لكن ما هي البلدان التي سافر إليها ابن بطوطة؟ بتتبع رحلته نجد أنه سافر إلى دول عربية عديدة، ودول غير عربية، مثل: الصين والهند وأندونيسيا وبلاد فارس وسيريلانكا ومالي ودول تقع على السواحل الأفريقية وتتحدث بغير العربية. وفي هذه البلدان التقى الملوك والحكام والناس، وتحدث إليهم وسمع عنهم. لكن كيف فهم ابن بطوطة لغتهم؟ يشير ابن بطوطة في «تحفة النظار» إلى استعانته الدائمة بالمترجمين في تلك البلدان، فذكر مثلاً في حكاية الملك المترهب جرجيس كيف أنه أراد دخول الكنيسة، فاستعان بترجمان لطلب الإذن من الرهبان، وفي باب «ذكر سلطان القسطنطينية» أشار إلى المترجم اليهودي الذي استعان به. وكذلك استعانته بالمترجم في «ذكر السبب في إسلام هذه الجزائر وذكر العفاريت من الجن التي تضربها في كل شهر»، وكذلك الترجمان الذي يترجم له في جزيرة تاوة، والترجمان «دوغا» في السودان (12). بل إن زيارته للبلدان التي لم يجد فيها ترجمانا، وردت في الكتاب خالية من التفاصيل والأحداث (13)، وكان ابن بطوطة يجيد اللغتين التركية والفارسية، وقد أنقذته الترجمة ذات مرة من الموت (14). إذاً لولا وجود الترجمان ومعرفة ابن بطوطة باللغة الفارسية والتركية ما كان مشروع كتاب رحلته ليتم، وما كانت متعة رحلته لتكتمل. ترجمة لا تنتهي وهكذا نجد أن الترجمة لعبت دوراً مهماً في صناعة أحداث هذه الكتب، قبل أن تترجم من العربية إلى اللغات الأخرى، وهي وجه آخر من الترجمة المرتبطة بهذه الكتب، يمكننا أن نقول عنها، إنها ترجمة تولدت من رحم ترجمة، ثم تولدت في رحم الترجمة الجديدة ترجمات أخرى تولد عنها ترجمات لا تعرف التوقف. إذ ترجمت ألف ليلة وليلة إلى عدد من لغات العالم، وكانت أول ترجمة كاملة لها قد ظهرت باللغة الفرنسية سنة 1704، وقام بها المستشرق أنطوان غالان. ثم ترجمت إلى الإنجليزية والألمانية والدنماركية، ثم صدرت الترجمة الألمانية عن اللغة الفرنسية، والتي بدأت منذ عام 1710 على يد تالاندر، ولكن الألمان أصدروا ترجمة من اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر وذلك عن النسخة العربية التي طُبِعت في كلكتا سنة 1814، وعن النسخة المصرية طبعة بولاق في العشرينات من نفس القرن. ثم تُرجِم العمل إلى البولندية في منتصف القرن الثامن عشر، وذلك سنة 1768، وتمت عن ترجمة غالان (15). ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى الشاعر الألماني غوته الذي عاش منذ نعومة أظفاره مع هذا الكتاب، وكان يحفظ حكاياته إلى درجة أنه كان يلعب دور شهرزاد عندما تتاح له الفرصة، وكان في صباه وفي شيخوخته يستخدم رموز الحكايات وصورها في رسائله، وكان بالنسبة له كتاب عمره، كل ذلك والترجمة الألمانية لم تكن قد أنجزت بعد، وإنما كان يرجع إلى الترجمة الفرنسية المجتزأة التي قام بها المستشرق الفرنسي أنطوان غالان، وذلك قبل أن تظهر الترجمة الألمانية عام 1825م، ما جعل غوته يمضي آخر سني حياته مع هذه الترجمة (16). كما لا ننسى مجموعة الرسومات التي صاحبت الترجمات الغربية لألف ليلة وليلة في كتاب «ألف ليلة وليلة: مقالات نقدية وببلوغرافية» كامبريدج، دار مهجر 1985م بالإنجليزية. و «ديوان ألف ليلة وليلة» تحقيق عبد الصاحب العقابي: كتاب التراث الشعبي، العدد الأول، بغداد 1980م، ويقع في 577 صفحة مزودة بلوحات فنية. وترجم كتاب كليلة ودمنة إلى السريانية للمرة الثانية في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، وإلى اليونانية سنة 1080م، وأعيدت ترجمته إلى الفارسية الحديثة نظماً من قِبل الشاعر الرودكي، ومن ثم نثراً بوساطة أبو المعالي نصر الله منشي سنة 1121م، وإلى الإسبانية سنة 1252م. كما تُرجم الكتاب من العربية إلى العبرية من قِبل الحاخام يوئيل في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن ثمّ ترجمت النسخة العبرية إلى اللاتينية من قبل يوحنا الكابوني تحت عنوان دليل الحياة البشرية، وطُبعت سنة 1480م، والتي أصحبت مصدراً لمعظم الإصدارات الأوروبية. طُبعت النسخة الألمانية من الكتاب التي تحمل عنوان كتاب الأمثال سنة 1483م، وهو ما جعل الكتاب واحداً من أوائل الكتب التي تمت طباعتها بوساطة مطبعة غوتنبرغ بعد الكتاب المقدس كما تُرجمت النسخة اللاتينية إلى الإيطالية سنة 1552م، وأصبحت هذه النسخة الأساس لأول ترجمة إنجليزية، ففي سنة 1570م قام توماس نورث بترجمتها من الإيطالية إلى الإنجليزية الإليزابيثية تحت عنوان «خرافات بيدبا»، وقد أعيدت طباعة النسخة من قبل جوزيف جاكوبس سنة 1888م. وفي عام 1644م ظهرت بعض حكايات الكتاب بالفرنسية في كتاب حمل عنوان كتاب الأنوار في سلوك الأقيال (Le livre Des Lumières Sur La Conduite Des Royes) (17). أما تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، فقد ترجمت إلى اللغات الفرنسية والبرتغالية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجم فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضا (18). وكانت أول ترجمة لها في باريس 1853م حين طبعت كاملة لأول مرة في أربعة مجلدات مع ترجمة فرنسية بعناية ديفر يمري وسانجنتي (19). وقد كان لهذه الترجمة تأثيرها السريع على الحركة الأدبية في فرنسا، إذ بعد عشرين عاماً من صدورها في فرنسا «1873»، صدر كتاب «حول العالم في ثمانين يوماً» للكاتب الفرنسي جول فيرن الذي يحكي قصة الرحالة فيلياس فوج الذي سافر برفقة خادمه لكسب رهان بينه وبين عدد من أصدقائه، ومر في رحلته تلك بدول من قارة آسيا وأفريقيا وأمريكا قبل أن يعود إلى بريطانيا الأوروبية. ونلاحظ أن رحلته تمت براً وبحراً، تماما كابن بطوطة، وقد أصبحت هذه الرواية من الأدب العالمي، وحوّلت إلى أفلام ومسلسلات، منها المسلسلات الكرتونية للأطفال، التي دبلجت إلى لغات عالمية، بما فيها اللغة العربية. كما تُرجِم مخطوط رحلة ابن بطوطة للمرة الأولى إلى الألمانية عام 1911م، وأنجز الترجمة آنذاك الباحث الألماني هانز فون مزيك، ورغم أن هذه الترجمة جيدة، لكنها جزئية وتقتصر فقط على رحلة ابن بطوطة إلى الهند والبلدان الشرقية منه. ثم صدرت حديثاً في ميونيخ أكتوبر 2010م، ترجمة ألمانية ثانية للرحلة. واعتمدت هذه الترجمة الجديدة على مخطوط رحلة ابن بطوطة الذي وضعه العلامة الحلبي محمد بن فتح الله البيلوني في القرن السابع عشر، والتي أنجزها الباحث في العلوم الإسلامية الدكتور رالف إلغَر بشكل ممتاز، وأرفقها بتعليق حول الرحلة وحول مصداقية النص، وهي الترجمة الأولى من نوعها التي تقدم نص رحلة ابن بطوطة بشكل شبه كامل للقارئ الألماني. أثر الترجمة لقد تركت جميع الترجمات السابقة أثرها على الأدباء والباحثين والنقاد في الدول التي ترجمت فيها الإصدارات الثلاثة، وصدرت في ضوئها العديد من الكتب الأدبية والدراسات النقدية والتحليلية. وشكلت هذه الكتب والإصدارات مرحلة جديدة من الترجمة المتولدة من رحم ترجمات الكتب الثلاثة، إذ إن هذه الدراسات والأبحاث وجدت اهتماماً كبيراً من المؤسسات الأكاديمية والبحثية والدارسين، وتمت ترجمتها إلى لغات أخرى، بما فيها العربية20. وعلى أثر هذه الدراسات التي تمت ترجمتها، نشأت دراسات وأبحاث جديدة، ستجد يوماً طريقها إلى الترجمة، وهكذا تتوالد في رحم الترجمة ترجمة جديدة بشكل لا يتوقف! لقد كانت الترجمة جزءاً من حياة هذه الأعمال الخالدة. من جهة أخرى جمعت هذه الكتب في جزء من حكاياتها ومادتها بين الترجمة ونقل وجه من أوجه الحضارة، فكتاب ألف ليلة وليلة صوّر جزءاً من حياة المجتمعات العربية وغير العربية التي جرت فيها الحكايات، ونقل للعالم نماذج من أشكال الحياة في مختلف حضارات الشرق، كما إن حكاياته سجلت لنا نماذج من المخيال العربي وغير العربي المرتبط بالتاريخ والأساطير التي تحفل بها الثقافة الشرقية. ولولا ذوبان فوارق اللغة التي تحتمها اختلاف الأعراق واللغات المرتبطة بأماكن الحكايات وزمنها، ما كانت وصلتنا صور من تلك الحضارات الحقيقية والخيالية. أما كتاب كليلة ودمنة، فنقل لنا صوراً من الفلسفة والحكمة الشرقية على لسان الحيوانات والطيور، وخلقت عالماً متخيلاً تلتقي فيه حضارة إنسانية واقعية بحضارة «حيوانية» متخيلة تستعير لسان الإنسان ولغته، لتنطق بالحكمة والفلسفة، متفوقة بذلك على الحضارة البشرية. فالمتعلم والمستفيد في «كليلة ودمنة» هو الإنسان، والمعلّم والفيلسوف والحكيم هو الحيوان الناطق. أما كتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، فقد قام على رحلة استكشاف بلدان العالم وحضارات سكانها ونقلها إلى القراء، مستعينا فيه صاحبه بالترجمة لفهم هذه الحضارات وثقافاتها ونقلها لنا. ولنتأمل الخاتمة التي وضعها محمد بن جزي الكلبي كاتب أبي عنان المريني، الذي كان قد أعجب بما كان ابن بطوطة يقصه عليه من أخبار رحلته، فأمر كاتبه أن يدون ما يمليه عليه ابن بطوطة، ليتولى ابن جزي ترتيبها وتهذيبها، وإضافة ما يناسب أبوابها من الأخبار والأشعار، وقال في خاتمتها: «انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد ابن بطوطة، أكرمه الله، ولا يخفى أن هذا الشيخ هو رحال العصر، ومن نوادره فيها ما حكاه عن جوازات السفر في دمياط وقطيا، ووصية برهان الدين ابن الأعرج: الذي أوصاه بزيارة أصحابه في الصين، ووصفه مواكب الناصر ابن قلاوون في مصر، ومواكب السلطان أبي سعيد ببغداد، وجامع دمشق وأوقافها، وما استوقفه في مكة من عناية نسائها بالطيب، وجمال نساء زبيد في اليمن، وبلاط صاحب صنعاء، ودار الطلبة في مقديشو، ومرابطي منبسى، وصيد اللؤلؤ في البحرين، والعملة الورقية في الصين وصناعة التصوير فيها، ونظام الفتوة في الأناضول. وأسواق الرقيق في ثغر (كافا)، وتراجم العلماء على قبورهم في بخارى، والعربات التي تجرها الكلاب على الجليد في البلغار، ولقاؤه بيهودي أندلسي في مدينة الماجر بالقوقاز، ويهودي شامي كان ترجمان قيصر القسطنطينية، وكانت بنت القيصر زوجة السلطان محمد أوزبك خان ملك الترك. وقد صحبها ابن بطوطة لزيارة أبيها». (21). إن هذا الملخص الأدبي المشوق لمحتوى الكتاب، ينقل إلينا صوراً من حضارات البلدان والشعوب التي مر بها ابن بطوطة، وتجارب البشر في كيفية تنظيم شؤون حياتهم، فأهل مصر على سبيل المثال عرفوا مبكراً جوازات السفر بحسب الرحلة. وهكذا مر بنا كيف كان للترجمة أثر كبير في ظهور المؤلفات الثلاثة إلى النور، ثم كيف أثَّرت ترجمتها إلى اللغات الأخرى في حضارات الدول وأدبها ودراساتها ونقدها وعلومها، وكيف أثرت أيضاً في الفكر البشري، والنظرة إلى الآخر، وخلق صورة عنه، والرغبة في استكشافه أكثر، ومقارنة الآخر بالأنا، والذات، ووضع الهوية في موضع مقارنة مع هوية الآخر. ظاهرة فريدة يمكن القول، إن ثلاثة من أهم المؤلفات التي ترجمت من العربية إلى اللغات الأجنبية الأخرى، وهي: ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ورحلة ابن بطوطة، تشكل ظاهرة فريدة في مدى ارتباطها بالترجمة منذ ساعة كتابتها إلى يومنا هذا. وتكتسب هذه الظاهرة المرتبطة بالترجمة، فرادتها من جانبين: الأول على مستوى البنية الحكائية واللغوية الخاصة بكل عمل من هذه الأعمال في نصها العربي. والثاني على مستوى الترجمات المتولدة دون توقف نتيجة ترجمة هذه الأعمال من العربية إلى اللغات الأخرى. ولادات لا تتوقف تركت الترجمات أثرها على الأدباء والباحثين والنقاد في الدول التي ترجمت فيها الإصدارات الثلاثة، وصدرت في ضوئها العديد من الكتب الأدبية والدراسات النقدية والتحليلية. وشكلت هذه الكتب والإصدارات مرحلة جديدة من الترجمة المتولدة من رحم ترجمات الكتب الثلاثة، إذ إن هذه الدراسات والأبحاث وجدت اهتماماً كبيراً من المؤسسات الأكاديمية والبحثية والدارسين، وتمت ترجمتها إلى لغات أخرى، بما فيها العربية. وعلى أثر هذه الدراسات التي تمت ترجمتها، نشأت دراسات وأبحاث جديدة، ستجد يوماً طريقها إلى الترجمة، وهكذا تتوالد في رحم الترجمة ترجمة جديدة بشكل لا يتوقف! رسائل تحتفظ مكتبات اللّوحات الطّينيّة بوثائق لا تحصى لمراسلات مكتوبة بلغات مختلفة (تلّ العمارنة، أنموذجاً) تخبر بوجود نشاط ترجميّ مكثّف بين مصر القديمة وبلاد الرّافدين كان يمدّ جسراً للتّواصل بين الثّقافات والحضارات منذ أقدم العصور. ولعبت الترجمة دوراً مهماً في بث أشعة التنوير على المجتمعات، وحمل المترجمون عبر ترجماتهم رسائل التنوير، وعنهم يقول الشاعر الروسي بوشكين «المترجمون هم خيول بريد التنوير». هوامش http://www.alecso.org/bayanat/translation.htm بتصرف. 2-علم الترجمة المعاصر، فيلين ناعوموفيتش كوميساروف، ترجمة عماد محمود حسن طحينة، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، كلمة، الطبعة الأولى، 2010م. ص25. بتصرف. 3- د. مصطفى العبدالله الكفري: التواصل بين الشعوب بوساطة الترجمة: http://www.alukah.net/culture/0/62902/ بتصرف. 4- في الترجمة، لعبدالسلام بنعبد العالي. ترجمة كمال التومي. قدم له وراجع الترجمة عبدالفتاح كيليطو. المغرب. دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2006، ص21. 5- هذا النص منقول من ألف ليلة وليلة، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية 2008، ص 9. 6- المصدر السابق. ص96. 7- عبدالفتاح كيليطو، جدل اللغات، الجزء الأول. ترحيل ابن رشد، العرب والكتاب، ص72. بتصرف. 8- المصدر السابق. ص96. وتذكر بعض المراجع أن هناك ترجمة سريانية عن الأصل الفارسي تمت عام 570م. أما الترجمة العربية فتمت عام 750م. إلا أن جميع اللغات تقريباً اعتمدت على الترجمة العربية «ويكيبيدا».بتصرف. 9- لسان العرب. مادة رَجَم. 10 &ndash لسان العرب مادة عَجَم. 11- ويكيبيديا. بتصرف. 12- وردت كلمة ترجمان في كتابه تسع مرات، ويترجم مرتين، وترجمة مرة، وترجماني مرة. 13- مثال ما ورد في «ذكر سلطان أنطالية»: وسافرنا إلى بلدة بردور، وهي بلدة صغيرة كثيرة البساتين والأنهار، ولها قلعة في رأس جبل نزلنا بدار خطيبها، واجتمعت الأخية، وأرادوا نزولنا عندهم فرفض الخطيب، فصنعوا لنا ضيافة في بستان لأحدهم وذهبوا بنا إليها، فكان من العجائب إظهارهم السرور بنا والاستبشار والفرح، وهم لا يعرفون لساننا، ونحن لا نعرف لسانهم، ولا ترجمان فيما بيننا، وأقمنا عندهم يوماً وانصرفنا. 14- أورد ذلك في باب «ذِكر محنتي بالاٍر وخلاصي منه». 15- ويكيبيديا. بتصرف. 16- موقع الورّاق: http://www.alwaraq.net/Core/waraq/coverpage?bookid=26&option=1. بتصرف. 17- ويكيبيديا. بتصرف. 18 - ويكيبيديا. بتصرف. 19 - موقع الورّاق: http://www.alwaraq.net/Core/waraq/coverpage?bookid=67. بتصرف. 20- موقع الورّاق: http://www.alwaraq.net/Core/waraq/coverpage?bookid=67.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©