الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زمن الكينونة الحرجة

زمن الكينونة الحرجة
27 سبتمبر 2017 19:50
الفاهم محمد في الأفق القريب جداً، هذا إن لم نقل بأن الأمر بات أكثر من استعجالي، تنتظرنا قرارات صعبة في قضايا ومواضيع كثيرة تهم مستقبل الجنس البشري فوق الأرض. كان الفلاسفة يقولون بأن فعل القرار جنون، ومعناه أن الحياة تضعنا أحيانا أمام اختيارات صعبة بحيث لا يمكننا أن نستمر إلى الأمام إلا عن طريق التضحية بالعديد منها والاكتفاء بواحدة. كيفما كان الحال، فإن القرار كان بيد الإنسان هو الذي يختاره بمحض إرادته ووعيه. هذا الأمر واضح - مثلاً - في فلسفة سارتر، حيث ترتبط الحرية عنده بالقدرة على اختيار وتخطيط المشروع الخاص لحياتنا. ولكن هاكم الآن الميزة الجديدة للألفية الثالثة. لقد أصبح القرار مفروضاً علينا، سواء بفعل الضرورة البيئية أو السكانية أو الاقتصادية السياسية. لم نعد نملك لا إرادة الاختيار ولا إرادة إصدار القرار ولا حتى تعليقه. ما من مجال لمراوغة هذا المصير، ما عاد بالإمكان القيام بقطع العقدة الغوردية (1) والتخلص منها نهائيا بضربة سيف واحدة. إن كل ما نملكه الآن هو أن ننكب بصبر وأناة على نسلها مثلما تنسل كبة الصوف. هذا هو كل ما بقي لنا من الإرادة الصبر، ولكن أليس هذا بالشيء الكثير، ذلكم أن الصبر هو حكمة القدماء التي أضعناها في عصر السرعات المضاعفة. إنها قرارات لا نملك إزاءها أي اختيار طوعي، كما لا يمكننا أن نختار لذلك يمكن تسميتها «قرارات مصيرية - Des décisions fatidiques». قرارات لا ترتبط بإرادتنا واختياراتنا الفردية فقط، لأنها تتعلق بمصير الأرض ومصير المجتمع البشري ككل. فهل نملك الخيار مثلاً فيما يتعلق بالانتقال الطاقي من الطاقات الأحفورية إلى الطاقات البديلة؟ وهل نملك الخيار في موضوع الملاءمة بين التطور الصناعي وإنقاذ البيئة؟ هل نملك الخيار في ضرورة الحد من الانفجار السكاني الذي يشكل ضغطا هائلا على الموارد الطبيعية المحدودة؟ هل لنا الخيار في حتمية الانتقال بالحضارة البشرية كي تصبح حضارة نجمية تعمر كواكب أخرى بين النجوم؟ تعقيل العقل لنعترف بداية أنه ومنذ الألفية الثالثة ابتعدنا كثيرا عن ذلك الزمن الذي كنا نعتقد فيه أننا أسياد مصائرنا. صحيح أن القلق بدأ الإحساس به منذ ستينيات القرن الماضي، لكنه بلغ اليوم درجته القصوى. نحن نعيش ما يمكن أن نطلق عليه «زمن الكينونة الحرجة». كان ديكارت يتغنى بالوضوح والبساطة ولكن اليوم مع هذه السحب التي تتلبد فوق رؤوسنا ما من شيء أضحى واضحا أو بسيطا. حتى الفلسفة التي كانت دوما انتصارا للحياة قد تحولت إلى مرثيات تأبينية تتلى على كيانات كنا نعتقد إلى زمن قريب أنها خالدة: نهاية التاريخ، نهاية الإنسان، نهاية الحداثة... لا أحد ينكر اليوم الأزمة التي يعيشها الفكر الإنساني وبالخصوص تلك العقلانية المتحمسة والعلم الظافر الذي ورثناه عن عصر النهضة. وبعد الضربات التي ستوجهها مدرسة فراكفورت خصوصاً مع هوركهايمر وأدورنو، وفلسفة الاختلاف مع ديردا وليوتار، إضافة إلى الأعمال التي قامت بها البراغماتية الجديدة مع ريتشارد رورتي، يمكن القول بأن هناك شيئاً أساسياً علينا أن نحتفظ به كشعار يلخص درس نقد الفلسفة الأنوارية وتفكيك الميتافيزيقا، ألا وهو ضرورة «تعقيل العقل»، ذلك أن العقل كما تبين لنا يمكن أن يكون لا عقلانياً، والعلم الذي اعتقدنا كذلك أنه من الممكن أن يؤسس لخلاص البشرية أضحى بعيدا عن الغايات النبيلة التي انطلق منها. الأمر لا يتعلق بحل مسائل فلسفية مغرقة في التجريد، ولا بحسم إشكالات ذات طبيعة أكاديمية تنتمي لتاريخ الفلسفة. إذا كان هناك من شيء ينبغي العودة إليه ـ إذا ما جاز لنا استعمال العبارة المأثورة للفنومينولوجيا ـ فهي هذه الأزمة التي باتت حاضرة في الجهات الأربع للمعمورة. بين التكنولوجيا والإيكولوجيا دعونا نبسط، وإن كان بشكل مركز، طبيعة هذه المضائق التي سنضطر لعبورها بشكل محتوم في القريب العاجل. ولنبدأ بطرح هذا السؤال. كيف يمكن الملاءمة بين التكنولوجيا والإيكولوجيا ؟ لا حاجة إلى التذكير هنا إلى أن الشعار الديكارتي القاضي بجعل الإنسان سيداً ومالكاً للطبيعة، قد قاد الحضارة نحو الاصطدام بالمشكلة الإيكولوجية، ما حدا بالفيلسوف الفرنسي المعاصر مشيل سير إلى أن يرفع شعارا آخر: علينا أن نتحكم في التحكم. فلا الإنسان سيد هذا العالم، ولا الأرض يمكن أن تكون مجالاً مستباحاً له حتى يتملكها. لقد دفعت الفلسفة البيئية المعاصرة بأفكار كثيرة في هذا السياق بلغت بجيمس لوفلوك James lovelock مثلا إلى طرح فرضيته الشهيرة حول «غايا» فالأرض في نظره ليست مجرد موضوع كما كان يعتقد. إنها ذات، كائن حي، كل ما يوجد فيها من نباتات وحيوانات وبشر يعيشون جميعا بشكل مترابط، وأي إخلال بإحدى حلقات هذه السلسلة سيؤدي حتما إلى مشاكل تطال المنظومة البيئية ككل. كل هذا جميل، ولكن عليه ألا يقودنا إلى السقوط في نزعة مضادة للعلم، إلى «يوتوبيا بيئية». ذلك أن التقنية هي قدر الوجود البشري كما كان يردد دائما هيدغر. والحال أن ما نحن مطالبين اليوم به هو أنسنة العلم، ربط التكنولوجيا بالغايات الإنسانية النبيلة وبالتلاؤم مع البيئة. إنه ليس بالأمر الهين تحقيقه، لأننا نرى اليوم بشكل ملموس خصوصا مع الثورة التي تحدثها العلوم التي تدعى اختصارا NBCI كيف أن التقنية انتقلت من مجرد العمل على تقويم عمل الطبيعة إلى إحداث طبيعة جديدة. طبيعة تتفوق على الطبيعة الأم. نحن اليوم لسنا فقط قادرين على التعديل الجيني للكائنات، بل على خلق كائنات تظهر لأول مرة فوق الأرض. قادرون على صناعة روبوتات تحاكي الذكاء البشري وقد تتفوق عليه في المستقبل القريب. بل أكثر من هذا لقد أصبحنا نفكر في وضع حد للسر الكبير الذي أرق الجنس البشري منذ فجر الوجود ألا وهو الموت. بتنا نبحث عن إطالة مدة حياة البشر وإدراك الخلود. قطعان الاستهلاك مع ذلك ليس العلم وحده من يهدد الطبيعة اليوم، بل أيضا الرأسمالية، فمجتمع الوفرة والاستهلاك المعمم يشكل ضغطا على المحيط الحيوي. إن ارتفاع الطلب يدفع إلى الإنتاجية المتعاظمة وإلى جعل: «كل شيء ينبغي أن يكون قابلا للبيع» كما قال جان فرانسوا ليوتار مرة. وهكذا ما لم يتم تخليق (من أخلاق) الرأسمالية La Moralisation du capitalisme فإن الكارثة ستحل سريعاً على الأرض. أضف إلى هذا شيئا آخر، لقد حولنا السلوك الاستهلاكي إلى مجتمع نمطي متماثل، نحن اليوم نشبه القطعان التي لا يختلف أفرادها ولا يتميزون في شيء عن بعضهم بعضاً. لنا نفس الأفكار والأذواق والطموحات، ونفس أهداف الحياة وما إلى ذلك. لقد ضاعت الإبداعية والقدرة على الابتكار وهي أمور جوهرية علينا غرسها في الأجيال الناشئة بواسطة تربية تعمل على استنهاض العقل المبدع. إن إحدى المفارقات التي نعيشها حاليا نتيجة الثورة الرقمية هي أنه هناك تضخم هائل في المعلومات، مقابل ضحالة كبيرة في القدرة على توظيفها ضمن سياقات مغايرة. هناك أفكار ولكن ليس هناك تفكير، هناك معارف، ولكن ليست هناك قدرة على حل المشكلات. كل هذا حدث طبعا بسبب تراجع القدرة على الإبداع والخلق من نظمنا التعليمية القائمة على الحشو والتلقين. فهل سنتمكن بالفعل من بناء منظومة تعليمية خلاقة؟ إنه قرار صعب آخر يضاف إلى بقية القرارات المصيرية. عقد اجتماعي جديد صحيح أن الأمم حاليا مازالت مشتتة ومتباعدة عن بعضها البعض، وأشكال العنصرية والإقصاء تتفاقم يوما عن يوم، والثقافات والحضارات بدل أن تتفاعل وتتضايف مع بعضها بعضاً، باتت تتصارع وتتقوقع على نفسها مدعية كفايتها الخاصة. ولكن كل هذا عليه أن لا ينسينا الأمر الأساسي وهو أن كل شيء أصبح اليوم معولما، من الإرهاب العالمي إلى الفيروسات العابرة للحدود إلى المتغيرات المناخية والأزمة الاقتصادية. كل هذا وغيره ما عاد بإمكان أحد أن يدعي أنه بمنأى منه. كيفما كانت ديانتنا ومعتقداتنا ووضعنا الاقتصادي فإن مصيرنا هو مصير الجميع. وإذن، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن بناء عقد اجتماعي حضاري جديد؟ نتحدث اليوم عن نهاية الدولة /‏‏‏ الأمة لأن القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى باتت تصاغ في دوائر ومؤسسات فوق الدولة para _ état مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذا هو جوهر مفهوم الحكامة la gouvernance الذي نتغنى به اليوم، ومعناه أن الدولة عليها أن تتحول من مؤسسة سياسية مالكة لقراراتها بشكل مستقل، إلى مجرد جهاز إداري يعمل على تسير دواليب المجتمع من الناحية التنظيمية فقط، بينما القرارات الكبرى تملى عليها من فوق. لقد كان من المقدر لهيئة الأمم المتحدة كمؤسسة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية أن تلعب هذا الدور لكنها باتت متجاوزة وعاجزة كليا، بل هي خاضعة بدورها لتوجيهات القوى الكبرى. إنه قرار مصيري آخر ينتظرنا، تكوين مؤسسات دولية عادلة قادرة على تسيير شؤون الأرض سياسيا واجتماعيا وبيئيا على أسس عادلة بعيدا عن منطق القوة والمصلحة. ولكن حتى في هذه الحالة ومهما كانت عنايتنا بالمشكلة البيئية، وبترشيد السلوك الاستهلاكي الإنساني، وبقدرتنا على إيجاد مؤسسات دولتية Etatique عالمية وعادلة، فإن كل هذه الحلول لن تستطيع أن تقدم الشيء الكبير بصدد مشكلة المشاكل كلها ألا وهي محدودية الحياة فوق الأرض. يضعنا علم الفلك أمام هذه الحقيقة الصادمة: يوما ما ستستهلك الشمس وقودها ثم ستنتفخ مبتلعة أغلب الكواكب التي تدور في محيطها منهية بذلك قصة الحضارة الإنسانية فوق الأرض. لذلك ومهما كانت العناية التي يتوجب علينا أن نوليها لبيتنا علينا أن نفكر منذ اليوم في بيت جديد لنا بين النجوم. إنه أمر ضروري لا بالنظر إلى الأخطار الطبيعية المهددة للأرض ولا بالنظر إلى مشكلة الانفجار الديموغرافي الذي بات يقارب السبعة مليارات نسمة. يقدم الفيزيائي نسيم هاراميان nassim haramein استعارة جميلة في هذا السياق. إن الفراخ الصغيرة الموجودة في العش ما أن تكبر قليلا ويكسو جلدها الريش إلا وتجد نفسها مضطرة إلى اتخاذ قرار الطيران ومغادرة هذا العش وإلا فإنه سيسقط بها أرضا. إنها نفس الوضعية نعيشها حاليا لقد أصبحنا نثقل كثيرا على الأرض ونستنزف ثرواتها الطبيعية غير القابلة للتجديد لذلك علينا أن نقوم بقفزة خارج هذا الكوكب قبل أن ينهار بنا. هذا أيضا قرار مصيري آخر والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل سننجح فعلا في نقل حضارتنا إلى كواكب أخرى أم أننا لن نستطيع كبح جماح شرورنا وسندمر أنفسنا بأيدينا قبل حدوث ذلك؟ بيت بين النجوم مهما كانت عنايتنا بالمشكلة البيئية، وبترشيد السلوك الاستهلاكي الإنساني، وبقدرتنا على إيجاد مؤسسات دولية عالمية وعادلة، فإن كل هذه الحلول لن تستطيع أن تقدم الشيء الكبير بصدد مشكلة المشاكل كلها ألا وهي محدودية الحياة فوق الأرض. يضعنا علم الفلك أمام هذه الحقيقة الصادمة: يوما ما ستستهلك الشمس وقودها ثم ستنتفخ مبتلعة أغلب الكواكب التي تدور في محيطها منهية بذلك قصة الحضارة الإنسانية فوق الأرض. لذلك ومهما كانت العناية التي يتوجب علينا أن نوليها لبيتنا علينا أن نفكر منذ اليوم في بيت جديد لنا بين النجوم. نهاية الإنسان علينا أن نتحكم في التحكم. فلا الإنسان سيد هذا العالم، ولا الأرض يمكن أن تكون مجالا مستباحاً له حتى يتملكها. مشيل سير غايا الأرض يرى العالم جيمس لوفلوك في فرضيته الشهيرة «غايا»، أن الأرض ليست مجرد موضوع كما كان يعتقد. إنها ذات، كائن حي، كل ما يوجد فيها من نباتات وحيوانات وبشر يعيشون جميعاً بشكل مترابط، وأي إخلال بإحدى حلقات هذه السلسلة سيؤدي حتماً إلى مشاكل تطال المنظومة البيئية ككل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©