الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

متون المتوسط ضراوة الغرابة وشراسة الحلم

متون المتوسط ضراوة الغرابة وشراسة الحلم
27 سبتمبر 2017 20:18
إسماعيل غزالي أتمثل «البحر الأبيض المتوسط»، كمكان سحري، متاهي ّ، داغل في لانهائيته. لا تتوقف علاقتي بالمكان عند حدود واقعيته، كوجود جغرافي، كمعطى فيزيقي جاهز، إنما المكان الذي يعنيني، هو المنزاح عن حقيقته المشاعة، وشكله المستهلك، وقناعه الفلكلوري بالأحرى. لا يمكن لهذه العلاقة أن تتحقق دون أن تكون أنطولوجية بالضرورة، لكن الخلفية الجمالية التي يرتهن إليها الأمر برمته، هي تخييلة أولاً وأخيراً. الحديث هنا عن «البحر الأبيض المتوسط» لا يعني مطلقاً مديحاً ذاتياً لمسألة الانتماء أو انحصارا لهوية إنسانية في رؤية إقليمية أو جغرافية ذات نزوع نرجسي أو قومي أو عرقي... قطعا لا يتعلق الأمر بهذه الحماقة، فالمسألة قد تبدو في ظاهرها المعلن خرائطية، لكنها في المضمر كونية وإنسانية بشكل نوعي وجمالي ومعرفي. ثمة متاهة شهيرة صنعها المهندس الإغريقي ديدالوس في جزيرة كريت، المعروفة بوحش المينيتور الذي صرعه البطل ثيسيوس بمساعدة من أريان التي أمدته بخيط كي يفلت من المصير القاتل لفخاخ المتاهة المحكمة. إنها متاهة لا تخص جزيرة كريت وحدها في الواقع، بل يمكن أن تنسحب على العالم ككل. منذ زمن اصطدم وعيي بهذه المتاهة وأنا أمارس الترحال كغجري في الخرائط الكونية، متقصيا للحدود، ومخترقا لها، وكلما حسبتني ذهبت فيما وراء هذه الحدود، وتخطيتها أبعد ما يكون، وجدتني في متاهة مرسومة بدقة خالصة النبوغ، هي متاهة «البحر الأبيض المتوسط». عندما أقول مارست الترحال وما أزال أمارسه بالتأكيد، فلا يعني الأمر السفر المادي وحده، سفر الطائرات والقطارات والبواخر... بل يعني أيضا وبشكل مضاعف الترحال عبر النصوص الحكائية، الروائية بالذات، من منطلق ولع شخصي بالقراءة، قراءة المتون السردية العالمية، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وما يتخلق عن ذلك من عيش عجيب لحيوات الآخرين والتماهي مع تجاربهم من خلال متعة التخييل، وهي تجارب لا حصر لها من حيث تعددها اللايحصى وتشعبها الهائل واللانهائي. ومن خلال هذه التجارب فهناك علاقة غريبة تنشأ مع الأمكنة ذات الصلة الوثيقة بالشخوص الروائية، مدنا كانت أو قرى أو خلاءات سديمية حتى. متعة التخييل لا تضطلع بها القراءة فقط، بل هناك متعة جسورة لخيال الكتابة أيضا، إذ عبر انزياحه ومجازفته يتحقق السفر إلى مدن ممكنة وأخرى افتراضية ومستحيلة. عبر هذا الانفتاح الكوني على المراجع الكبرى للسرد، الموسوم مجاوزة بالفانتازي والسحري والغرائبي والعجائبي، سرد التحولات والمآلات، سرد الأحلام والرؤى والهذيان، سرد المجازفات المذهلة لقوة الخيال اللامحدودة. من خلال مجاورة لأفلاك ومجرات وأكوان حكائية في أمريكا اللاتينية والأدب الأمريكي وتخييل السرد الأنكلوساكسوني والياباني والصيني، والرّوسي...الخ، حدثت صدمتي الجمالية، ومعها اكتشفت قيمة التراث السردي المحلّي العربي والإفريقي والمتوسطي، بحكم الانتماء إليه جغرافيا أولاً وثقافيا ثانياً، فوجدت أن مرجعية ومصدر أغلب وأبدع الظواهر الفانتازية الكونية التي اطلعت عليها، كامنة في أطلس متخيل هذا البحر المدهش والمفزع في آن. البحر الأبيض المتوسط هو متحف تخييلها الأصلي وكتابها الأزلي البكر. كلمة المتوسط وضعها الجغرافيون القدامى والمؤرخون وعلماء الإمبراطوريات التي تعاقبت على فرض سيطرتها في المنطقة، للبحر ويعنون بها، البحر الذي يتوسط العالم، بحكم أن سواحله تواشج بين ثلاث قارات هي إفريقيا وأوروبا وآسيا، إنه توصيف يتطابق في الحقيقة مع الإرث الحكائي الذي يترف به متخيل المكان، كمثلث سحري، أزلي، لفن السرد وغرابته، كمركز كوني للخيال والحلم. لا قيمة أو معنى هنا لقدرية المتاهة كفكرة ميتافيزيقية، بل المسألة كامنة في هندسة خيالها أو تخييلها، كامنة في منطق غرابتها وحلميتها، في أشكال تحولاتها ومآلاتها، في أنماط لغزيتها ومفاتيحها، في دائريتها ولا نهائيتها في آن...الخ لنترك المتون الحكائية الإغريقية الميثولوجية التي حاولت أن تبني نسقا تخييليا للعالم عبر الأسطورة والخرافة، قبل أن تنشأ الفلسفة على هامشها كنسق عقلاني حاولت تفسير العالم عبر الجدل والمنهج والعلم. ولأتخطى سيرورات حكائية أولية ذات أهمية شاهقة، لأقف عند أول نص تخييلي استفزني وخلق رجة بكرا في ذائقتي ووعيي الفني، يرجع لأواخر القرن الأول، حوالي 170 ما بعد الميلاد، المعروف بالتحولات، أو الحمار الذهبي أو أحد عشر كتابا في التحول. هو نص لكاتب روماني من أصول شمال إفريقية - أمازيغية اسمه لوكيوس أبوليوس، تتحقق فيه كل مواصفات الرواية بشكلها الحداثي. الحمار الذهبي، تراث سردي لنزعة الكتابة المهووسة بالسفر والتحول والمآل، تتحقق فيه قيمة جمالية ومعرفية مدهشة، إذ أن الكتابة هنا انتبهت بحذاقة إلى رهان المغامرة، والمذهل أن تفكر الكتابة في طرائق وجودها وأشكال إبداعيتها باستحضار الطرف الآخر لفعل الخلق وهو القارئ، فضلا عن خوضها معترك الغرابة المتمثلة في قضية السحر والأشياء الخارقة التي لا تحيط بها المعرفة العقلانية، عبر بطلها لوكيوس الذي يجازف برحلة إلى هيباثا من أجل أن يعيش تجربة جذرية، هي تجربة التحول عبر السحر، وبدل أن يصير طائرا تحول إلى حمار ليقع في دوامة ورطة هائلة، ويتكبد مآس متعاقبة، ذات سخرية لاذعة، فيرتحل في أكثر من مكان، حتى يتأتى له الانعتاق من شكله البهيمي بتدخل من الإلهة إيزيس في آخر الحكاية. المثير في النص هو تعدد أساليبه الحكائية مع احتكامه إلى خلفية فسلفية ومعرفية أيضا لا تني تفكك الظواهر الخارقة بمنطق علمي واستدلالي وبرهاني، وهو منطق سرعان ما يتبخر أمام سطوة السحرية والعجائبية التي تسود مناخ الرواية. حلمية وسحرية وغرائبية نص الحمار الذهبي، تتمثل واقعا إنسانيا مضاعفا، هو واقع البحر الأبيض المتوسط من خلال تجربتين حضاريتين هما الرومان والإغريق. واقع تطوقه الغرابة من كل جانب، تاريخا وذهنية وأسلوب حياة أو نمط وجود. في الحمار الذهبي، يغادر بطل الرواية موطنه، إلى هيباثا المدينة المرغوبة كعاصمة سحرية، وكأن مقولة «الحياة في مكان آخر» وفق توصيف ميلان كونديرا تجسده «هيباثا» بكل إغوائها المركزي. فتكون «هيباثا» عتبة بالفعل لمتاهة عجائبية يدخلها السارد ولا يكاد يخرج منها. حلمية وغرابة ومتاهية نص الحمار الذهبي، سألفيها بشكل مضاعف في تراث حكائي متوسطي آخر، أشد قوة وإدهاشا، له أصول عربية وفارسية، هو تراث الكتاب الشهير «ألف ليلة وليلة»، كتاب الكتب الذي يحتكم بدوره إلى السفر في أطلس الحكايات عبر شهرزاد التي تقص في كل ليلة حكاية، لتؤجل قتلها، وعبر سحر ومكر الحكاية تستطيع أن تحافظ على حياتها وتحدث تغييرا جذريا في سلوك القاتل شهريار الذي يتزوج بها في النهاية وبهذا تنقذ شهرزاد نساء العالم. «ألف ليلة وليلة» متحف النصوص قاطبة، يعج بالغريب والعجيب، ويترف بالأحلام والشعر والفلسفة والتاريخ و...الخ كتاب يقف ببذخ في خلفية الكتابات الموسومة بالفانتازيا، كغابة لانهائية، ما أن يدخلها الواحد منا حتى يبقى تائها فيها إلى الأبد. يعزز من رصيد الغرابة والحلم والمتاهة كتاب متوسطي ثالث، هو ديكاميرون بوكاتشيو الإيطالي، الشبيه في منطقه الحكائي بألف ليلة وليلة، مع اختلاف أكيد في هندسته وطرائق كتابته، ويشترك بقوة في مسألة الحلمية والغرابة والمتاهية مع نص الحمار الذهبي وألف ليلة وليلة، فضلا عن الأيروتيكية التي تدمغ هذه التروس الحكائية الثلاثة وهي باذخة بامتياز. يضاعف من هذا التراث المتوسطي العجيب ميلاد رواية إسبانية مذهلة، جمعت في ماراطونيتها الحكائية، الغرائبية المعاصرة وعالجت بشكل ملحمي تاريخ الفروسية من خلال حكاية ساخرة سوداء، لدونكيشوت دي لامنشا، لسرفانتيس الذي خلق منعطفا أساسيا في خارطة الحكي ليس فقط في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بل أوروبا جمعاء والعالم بأكمله... هذا بغض الطرف عن النصوص الموازية، وهي غفيرة ذات قيمة جمالية دامغة، كرسالة الغفران للمعري والكوميديا الإلهية لدانتي أليغري وقصص القساوسة لبيير ألفونسو وحكايات جيوفاني...الخ. لا أبتغي من الالتفات إلى هذه النماذج الكلاسيكية المعروفة، غير التأكيد على أشياء ذات أهمية وخطورة، لها علاقة وثيقة ب«الحياة في مكان آخر»... عنوان إشكالي هاجس سؤاله اللاذع الإنسانية منذ عشرات القرون، كما يتضح في المصادر الحكائية المتوسطية التي وقفت عندها، فالحياة كفرضية غير أحادية المعنى وكتمثل ملتبس وهلامي، هي في تصور أبطال «الحمار الذهبي» و«ألف ليلة وليلة» و«الدونكيشوت»...الخ دائما موجودة في مكان آخر، غير المكان الأصلي، الشيء الذي يستدعي المجازفة بالسفر إلى المكان المغوي المتخيل، سفر ومغامرة محفوفة بمخاطر التحول والموت والاغتراب والتيه، حتى يصعب على أبطال هذه النصوص (وهم إشكاليون) الفصل بين الحلم والواقع، فيما هم خائضون فيه... جدير بالإشارة والتوضيح، أن المكان المفترض الذي يستأثر بالحياة المغوية المفقودة في المكان الأصلي، قد لا يكون مكانا واقعيا في حقيقة الأمر، بل هو مكان متخيل لا غير، مكان قائمة هندسته العجيبة في الحلم، مكان لا يوجد بالضرورة في جغرافيا مختلفة، أو بلاد أخرى أجنبية، بل يعسكر في مكان البطل الأصلي، غير أنه مكان غير مرئي، غامض وخفي، ولكي يكتشفه البطل يلزمه السفر، والمجازفة، وتكبد مخاطر التحول والاغتراب، ومخاطر التيه المميتة. تعمدت أن لا أحكي عن التجارب الحكائية المعاصرة والجديدة التي تتمثل المسألة بشكل مختلف ومضاعف ومغاير ومنزاح وفق التحولات الكبرى التي خلخلت الخرائط الدالة للبحر الأبيض المتوسط، إنسانيا ومعرفياً وتاريخياً وآثرت أن أرجع إلى النصوص الكلاسيكية الأصلية الشبيهة بالشجرة التي تفرعت عنها غابات السرد الحاضرة، وهي داغلة ومتشعبة ومتاهية... لكن لا بأس من الالتفات إلى نص متوسطي معاصر هو («مدن لامرئية» للكاتب الإيطالي إيطالو كالفينو)، لأن الحديث عن مقولة «الحياة في مكان آخر» يستدعيه في مختتم هذه الشهادة، فالأمر شبيه بمدن إيطالو كالفينو اللامرئية، التي يسافر إليها الشاب الفينيسي «ماركو بولو» ويرويها بارتياب لإمبراطور التتار «قبلاي خان»، مدن عجائبية لا وجود لها على أي خارطة، مدن تنتمي إلى أحلامه وخياله فقط، وفي النهاية هناك مدينة «ماركو باولو» التي تشكل منطلق السفر، «البندقية» التي يكتشف بأنها كامنة في كل تلك الحواضر والأمصار التي شاهدها بعين خياله ووصف بصورة بديعة أشكالها المعمارية المدهشة واللامعقولة. البندقية التي يقول عنها نيتشه في كتابه «هذا هو الإنسان»: (عندما أبحث عن اسم آخر للموسيقا فإنني أفكر في البندقية). هكذا لا تتحقق إبداعية، وجمالية ومجازية الأعمال الفنية أيضا إلا بالكتابة والحكي عن مدن وأمكنة، تتخطى واقعيتها وما هي عليه. بالتأكيد «الحياة هي في مكان آخر»، مكان لا يوجد بالضرورة في جغرافيا مغايرة، ليس بالضرورة أن يكون حتى خارج المنظومة الشمسية، إنه موجود في داخلنا، لا خارطة طريق أو دليل إليه إلا خيالنا. ذلكم هو الدرس الأول، لمثلث «البحر الأبيض المتوسط»، الموسوم بضراوة الغرابة وشراسة الحلم. تحولات الحمار الحمار الذهبي، تراث سردي لنزعة الكتابة المهووسة بالسفر والتحول والمآل، تتحقق فيه قيمة جمالية ومعرفية مدهشة، إذ إن الكتابة هنا انتبهت بحذاقة إلى رهان المغامرة، والمذهل أن تفكر الكتابة في طرائق وجودها وأشكال إبداعيتها باستحضار الطرف الآخر لفعل الخلق، وهو القارئ، فضلاً عن خوضها معترك الغرابة المتمثلة في قضية السحر والأشياء الخارقة التي لا تحيط بها المعرفة العقلانية، عبر بطلها لوكيوس الذي يجازف برحلة إلى هيباثا من أجل أن يعيش تجربة جذرية، هي تجربة التحول عبر السحر، وبدل أن يصير طائراً تحول إلى حمار ليقع في دوامة ورطة هائلة، ويتكبد مآس متعاقبة، ذات سخرية لاذعة، فيرتحل في أكثر من مكان، حتى يتأتى له الانعتاق من شكله البهيمي بتدخل من الآلهة إيزيس في آخر الحكاية. متاهة المتوسط ثمة متاهة شهيرة صنعها المهندس الإغريقي ديدالوس في جزيرة كريت، المعروفة بوحش المينيتور الذي صرعه البطل ثيسيوس بمساعدة من أريان التي أمدته بخيط كي يفلت من المصير القاتل لفخاخ المتاهة المحكمة. إنها متاهة لا تخص جزيرة كريت وحدها في الواقع، بل يمكن أن تنسحب على العالم ككل. منذ زمن اصطدم وعيي بهذه المتاهة وأنا أمارس الترحال كغجري في الخرائط الكونية، متقصياً للحدود، ومخترقاً لها، وكلما حسبتني ذهبت فيما وراء هذه الحدود، وتخطيتها أبعد ما يكون، وجدتني في متاهة مرسومة بدقة خالصة النبوغ، هي متاهة «البحر الأبيض المتوسط». متوسط العالم كلمة المتوسط وضعها الجغرافيون القدامى والمؤرخون وعلماء الإمبراطوريات التي تعاقبت على فرض سيطرتها في المنطقة، للبحر ويعنون بها، البحر الذي يتوسط العالم، بحكم أن سواحله تواشج بين ثلاث قارات هي، إفريقيا وأوروبا وآسيا، إنه توصيف يتطابق في الحقيقة مع الإرث الحكائي الذي يترف به متخيل المكان، كمثلث سحري، أزلي، لفن السرد وغرابته، كمركز كوني للخيال والحلم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©