الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التركة الأدبية وأهلية التوريث

التركة الأدبية وأهلية التوريث
27 سبتمبر 2017 20:18
حنا عبود في ملف أحد المتقدمين لجائزة القصة القصيرة، في الربع الأخير من القرن الماضي، قصتان، إحداهما تروي أن فتى ورث كرسياً عن أبيه، الذي ورثها عن جدّه، بعد أجيال وأجيال من التوريث، فاستأثرت بكل اهتمامه، ولكن بعد مدة بدأ اهتمامه بها ينكمش، وطفق الملل يتسرب إليه، فصار يسمع منها حسيساً أقرب إلى صوت صريف الأسنان. جرب أن يسمعها عن كثب، ثم عن بعد وعن يمين، ثم عن شمال... وراح ينوّع زوايا سمعه... فلم يتغيّر شيء؛ بل ظل الصوت على ما هو. ثم صار يسمع الصوت من الكرسي وهي بعيدة عنه، ثم صار يقلق في الليل وهو يفكر في هذه الكرسي الموروثة عن جدود العائلة. وانتهى إلى قناعة أن الجدود «عملة» قديمة، لا يجيدون انتقاء الخشب، وإن أجادوا زخرفته، فلا يورثون إلا أوجاع الرأس. ووصل إلى يقين أن هذه التركة باتت عبئاً، وأراد التخلص منها، فوضعها في غرفة الأدوات المهملة، فأي جمال يبقى وأي متعة تظل في كرسي نخر السوس أخشابها. وفي إحدى الأماسي كشف لصديق له قصة الكرسي، كأنه يفشي سراً شنيعاً، فاصطحبه صديقه إلى طبيب مختص، انتهى تشخيصه إلى أن صوت السوس يعود إلى خلل في الأذن الوسطى، بحيث كلما أساء الظن بأي شيء، تحرك العصب فأصدر هذا الصوت، الذي قد ينتقل أحياناً من الأزيز إلى الطنين، بحسب درجات سوء الظن. ونحن، أو أي وارث تركة... نتعامل معها من غير أن نختبر أهلية التوريث، فقد تكون فينا أمراض غير مؤهلة لاستلام التركة. وهكذا تظهر الخبايا عندما تسوء النوايا. إن التركة مشكلة حقيقية في الغرب والشرق، فتركها هلاك، والتمسك بها إرباك، فلا بد أن يكون الوارث أهلاً للموروث، وأن يكون الموروث مفيداً للوارث. التركة الغربية في الغرب تبدو الأمور سهلة، أو على الأقل أسهل مما هي في الأدب العربي، والسبب يعود إلى أن الآداب الأوروبية بمعظمها، إن لم نقل كلها، تعود إلى العصور الحديثة؛ إذ قامت على الأدبين المعروفين: اليوناني والروماني. والأغلب الاعتماد على الأدب اليوناني، فالمأخوذ من الأدب الروماني محدود جداً. فكأن الأدب اليوناني يمثل ما يمثله الأدب الجاهلي لنا. ولذلك كل المنتخبات والمختارات التي تربي الذائقة الأدبية لا بد أن تبدأ بالـ «جاهلية» الأوروبية، التي يعتبر الإغريق أصحابها الأصليين. وبعد ذلك ينتقل الخبراء إلى الاختيار من الأدب المحلي، كالإنجليزي والفرنسي والإيطالي... الخ. واختاروا كلمة أنثولوجيا: أنثو (قطف، تجميع، ترتيب...) وأضافوا إليها كلمة «لوجيا» فيصبح معناها «علم التجميع». وظهرت مترادفات عدة لهذه الكلمة أمثال باقة الأزهار، والكنز، والذخيرة، والمنتخب... وأحياناً يستخدمون «الباص» بمعنى الأحمال المتنوعة... وهكذا. وقد تفنن الغربيون في تقديم تراثهم اليوناني المعتمد. فمرة يقدمون المقتطفات في فرع واحد، ومرة في عدة فروع، ومرة يحددونها بعصر ومرة يقطفون من كل العصور... وحتى عندما تكون المنتخبات محلية صرفاً نجدها مرتبطة بالتراث اليوناني كأشعار كيتس وبايرون وبو في «الكنز الذهبي»، وهو الذخيرة الشعرية عند مدرسة الديوان، كما كان وليم هازلت الذخيرة النقدية. التركة العربية فرق كبير بين التركة العربية والتركة الغربية، فكل موروث يوناني لا بد أن يترجم إلى اللغة المحلية. صحيح أن هذا الموروث كان مبعداً في العصور الوسطى، إلا أن النهضة الأوروبية جعلته مقياساً لكل العلوم الإنسانية، بل جعلته أساساً لأي انطلاقة أدبية وإنسانية، فعليه قامت كل آداب أوروبا. كان أراسموس، ذو الرتبة المتقدمة في الكهنوت المسيحي، يردد: «سقراط، أيها الحكيم، صلّ لأجلنا». وما الهجوم على الكهنوت في «الديكاميرون» سوى ضرب من النظرة اليونانية للحياة. ولا تختلف حكايات كانتربري عن هذا كثيراً. ولو نظرنا في بقية العلوم الإنسانية لما تغيّر شيء. هناك أساس اسمه الأدب اليوناني أقامت الآداب الأوروبية عليه صرحها. في العربية يختلف الوضع كل الاختلاف، فلم يقم الشعر العربي على أي شعر أجنبي آخر، لا في الأوزان ولا القوافي، ولا في البيئة المستعارة، بل إنه فن نشأ في الجزيرة العربية، ولا يحتاج إلى أي ترجمة. وبعد أقل من قرن تفاعل مع البيئات المحلية. المجموعات الشعرية ومن الطبيعي أن تبدأ التركة بالشعر، جوهر الشخصية العربية، فالأصمعيات والمفضليات، من أوائل مظاهر وعي حفظ التركة، وقد عكست هاتان المجموعتان ذاك التنافس الذي كان قائماً بين البصرة (الأصمعي) والكوفة (المفضل الضبي). وعندما أطلق أبو تمام، الشاعر الأكبر في العصر العباسي، اسم «حماسة» على مختاراته الشعرية، كأنما وضع سكة سلكها الكثيرون بعده، بالعنوان ذاته: حماسة البحتري، حماسة الحسن البصري، الحماسة المغربية، حماسة الظرفاء للزوزني، الحماسة الشجرية...إلخ. قامت «الحماسة» بتوسيع التركة الأدبية، فعلى سبيل المثال لولا الحماسة البصرية لضاع قسم كبير وعظيم من التركة الشعرية، بالإضافة إلى أن فيها أبواباً لم يتطرق إليها الشعراء، من أمثال «باب أكاذيب الشعراء وخرافاتهم» و«باب ملح الترقيص»، والباب الذي قلده مؤلفو الحماسات اللاحقة وهو «الزهد والإنابة». لكن المختارات الشعرية، على كثرتها في القديم، أخذت تتراجع كلما تقدم الزمن، حتى أنها تقتصر على بعض الشعراء الذين يقدمون ما يختاره ذوقهم من الشعر القديم والحديث. المجموعات الأدبية لخص ابن خلدون نظرة عصره فقال إن كتب الأدب أربعة وهي كامل المبرد وأمالي القالي وبيان الجاحظ وأدب ابن قتيبة. وكما تطوّرت المجموعات الشعرية بين عصر وعصر، كذلك تطورت المجموعات الأدبية التي تشتمل على كل ألوان الأدب، فكتب التعليم التي ذكرها ابن خلدون، تطورت كثيراً، وانفصلت الناحية التعليمية فيها (النحو والصرف والأوزان والقوافي...) عن الناحية الأدبية، ومالت إلى الكتاب العظيم الذي قدمه الأصفهاني وهو كتاب «الأغاني». ومن أطرف ما قدم في هذا الميدان كتاب «الكشكول» في القرن السابع عشر، لبهاء الدين العاملي، الذي زعم أنه متابعة لكتابه السابق «المخلاة». والكشكول كلمة آرامية مركبة من كش أي خذ، وكل أي الجميع، أي الأخذ من الجميع. وكانت الكلمة تطلق على كيس المتسوّلين. وفي الكتاب أسماء جديدة لم يذكرها قبله أحد، بالإضافة إلى الكثير من الأحداث الجديدة التي لم يسبقه إلى إعلانها أحد. لكنه مثل سوالف أماسي حراس الحقول، لا بداية ولا نهاية ولا ترتيب، فلا أجزاء ولا فصول ولا استراحة بعد طول السرد. والكتاب مفيد ولكن التعامل معه متعب، لعدم عنايته بتنسيق المواد وترتيبها. مجاني الأدب إلى جانب «نفح الأزهار من منتخبات الأشعار» المجموعة الشعرية التي غطت حتى القرن التاسع عشر وأشرف على نشرها إبراهيم اليازجي، ظهر كتاب «مجاني الأدب من حدائق العرب» للأب لويس شيخو، ويعتبر الأكمل حتى ذلك الوقت، فلم يقتصر على الشعر، بل وسّع الدائرة إلى درجة تقديم صورة شبه كامل عن النشاط الأدبي والفكري عند العرب. ويتألف من ستة أجزاء، ولكل جزء أبواب واحدة تقريباً، ولكنك في كل باب تقرأ لأبناء عصر جديد، بل إنه في باب التاريخ يستغرق التاريخ بكامله تقريباً موزعاً حسب التسلسل الزمني، من الجزء الأول وحتى السادس. يبدأ في الجزء الأول بسرد تاريخ الخلق والتكوين، ويتدرج في الأجزاء التالية حتى يصل في الجزء السادس إلى الدولة العثمانية، فيكون أطلع القارئ على كل تاريخ العالم العربي، وغير العربي أيضاً، فقد سرد تاريخ الأمم الأخرى. أما المواد غير التاريخية فتخضع لتصنيف الأنواع. ويختار لها أجود الأقوال من شعر ونثر. وهذا أول كتاب بالعربية ينطبق عليه اسم «إنثولوجيا» وهو لا يقل ترتيباً عن أمثاله في الآداب الأخرى. وقد أكثر، وهو الخادم في الكهنوت، من مواد التدين والتقوى، والأخلاق والسلوك والإيمان... فأكثر الاقتباس من المفكرين الدينيين وبخاصة الغزالي. لكن لا يخرج القارئ بأي فكرة عما يسمى المدارس الأدبية الغربية، كما أنه تجنب ذكر الفن الدرامي، ولا ذكر شيئاً عن الفن الجديد الذي كان قد تطور كثيراً في زمنه. التوجيه الأدبي بعد خمسين عاماً تقريباً من ظهور «مجاني الأدب» كان لا بد من أن يظهر كتاب يقدم للقارئ ليس التركة العربية كما هي في الكتب السابقة، بل كما تفاعلت مع الأدب الغربي، الذي بات عنصراً لا بد منه في العصر الحديث. لم يكن الأدب الغربي فعالاً في الشرق على مدى العصور الوسطى، بينما كان للأدب الغربي الحديث تأثير مباشر في أدبنا، وهو التأثير الفعّال الأكبر في الشرق. وبدأ هذا التأثير يظهر منذ أيام رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق. ففي كتاب «مجاني الأدب» لا ذكر للرومانسية أو الكلاسيكية أو المسرح... فجاء كتاب «التوجيه الأدبي» في خمسينيات القرن العشرين ليغطي الجديد في تفاعل الأدب العربي مع الأوروبي. ومؤلفو الكتاب من أصحاب الاختصاصات، بالإضافة إلى العراقة في الدراسات الأدبية، فكأن الأدوار وزعت توزيعاً على الأدب اللاتيني الإغريقي (طه حسين) والأدب العربي (أحمد أمين) والأدب الفارسي والآداب الشرقية (عبد الوهاب عزام) والأدب السكسوني والأوروبي الحديث (عوض محمد عوض). إنه كتاب توجيه أدبي فعلي، ومن الأفضل اعتماد مخططه في كل عمل قادم، وتوسيع دائرته، زماناً ومكاناً. بالطبع ظهرت بعده حتى الآن الكثير من المدارس الأدبية والنقدية، وبخاصة البنيوية وما بعد البنيوية والنسوية وما بعد النسوية... إلخ، فلا بد من تحرير «توجيه أدبي» جديد يغطي هذه المساحة الأدبية. وقد ظهرت كتب عديدة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ولكنها لا تسد ما أشرنا إليه، بل لا تمتد إلى الآفاق التي وصل إليها كتاب «التوجيه الأدبي». من هذه الكتب مثلاً: «مصادر المكتبة الأدبية» لمحمد عبد المنعم خفاجي (1992) و«من ذخائر المكتبة العربية» لإبراهيم عوض (2000) و«الثقافة الأدبية للطالب» لعلي جواد طاهر (1986) وهو من أوسع برامج التثقيف الأدبي... ولا نشك في فائدة هذه الكتب، لكنها بحاجة إلى التوجيه البارع الذي نجده في كتاب طه حسين المشار إليه. النموذج العصري في هذا العصر لا بد من توسيع مجال التوجيه الأدبي، بحيث تدخل الثقافة العالمية، لا المقتصرة على المتوسطية، وقد ظهر كتاب يعتبر من أشمل كتب التوجيه الثقافي «دليل القارئ إلى الثقافة الجادة» من ترجمة أحمد عمر شاهين (العدد 349 من المشروع القومي للترجمة) وبلغ الكتاب من الدقة والاهتمام حداً بعيداً، بحيث يختار المواد الأدبية والثقافية من كل الثقافات في العالم، ويخصص لكل سن نوع الكتب التي تلائمها، من سن الطفولة حتى سن التقاعد. وفي «التنسيب الأدبي» Initiation into Literature لإميل فاغيه، انتقاء دقيق لكل التراث الأدبي العالمي، الشرقي والغربي حتى مطلع القرن العشرين. وهناك كتب أخرى لكنها كلها لا تختلف عن الكتابين اللذين عرضناهما. ثلاثة أرباع القرن بعد «التوجيه الأدبي» لم يظهر مشروع عربي لاستكماله. والقول إن الإنترنت تغني عن المشروع نوع من التخلي عن المسؤولية، فهي تغنيه ولا تغني عنه، فالتركة لا تكون جميلة وذات شخصية بارزة إلا إذا صنعت بأيدي أصحابها الذين يفخرون بها، وإلا: إذا ركبْتَ ظنون السوء في خشبٍ سمعْتَ صوت صريف السوس في الخشبِ وتكون بداية النهاية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©