الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بابل مدينة الإثم والرفاه··

بابل مدينة الإثم والرفاه··
12 فبراير 2009 02:38
يعرف قاموس (وبستر) الاميركي كلمة بابيلون بأنها ''المدينة المكرسة للماديات والمتع الحسية''· وبابيلون هي بابل التي سادت وارتفعت بأبراجها المشيدة وحدائقها المعلقة، لتعود وتنهار من غزو خارجي وفساد داخلي· وبابل هي ايضا موضوع المعرض الذي يقيمه المتحف البريطاني هذه الايام تحت عنوان ''الخرافة والواقع'' ليحتفي بحضارة أثرت على مصير العالم بشكل أو بآخر قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، حتى استلهمتها البشرية كرمز للمدينة االمترفة الفاسدة· دلالاتها ورموزها نجدها في لوحات فنية وأعمال موسيقية، وأفلام أنتجتها هوليوود ومسارح البرودواي في نيويورك والويست اند في لندن· وكأن بابل ستبقى هكذا للأبد، يعاد تشييد برجها في كل مرة كي يدمر وينهار، ونبقى نتذكر ان مدنا كثيرة على مر العصور تحل محل بابل العراق دوما وتعيش المصير نفسه بشكل او بآخر· المعرض المقام هو الاول من نوعه في بريطانيا وفي العالم، فقد جمع عدة جوانب من الموروث البابلي القديم والمعاصر، مستعيرا قطع أثرية وأعمالا فنية وتسجبلات على الفيديو· بعض ما هو معروض مقيم أساسا في متاحف أخرى عريقة مثل متحف اللوفر بباريس ومتحف بيرغامون ببرلين، لكنها المرة الولى التي يمكن معها متابعة مرعض يلم بكثير من جوانب تلك الحضارة التي نشأت على المنطقة الجنوبية من ضفاف نهري دجل والفرات، والتي تغطي بحسب الواقع الحال بغداد حتى الخليج العربي· انها محاولة لجمع القديم بالحديث، الواقعي بالمتخيل والمستلهم، وإعادة صياغة المدينة التي فقدت تجت الرمال مئات السنين، الى ان لمح نتف منها رحالة بريطاني مهتم بالآثار في القرن التاسع عشر، فأيقن ان هذا الموقع هو لبابل التي ورد ذكرها في التوراة· ثم بدأت اعمال التنقيب حتى عثر على أجزاء كبيرة منها، وراح المنقبون خلال أكثر من مائتي سنة يجمعون القطع والكسر الى بعضها، ليتوصلوا الى تصور للمدينة التي كانت عاصمة ترفهت من توسعها وحروبها، حتى باتت مركزا للعلوم والرياضيات والهندسة والاداب والفنون والتجارة الضخمة وعلم الفلك· مدينة تعيش في هذا البذخ يحق لها ان تفكر في الغيب فتبحث في السماوات والنجوم عن مصائر البشر· ومن هذه الحضارة تحديدا استعارت البشرية علم الابراج الذي لا يزال سائدا حتى الان بتسمياته التي ترمز الى أشكال الحيوانات وغيرها· كذلك نظام الوقت القائم على رقم 60 والذي نعتمده الان في تقسيم ساعة الزمن، منشأه من هناك بصفته الرقم الاسهل القابل على القسمة· كل ذلك نتاج العقل البشري في بلاد ما بين الرافدين التي اعتمد عليها اليونانيون وطوروها، ثم نقلها العرب مرة أخرى الى اوروبا· استوحتها الفنون هناك مرويات كثيرة عن بابل سجلها رحالة ومؤرخون، اشهرهم كان المؤرخ الاغريقي هيرودوت· كذلك اشار لها القرآن من خلال هاروت وماروت وأعمال السحر، وذكرها ايضا الرحالة العرب في مروياتهم· لكن يبقى كتاب العهد القديم هو الاكثر تأثيرا بأخيلته المستمدة من فترة نبوخذ نصّر الثاني الذي حدثت في فترة حكمه (605 ـ 562 ق م) وقائع كثيرة، من بينها الاستيلاء على القدس وأسر نخبة اليهود واستخدامهم في بناء برج بابل كما تقول الرواية التوراتية· وفي تلك الفترة التي استمرت ثلاثا وأربعين سنة، شيدت بابل قصورها وبرجها وبذخها الذي اخذ بعقل كل من رآها او تخيلها· ومن تلك المرويات في التوراة استوحى باحثون وفنانون وأدباء بابلهم الخاصة، واذا كنت ممن كانوا يتابعون موسيقى الفرقة الاميركية (بوني ام) في السبعينات والثمانينات المكونة من شباب سود، فإنك قد استمعت ولا بد الى اغنيتهم الشهيرة (قرب نهر بابل)، وفيها استلهمت الفرقة المتحدرة من عبيد انتزعوا من افريقيا الام، حكاية الاسر اليهودي التي تمت على ايدي نبوخذ نصر عندما غزا القدس· فرقة البوني ام غنت ما معناه: ''بقرب نهر بابل جلسنا هناك وبكينا عندما تذكرنا صهيون/ طلب منا الشرير الذي اخذنا الى الأسر ان نغني/ كيف يمكن ان نغني اغنية الاله ونحن في الارض الغريبة!''· كذلك استلهمت هوليوود شخصيات وأحداث من تلك الحضارة القديمة او اولى الحضارات في المنطقة، فأنتجت افلاما حولها مثل فيلم ''سميرا ميس'' عن الملكة الآشورية الشهيرة· أثرت تجربة بابل بالوعي الجمعي اليهودي المسيحي، وفي الغرب تحديدا، فاسم بابيلون، وكذلك بقية التفاصيل التي تخص الاساطير التي نسجت حولها، تتردد كرمز وإحالات مثل غيرها من رموز الكتاب المقدس· في الانتقادات لتي شنت مثلا على سارة بيلين المرشحة لمنصب مساعد الرئيس عن حزب المحافظين في الانتخابات الاميركية الاخيرة، استخدام تعبير(عاهرة بابل) من منطلق الهجوم عليها في المواقع ووسائل الاعلام· و''عاهرة بابل'' استلهمها الرسام الالماني البريخت ديرر في القرن الخامس عشر في لوحة حملت العنوان نفسه· ولا تزال المدينة الاسطورية الواقعية كما وردت في التوراة مصدر الهام يرمز بها لأي حضارة، بجنوحها نحو التفوق المطلق ورغبتها في الوصول الى السماء من خلال برجها العالي، (تذكير بأن بابل تعني في اللغة الاكادية باب الاله)، الامر الذي أغضب الرب، بحسب الرواية الدينية، فحق عليها الهلاك وتوزع ناسها في الارض كي تتعدد اللغات فيتفرقون ولا يتحدون ضده، طالما ان وحدة اللغة المشتركة بينهم جعلتهم يتعاونون على الاقتراب من سماوات الالهة· البرج الحاضر رمز برج بابل فرض نفسه على أعمال الرسامين والمصورين، في عصر النهضة وبين المعاصرين على السواء، وكان البعض يرى في انهيار تلك المدينة نوعا من ''القيامة'' والعقاب تتماهى معه المدن والحضارات الجديدة· لكن رمز بابل او بابيلون كان يتغير من جيل لآخر، حتى ليمكن القول انه كان لكل جيل بابله الخاصة· ومن بين اللوحات المعروضة المفضلة عندي، اثنتان معاصرتان، الاولى لوحة (زيارة لبابل ـ 2004) للفنانة جولي هولكومب وقد صيغت بأسلوب الديجيتال والكولاج مصورة ناطحات السحاب في مدينة اميركية تحيط بها أعمال الحفر والبناء والمنطقة الصناعية وبيوت رثة واخرى ذات قصور· واللوحة تنويع على أعمال فنانين من القرن السادس عشر مثل بيتر بروغل الاب من المدرسة الهولندية، وقد رسم تصورا لبرج بابل في أكثر من لوحة، كذلك فعل مواطنه لوكاس فان فالكنبورش، والرسام كورنيليس انثونيش الذي يقدم له المعرض لوحة ''سقوط برج بابل'' وهي من أعمال الحفر· وتستعير الفنانة جولي هولكومب عنوان اللوحة من قصة قصيرة للكاتب الاميركي فيتزجيرالد نشرت عام 1931 نشرت تحت عنوان ''زيارة لبابل'' وذلك في اعقاب انهيار الاقتصاد الاميركي وقيمه· اللوحة المعاصرة الثانية التي استوقفتني كثيرا امامها، هي لمايكل لاسيل الشاعر والقاص والفنان الاميركي المعاصر الذي رسم لوحة زيت على الكنفاه عنوانها (برج بابل-2001)، وقد وضع الاسفل نسخة من لوحة قديمة إشارة للمصدر، وراكم رسما من احذية اللاجئين وتربعت على قمة كومة من الاحذية صور لؤلاء المهاجرين او طالبي اللجوء· هذا العمل الفني هو استيحاء جديد مقارب للواقع السياسي الاقتصادي للمجتمعات الغربية، ويذكر الفنان ان اياه كان يعمل اسكافيا وعندما كان يزوره في دكانه كان يرى كم الاحذية الكثيرة الموجودة للتصليح والوجوه التي لا تني تتردد على المحل من اجلها، وان تلك المشاهد كانت توحي له بالدفئ الانساني، وربما هذا ما دفعه الى استيحاء الاحذية في لوحته الملفتة هذه· معرض ''بابليون: الخرافة والواقع'' يقام في المتحف البريطاني بلندن ويستمر حتى مارس ،2009 وسيكتشف الزوار من خلاله ان بابل مدينة ترمز لحضارة حقيقية وجدت في يوم من الايام، بصور اثارها والخرائط المرفقة بها وتدوين من بين آثارها لأهم النباتات والأعشاب التي كانت تزرع فيها، والتذكير بأن صدام حسين حاول ان يبنيها من جديد على طريقته ويضع اسمه على كل طابوقة تماهيا مع نبوخذنصر، وان إدارة بوش دمرت الكثير من موقعها وتسببت في ضياع اجزاء من الآثار من متاحف العراق· المعرض يعيد تركيب الذاكرة حولها وينبه الى ان بابيلون ليست ابنة الأساطير وحكايات التوراة فقط التي تتركز على سبي اليهود·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©