السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جواز سفر إلى مملكة الشعر

جواز سفر إلى مملكة الشعر
25 يونيو 2014 22:28
حنا عبود بعد تعاظم دور الفرد في عصر النهضة الأوروبية، وتكاثر الملكيات الخاصة الصغيرة التي تمد المرء بشيء من الاستقلالية، تراجع دور الاجتماع البشري في الشعر. في العالم القديم كانوا يقيمون مئات الأعياد في السنة، حتى أن المرء يعجب كيف كانوا يعملون ويعيشون، إذا كانت تلك الأعياد تجتزئ القسم الأكبر من وقتهم. يعتبر القرن التاسع عشر الحافز الأكبر لقيام الشعر الفردي المتميز عن الشعر الجمعي الموروث. وربما كانت الحركة الرومانسية الإنجليزية أشهر ممثل لما اعتبره فكتور هيغو «ثورة» في الأدب، وطفق يناظر فيها ويدافع عنها بحماسة لاهبة. والواقع أن عدة مدارس أدبية ظهرت في القرن التاسع عشر نحت منحى الرومانسية، كالانطباعية والتعبيرية والوحشية... وامتد تأثير المدرسة الرومانسية، وبخاصة الإنجليزية، إلى البلدان التي كانت تحكمها بريطانيا، وبخاصة مصر، التي أثمرت لنا مدرسة الديوان المنافحة عن رأي الرومانسية بحماسة لا تقل عن حماسة هيغو. مدرسة الديوان والشعر التزمت المدرسة موقفها وإن كانت ممارستها للشعر مختلفة عن موقفها. والموقف النظري معروف ومكرر في معظم كتب وآثار هذه المدرسة، وبخاصة في «الديوان» و«قبض الريح» و«الشعر: غاياته ووسائطه»، وقد اشتهر نص للعقاد في كتاب «الديوان» عن شوقي في قصيدته المشهورة «رثاء فريد» نافس فيها دالية المعري: «فاعلم، أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها. وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به... لأنه يزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نوراً. فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجوداً إن صح هذا التعبير...». وما قصيدة شوقي سوى ما تسمعه من «أفواه المكدّين والشحاذين وإلا كل ما هو أخس من بضاعتهم وأبخس من فلسفتهم- كلها حكم يؤثر مثلها عن حملة الكيزان والعكاكيز...». رقى العقارب وهذر البناة ونلمس الموقف نفسه لدى صديقه المازني؛ ففي «قبض الريح» وتحت عنوان «نشأة الشعر وتطوره»، ينطلق من نظرة ابن الرومي في شعر البحتري عندما وصف هذا الشعر بأنه: رقى العقارب أو هذر البناة إذا أضحوا على شعف الجدران في صخب ويقول: «ولا نعرف ما رقى العقارب ولكننا نعرف ما يعني بهذر البناة على شعف الجدران، فهي ما ينشدونه ويرددونه أثناء عملهم من الأغاني الساذجة...». ويعجب سكان القرى والأحياء النائية القريبة من الصحارى والخرائب لو اطلعوا على كلام المازني بأنه لا يعرف ما رقى العقارب. إن الأم في هذه المناطق تأخذ ابنها إذا كانت تخشى عليه من لدغة العقارب إلى مختصة تقرأ فوق رأسه بضع كلمات تناشد فيها الأرواح أن تحمي هذا الغلام، ولو ذهبت إلى مختصة غيرها لسمعت الرقية ذاتها، وأحياناً- إذا كانت المختصة تجيد الكتابة- تعلق في عنقه هذه الرقية مكتوبة بكلمات ورموز مبهمة، حتى لا يعرف أحد محتواها، وإلا سقطت الرقية وفقد الحرز مفعوله... وهناك رقى الأفاعي والهوام والحشرات وحيّات الأنهار وضباع الجبل. وقد تكون هناك رقية واحدة ضد كل هذه الحشرات والضواري، وأحياناً ينشد السكان القرى المجاورة لأن فيها من ثبت مفعول رقيته ضد جوارح الجوّ التي تخطف فراخ الدواجن... إنها بقايا من عهود السحر السحيقة. ترك المازني رقى العقارب واكتفى بهذر البنائين فرأى أن الشعر نشأ نشأة جماعية، ولكنه شعر بسيط وصفي ساذج لا يدل على عمق ولا على تفرد... وبالطبع يتطور هذا الشعر في رأيه حتى يظهر الشعراء المبدعون المتفردون. تبعية رومانسية موقف مدرسة الديوان من الشعر يكاد يكون موقف المدرسة الرومانسية الإنجليزية، وبخاصة بايرون وشللي وكولردج ووردزورث. ويتوقف المازني في كتابه «الشعر: غاياته ووسائطه» عند كتاب بايرون «مانفريد» طويلاً كأنه عثر على سر الشعر في تلك الأوصاف والنظرات التي قدمها بايرون. على أي حال لا تنكر مدرسة الديوان تبعيتها للمدرسة الرومانسية الإنجليزية، ففي كتاب «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» يقول العقاد بكل وضوح وصراحة واعتزاز: «وأما الروح فالجيل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شيء بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت إن هازلت هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون وأغراض الكتابة ومواضع المقارنة والاستشهاد، وقد كان الأدباء المصريون الذين ظهروا أوائل القرن العشرين يعجبون بهازلت ويشيدون بذكره ويقرأونه ويعيدون قراءته يوم كان هازلت مهملاً في وطنه مكروهاً من عامة قومه، لأنه كان يدعو في الأدب والفن والسياسة والوطنية إلى غير ما يدعون إليه، فكان الأدباء المصريون مبتدعين في الإعجاب به لا مقلدين ولا مسوقين...». وهازلت هذا الذي يشير إليه العقاد لا يكاد يذكره الإنجليز، منذ أيامه وحتى هذه الأيام، فهم يهملونه إهمالاً شديداً، ولم تهتم به القارة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يكاد اسمه يظهر في النقد الأميركي. ونكاد نقول إن عشاقه يقتصرون على مدرسة الديوان ومن وافقهم في نظرتهم. بل هناك من هاجمه هجوماً شديداً وهو محمد النويهي في كتابه «ثقافة الناقد الأدبي» بل سخر منه سخرية مريرة، وصار عنده مضرب المثل للناقد المتحذلق الذي لا يترك أثراً في القارئ، ولا في النظرية الأدبية. لونجينوس والموقف السامي اتجه أرسطو إلى معالجة الشعر الدرامي، من تراجيديا وكوميديا. ولم يدخل في معالجة الشعر الوجداني البعيد عن تلك الفنون التي اختص بها الإغريق، أي فنون المسرح. ولكنه عرج على معالجة ذلك في كتابه «الخطابة» أو «البلاغة» كما يترجم الكلمة بعضهم. ويعرف بصورة عامة أنه يعتبر الشعر صناعة، كما توحي كلمة «البوطيقا» وقد استخدم العرب هذه الكلمة كمصطلح أدبي شاع في كتبهم مثل: «المفصل في صناعة الإعراب» و«سر صناعة الإعراب» و«تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر» و«صبح الأعشى في صناعة الإنشا» و«كتاب الصناعتين» و«صناعة التاريخ»... مما يدل على أن الشعر حرفة بكل معنى الكلمة، بعد أن كان من وحي «شياطين الشعر» في العصور القديمة. وهذا ما تعترض عليه مدرسة الديوان. عندما يقول العقاد «الشاعر» فإنه يفترض أنه مزود بكل أدوات صناعة الشعر، فهو يتحدث عما يلي ذلك، وليس عما يجب أن يعمله للحصول على الأدوات الصناعية للشعر. فماذا تريد مدرسة الديوان؟ إنها ببساطة تريد الموقف الجمالي، متماشية في ذلك مع الناقد لونجينوس الذي يرى أن الشعر السامي لا يمكن أن ينتج إلا عن موقف سامٍ. ولونجينوس يفترض أيضاً أن يكون الشاعر ممتلكاً كل أدوات صناعة الشعر، وإلا فإن التعبير عن الموقف السامي من دون أدوات كافية لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة، إن لم يؤد إلى عكس ذلك. والواقع أن مدرسة الديوان التزمت الموقف السامي الذي طالب به لونجينوس، فلا يعرف عن شعرهم أي تبذل أو هبوط في الموقف، وإنما هي صور تدل على التسامي والتعاطف البشري، والغوص في أعماق الوجود. ووردزورث وكولردج دارت مناظرة بين ووردزورث وكولردج حول الشعر، فذهب الأول إلى أن الشعر الحقيقي هو الشعر البسيط الساذج البعيد عن الصناعة والتصنع، وذهب الثاني إلى أن الشعر صناعة دقيقة، إنه يشبه الإنسان الحديث الذي عرف كيف ينظف جسده ويختار الثياب المناسبة ليبدو مقبولاً، بينما الشعر الساذج الريفي شعر عامي يشبه الإنسان البدائي الذي لا يعرف كيف يقلم أظفاره. والذي يتراءى لنا أن مدرسة الديوان متأثرة كثيراً بكولردج ونظريته، وبخاصة بعد أن أثبت لووردزورث أن قصائده ذاتها ليست من النوع الذي يزعم أنه النوع الأصيل، فهو شعر مصنوع بدقة ومهارة. ولن نأتي على ذكر شللي، في كتابه «دفاع عن الشعر» حيث قدم مادة دسمة لنظرية مدرسة الديوان الشعرية. نظرة إليوت يقف إليوت موقفاً مخالفاً لموقف مدرسة الديوان، فهو يرى أن الشعر صناعة، وأن هذه الصناعة وطدت أسسها عبر أجيال وأجيال تعد بالآلاف، فلا يعقل أن ندير ظهرنا لهذا التراث المجرب والمعروف، وأن نسلم الشعر للذات وأهوائها وغرائزها ونزوعها المتقلب والمتنوع وأيضاً المتناقض في بعض الأحيان أو في معظم الأحيان. إن هامش التجديد ضيق جداً بعد هذا التاريخ من الممارسة الشعرية، وفتح الباب واسعاً أمام الفرد ليقوم بالتجريب منساقاً وراء أعماقه المضربة يعني عودة إلى نقطة الصفر، وإهمال كل التجارب السابقة لبشرية عمرها ملايين السنين، قطع الشعر خلالها مراحل ومراحل. وفي ومضة من ومضات العقاد في «الديوان» أثناء نقده لقصيدة «رثاء فريد» لشوقي يقدم النموذج الشعري للرثاء من المعري، ويقول لشوقي بأن هذا هو الشعر الحقيقي، ويقصد النفاذ إلى عمق الحياة، وعدم التلهي بالقشور. يقول: «نظر المعري إلى سرّ الموت فلم يره في مظهرة الضيق القريب، حادثاً متكرراً تختم به حياة كل فرد، بل رآه على حقيقته الخالدة العميمة. رآه كما بدا منذ القدم لبدائه الحكماء وأصحاب الأديان، وكما تبطنه من قبل بوذا وكنفوشيوس وماني: حرباً سرمدية قائمة بين قوتين خفيتين ميدانهما كل نفس حية...الخ». لا نجد كلاماً داعماً لموقف إليوت أوضح وأنصع من هذا الكلام. فقد اعترف العقاد باحترام المعري للتراث العالمي للأدب، وسار معه وليس عكسه. وبهذا يعترف العقاد بأن جواز السفر إلى مملكة الشعر هو احترام التراث العالمي، لأنه ناجم عن تجربة طويلة الأمد، قد تعود إلى ملايين السنين، وليس التجريب الفردي العشوائي. هيغل وعصر الشعر إذا كان إليوت يمنح جواز سفر إلى مملكة الشعر بختم التراث الكلاسيكي، فإن الفيلسوف هيغل لا يمنح جوازاً على الإطلاق، بل يقطع الطريق أمام الحجاج، بالزعم أن هذا الطريق لن يؤدي إلى المزار المطلوب. ففي رأيه أن الشعر ملازم للبدائية، لسيطرة الانفعالات والعواطف والغرائز... ولكن العقل المطلق في مسيرته للتعرف على ذاته وتحقيق ذاته يلتهم كل ما ينتج الشعر، ويحوّل كل شيء إلى منطق عقلي. فآخر عصور الشعر والأخير فيها هو العصر الرومانسي، وبعدها لن يكون هناك شعر لأن العقل المطلق سوف يبسط سلطته. وبالفعل بعد الحركة الرومانسية صرنا نلاحظ التراجع الفعلي للشعر، وبخاصة بعد هجران قواعده وأصوله، وترْك المجال أمام الخواطر والتأملات... وصرنا نلاحظ كيف راح العقل يبسط سلطته أكثر فأكثر على كل فروع الحياة، وما هي إلا مسافة من الزمن حتى يصير ترتيب العالم قائماً على العقل فقط، بعد أن تبيّن أن العواطف لا تبني شيئاً لأنها بلا منطق ولا هدف. وعندما يفرض العقل هيمنته الكاملة تتلاشى مملكة الشعر، ويطرد كل من يحاول الحصول على جواز سفر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©