الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جاك نيكلسون.. ذئب هوليوود!

جاك نيكلسون.. ذئب هوليوود!
25 يونيو 2014 22:30
«ماذا أفعل بحياتي الآن؟»... هذا السؤال المربك على المستوى الوجودي كان محوراً لأحد أهم الأدوار التي قدمها الممثل «الظاهرة» جاك نيكلسون في مشواره السينمائي، وهو فيلم: (عن شميث ــ About Schmidt) إنتاج عام 2002. وهو السؤال الذي يظل حاضراً لتفسير القرار الذي اتخذه نيكلسون مؤخراً باعتزال التمثيل نهائياً لأسباب عزاها البعض إلى إصابته بالزهايمر والتشوش الذهني، وفقدانه المؤقت للذاكرة بعد بلوغه السابعة والسبعين من عمره، وبعد خمسين عاماً عندما صرح بأن اعتزاله يعتبر احتجاجاً ذاتياً ضد هيمنة السينما التجارية وأفلام الترفيه التي جرفت معها الدهشة الفنية المتشكلة في فضاء الغواية والشغف والسحر البصري والأدائي للسينما المستقلة، والمتخلصة من جشع الممولين وشروطهم القاسية لفرض مقاييس الإبهار والحركة والإثارة الخارجية الصرفة والمبالغ بها. إبراهيم الملا بغض النظر عن المسببات الفنية والذاتية لقرار اعتزاله، فإن الحديث عن ذئب هوليوود، وصاحب أغرب ابتسامة شريرة في السينما العالمية، هو حديث يقتضي العودة إلى جذور هذا الممثل الذي استطاع أن يمزج أنماط الجنون السيكوباتي المفرط مع الوعي اليقظ والمتحكم به، وأن يدمج الشراسة مع الوداعة في حيز أدائي مشترك، ما أهله وفي معظم الأعمال التي شارك بها أن يكون نسيجاً وحده في استخلاص المرح من عمق التراجيديا، وأن يوازن بين وجهي العملة الدرامية بجانبيها الشيطاني والملائكي. سيرة حافلة ولد الممثل والمنتج وكاتب السيناريو والمخرج، جون جوزيف نيكلسون المعروف بـ (جاك نيكلسون) في عام 1937 بمدينة نيويورك، وترشح لجائزة الأوسكار 12 مرة، وفاز بثلاث منها وهي: جائزة أفضل ممثل رئيسي مرتين في عام 1975 عن دوره في فيلم (أحدهم طار فوق عش الوقواق)، وعام 1997 عن دوره في فيلم (أفضل ما يمكن حصوله)، وجائزة أفضل ممثل ثانوي عام 1983 عن دوره في فيلم (شروط التودّد). وقد حصل على جائزة الغولدن غلوب 7 مرات، ونيكلسون هو ثاني ممثل بعد البريطاني مايكل كين الذي حصل على ترشيح للفوز بجوائز الأوسكار كل عشر سنوات ابتداء من عام 1960 وحتى عام 2000، وهو من الممثلين الذين باتوا يزاحمون أصحاب القامات العالية في السينما الأميركية أمثال: مارلون براندو وروبرت دنيرو وآل بالتشينو ووارن بيتي وروبرت ريدفورد. عندما سئل نيكلسون مرة عن سبب اختياره لأدوار ثانوية في أفلام رعب ذات ميزانيات منخفضة وهو في بداية طريقه إلى الشهرة، أجاب بأن تلك الأدوار كانت تمس وبعمق الوعي الأدبي المستحوذ عليه قبل ارتباطه بالسينما، وقال: «كانت أدواراً جادة، لأنها تستند إلى قصص وأساطير لشخصيات خرافية سمعت عنها في طفولتي وتآلفت معها، ولكي تجعل هذه القصص الخرافية أكثر جاذبية وقبولاً لدى المشاهد، فإن عليك أن تسبغ عليها صفة الفتنة والإتقان السينمائي، لهذا السبب أيضاً قمت بأداء دوري في فيلم: (الذئب The Wolf)». استهل نيكلسون مسيرته السينمائية بأدوار صغيرة في بداية الستينيات، ولكن الشهرة أو النجاح الحقيقي بدأ حين قدم دوراً مسانداً في فيلم (Easy Rider) عام 1969، واعتبر الفيلم وقتها انعطافة جديدة ولافتة في طريقة التوليف السينمائي والأسلوب الإخراجي المستقل، وترشح نيكلسون من خلال هذا الفيلم ولأول مرة لأوسكار أفضل ممثل مساعد. وسرعان ما أصبح نيكلسون هو النجم الأول لسينما السبعينيات الثائرة على الأسلوب التقليدي، حيث فتحت الأفلام الجديدة في تلك الفترة آفاقاً بصرية وروائية زاهية لهوليوود، قدم بعدها نيكلسون فيلم (خمس معزوفات بسيطة ــ Five Easy Pieces) مع المخرج روب رافلسون عام 70 ونال من خلاله ترشيحه الثاني للأوسكار - والأول كممثل في دور رئيسي، وأتبع ذلك بترشيح آخر في فيلم المخرج الكبير هال أشبي: (التفصيلة الأخيرة ــ The Last Detail) عام 1973، قبل أن يقدم تُحفة المخرج رومان بولانسكي (الحي الصيني ــ Chinatown) عام 1974 وينال ترشيحه الرابع. وأخيراً نال نيكلسون أوسكاره الأول عام 1975 عبر مشاركته في تحفة المخرج التشيكي ميلوش فورمان: (أحدهم طار فوق عش الوقواق ــ One Flew Over the Cuckoo’s Nest)، عبر دراما رمزية فائضة بالتأويلات والتحليلات النفسية، تتناول قصة سجين يدعي الجنون ليقضي عقوبته في المستشفى، وهناك يدفع زملاءه للثورة على إدارة المؤسسة البيروقراطية المتزمتة، ونال أوسكاره الثاني كممثل مساعد عن الفيلم المتوج بالأوسكار: (شروط التودّد ــ Terms Of Endearment ) عام 1983، للمخرج جيمس ل. بروكس الذي منح نيكلسون أوسكاره الثالث أيضاً.. وذلك حين جسد الشخصية الرئيسية في رائعته (أفضل ما يمكن حصوله ــ As Good as it Gets) عام 1997 في دور ميلفين غريب الأطوار الذي تتغير حياته رأساً على عقب حين تدخل في حياته نادلة مطعم وجاره الفنان المصاب بعاهة نفسية. وإكمالاً لمسيرة حافلة بالإنجازات المتفردة، شارك نيكلسون عام 2006 مع المخرج الكبير مارتن سكورسيزي في بطولة فيلمه: (المغادرون ــ The Departed) في دور زعيم العصابات فرانك كاستيلو، دون أن ننسى دوره الخارق والجنوني مع المخرج الأسطوري ستانلي كوبريك في فيلم الرعب الإشكالي: (البريق ــ The Shining) عام 1980. بين المأساة والملهاة في هذا المقال قراءة في فيلمين شارك بهما نيكلسون في المرحلة الثالثة من مشواره السينمائى، وهي المرحلة التي قدم فيها ملامح عبقريته الأدائية بعفوية بالغة ومن دون تكلف اعتماداً على رصيد هائل من خبرة التعامل مع الكاميرا باعتبارها وسيطاً روحانياً ينقل احتدامات المأساة والملهاة بتجرد مطلق، أو هي الكاميرا التي يمكن تشبيهها أيضاً بسرير الطبيب النفسي، حيث لا حواجز ولا موانع أمام البوح الصادم لخبايا وأسرار اللاوعي، وهذا الفيلمان هما: (حارس المعبر)، و(عن شميت). في فيلم (حارس المعبر ــ The crossing Gard) يأخذنا المخرج شون بن في رحلة انتقام لاهثة مع الممثل جاك نيكلسون، حيث لا لزوم في هذا الفيلم للتعرف إلى مصائر من الشخوص المتحركين على شريط الفيلم، لأن هدف الحكاية هو التعرف إلى ما تحمله هذه الشخصيات من إرث سوداوي، وشروخ عصابية، تبدو حكاية الفيلم ومن الوهلة الأولى أنها لا تتعاطى مع أبعاد وتشعبات درامية معقدة في المسار الأفقي للقصة، حيث نتعرف إلى رجل يتجاوز بسيارته ومن دون قصد محطة العبور قرب إحدى المدارس الابتدائية، ليتسبب في قتل فتاة صغيرة، ثم يهرب، ويسجن، وبعد ست سنوات يخرج من السجن كي ينتظر انتقام والدها، كل هذا التوصيف الظاهري للقصة، بسيط ويمكن احتواؤه، أما ما يعتمل داخل الشخوص ذاتها، فهذا ما يمكن أن يفسخ مجالاً خصباً لمخرج مثل شون بن كي يمارس ساديته المشروعة، حيث لا فوارق هنا ولا تباينات بين الاحتدامات النفسية العنيفة، مثل الشعور بالذنب، مقابل التعلق بالحياة، وبين الرغبة في الانعتاق مقابل اشتهاء القصاص. الباحث عن الانتقام هنا هو فريدي والد الفتاة (جاك نيكلسون) الذي يتحايل على حزنه ومأساته من خلال الإفراط في تناول الكحول، والزيارات المكررة لعلب الليل الرخيصة، أما القاتل جون بوت الممثل (ديفيد مورس) فهو الخارج من السجن إلى حرية غامضة، لا يعرف إنْ كان يستحقها، أم هي هبة ثقيلة لم يعد قادراً على حملها، ما يجعل من مسارات الفيلم بعد هذا التصادم الداخلي العنيف بين الشخصيتين أشبه بحقل مفتوح على ثنائية العنف والشراسة، بحيث تتحول المدينة الصغيرة التي تجمع بينهما وبكل شوارعها الليلية وإضاءاتها الخافتة إلى غابة إسفلتية مهيأة تماماً للعبة الانتقام المدوخة، ولمناورات الكر والفر بين الجلاد الذي لم يُشف غليله، وبين الضحية التي ترى أنها لا تستحق الحياة. ولعل مشهد النهاية كان من المشاهد الأكثر تتويجاً لمفهوم ورغبة المخرج في التصدي لهذه النوعية من الأفلام المعقدة على صعيد التعاطي مع شخصيات حائرة وجودياً، ومأزومة داخلياً، فالمطاردة التي بدأت باتفاق بين الطرفين، على إنهاء المسألة خلال 72 ساعة، كانت هي محطة التوهان بلا شك، فلا الطريد ولا المطارد يعرفان مصير هذه اللعبة الدموية بينهما، فهناك شيء غامض كان يدفعهما للجري واللهاث وإنهاك الذات، دون أن يكون القتل كرد فعل انتقامي، أو الموت كرد فعل لتأنيب الضمير هو الهدف الحقيقي والقاطع، إنها الأرواح المعذبة والمسعورة التي كانت تطارد بعضها في الشوارع المعتمة، بما يشبه الفعل التطهري لأجساد موبوءة باللعنة والخراب، إنه الجري الذي يمارسه العميان في غابة من الحوائط والجدران والحواجز الشائكة، وكل هذا العنف والعذاب لن يكون سوى المحطة الأخيرة لنشدان الراحة والخلاص، بغض النظر عن النتائج الجسدية لهذا الجنون الروحي والفوران الحسي. هذا الفيلم المعتم والموحش الذي تألق فيه نيكلسون يذهب إلى منطقة أشبه بالتابو في السينما التجارية السائدة، ذلك أن النتائج المنطقية والمعهودة في نهايات الأفلام الهوليوودية تحديداً، ستكون هنا عرضة للإلغاء والبتر والقطع، فمشهد المطاردة الأخيرة لم يكتمل سوى بذاته، إنها المطاردة التي تتلبس دمارها، وتشتهي خطورة الحواف، تلك الحواف التي تشرف على أعماقنا البدائية السحيقة وغير المروضة في أقفاص السلوك المديني المتحضر!. أرض الخيالات أما في فيلم (عن شميث)، فنرى نيكلسون وهو يتحمل عبء العمل بأكمله، فيما يشبه أداء العدائين الذين تجاوزوا خط التعب، لأنه أداء ممتلئ حدّ إنك لا تستطيع الفكاك من الاستحواذ الكبير الذي يسيطر عليك ويجعلك في قلب اللعبة المنهكة والمدوّخة لشخصية الفيلم. أنه هنا، وكما في معظم أفلامه الأخرى، يقودنا بقسوة ناعمة نحو الحواف المستحيلة للأداء التمثيلي، وكأنه في كل مرة يكشف عن جوانب خفيّة ومطموسة لطاقته التعبيرية. وفي فيلم (عن شميث) بالذات، استطاع نيكلسون أن يمزج جميع الأطياف السابقة وأن يختزلها ويكثفها ثم يحررها ويطلقها بانسيابية صرفة ومتحررة من أي تكرار ومحايثة. إنه هنا في كل أدواره السابقة، لكنه منفصل عنها أيضاً، فشخصية وارن شميث ليست مركّبة ولا متشظّية، ولا تنطلق ردات فعلها من تاريخ شخصي ملتبس، وذي أثر، إنها الشخصية التي وضعت قدرياً وبشكل مفاجئ في الخانة المربكة من الحياة، وهي خانة أشبه بمنطقة انعدام الجاذبية أو الاصطدام بالفراغ، هذا الفراغ الذي يجد نفسه فيه فجأة بعد إحالته للتقاعد، ما يضطره لإعادة اكتشاف ذاته، إنه الوقت المديد والعطلات المفتوحة على احتمالات متعددة هي ما يجعله يهتم بتفاصيل كل شيء، بدءاً من تصرفات زوجته ووساوسها، وليس انتهاء بأشياء المنزل المهملة، والالتفات لابنته الوحيدة التي ظلت لسنوات طوال متروكة في هامش حياته، وفي صرامة الروتين المكرر لوظيفته كمدير تنفيذي في إحدى شركات التأمين. يبدأ سيناريو الفيلم بشكل متماسك جداً في استثمار كل العناصر المتاحة لحياة كهذه، كي يضع اللبنات الأساسية لطبيعة الفيلم وهيكله العام بعد ذلك، حيث يطل الفيلم ومنذ مشاهده الاستهلالية على الحياة الأفقية لشخصية (شميث)، فما نراه في الظاهر هو لحظات من الترقب للساعة الأخيرة في الوظيفة، ثم لحظات التوديع التي يجد فيها سميث نفسه غائباً ومشوشاً ومنفصلاً عن الواقع رغم كل الصخب والضجيج المحيطين به، ونراه يذهب بعد الحفلة بصحبة زوجته إلى المنزل، لتتشكل بداية صراعاته مع نقطة اللاعودة والدخول في المجهول بشكل مفاجئ وقاس. يعزف فيلم (عن شميث) ببراعة على أوتار حواسنا ونوازعنا الخفية، لأنه فيلم غير مصاغ لإثارة المتعة البصرية المقحمة، بل لإثارة أسئلة حول الصراع مع الوجود ومع ثيماته المتضاربة والمتناقضة كالعزلة والخوف من المجهول، ومقاييس تحقيق الذات والرضا، يتحول نيكلسون من خلال أحداث الفيلم إلى ظل آخر لنا، ويتداخل بسلاسة وعفوية مع أسرارنا الخفية المتروكة كوديعة حائرة في اللاوعي. فيلم (عن شميث) هو أحد الأعمال السينمائية المدهشة التي لا يمكن أن تبرح الذاكرة بسهولة، ودور نيكلسون فيه هو الدور النموذجي للتدريس في معاهد التمثيل السينمائي، إنه فيلم لا يمكننا ببساطة أن نهجره بمجرد تركنا لصالة العرض، لأنه يمتدّ ويتشعب في أرض خيالاتنا وأرواحنا، تماماً مثل عروق الذهب!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©