الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعر العامية والتمثيل الجمالي للحياة

شعر العامية والتمثيل الجمالي للحياة
25 يونيو 2014 22:31
د. صلاح فضل منذ أن أوجزت وظيفة الفن الروائي في عبارة «التمثيل الجمالي للحياة» تنازعني نفسي بأن هذا المفهوم لا يمكن أن يقتصر على السرديات فحسب، بل لا مفر من تطبيقه على بعض الشعريات، كل نوع بطريقته وتقنياته وألوان جمالياته. وفي مقدمتها شعر العامية واللهجات، لأنه لم يؤثرها على الفصحى إلا لقربها الحميم من لغة الحياة واستثمارها لحيويتها ونضرتها، وكشفه الفاضح عن بواطنها وظواهرها عند الأفراد والمجتمعات وما تحفل به من وقائع ومفارقات. كان بيرم التونسي عظيم الحساسية لحركة المجتمع والوعي بنبضه، لأن أصوله المغاربية، وانغماسه في البيئات الشعبية السكندرنية، ومعايشته الحميمة للمجتمع الفرنسي عبر سنوات طويلة، كل ذلك جعل منه فناناً عظيماً، يجسد الحياة بجماليات فن الشعر، وينقدها بمنظور المصلح الأدبي لا الديني. يقارن بين البيئات المختلفة، ويلتقط الصور المتباينة ويشكل منها مشاهد حافلة، قريبة جداً من وعي القراء، ممثلة لمنظورهم، وربما كانت حدته النقدية التي ورثها من شعر الهجاء الفصيح هي الأداة السحرية الضامنة لذيوع قصائده وانتشارها، لأن الكلام المعتدل لا يجد قبولاً متحمساً ولا يتفاعل مع الناس، بقدر ما تهزهم الصور اللاذعة المبالغ في تطرفها وملاحتها، وهي الصور ذاتها التي انتشرت حينئذ في المسرح الدرامي والكوميدي والسينما الوليدة، كلها تنمو إلى نمذجة المواقف والشخوص، والوصول بها إلى الذروة المسنونة اللافتة للانتباه، وسنقرأ معاً قصيدة طريفة تتجلى فيها هذه المقارنات العفوية بين أحوال المرأة المصرية والفرنسية، مع أن عنوانها «أطفال باريس» لأنها كانت مقدمة مطولة لامتداح شكل الأطفال الفرنسيين ومدى العناية بهم، فيبدأ حديثه عن المرأة لأنها المسؤولة عن الطفولة: «يا مدموزيل، ياللي في قصرك/ زينة عصرك البسط يحبك على خصرك/ يتهزّ قوام في الحرب بتواسي المجاريح/ فوق الطراريح وتقلبي الغم بتفريح/ والنار بغرام ومشيتك في السكة غزال/ وقيافتك عال كدا سلت ملت مفيش خلخال/ وسخام ولطام» نظرة دونيّة للمرأة من الواضح أن القصيدة تحمل أثر تاريخها، إذ كتبت مطلع الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية لتسجل إعجاب بيرم بالمرأة الأوروبية التي نزلت إلى الحياة لتواسي الجرحى وتضمد أحزانهم فتحول همومهم إلى عواطف رقيقة حانية، وهي إذ تمضي في المدينة أو الميدان فهي مثل الغزال في الرشاقة، لكن شيئاً آخر يميزها هو «القيافة» وهي كلمة عجيبة تشمل الزي المناسب والأناقة الضرورية والصبغة العملية ذات الإيحاء العسكري، وهنا يستحضر الشاعر ما يوازيها في ملبس المرأة المصرية المثقلة بالملابس السوداء وأدوات الزينة من خلخال وغيره، في مقابل الأوروبية التي تمضي «سلت ملت» خفيفة رشيقة، لكنه لا يلبث أن يمعن في هذا الوصف الحسي بطريقة قد نراها الآن غليظة مستفزة: «ولا الإيدين فيها غوايش/ ولا شيء حايش كدا لهط مهط فطير بايش/ أشمط وأنام اللحم أبيض ومزقلط/ وبيتزقلط والوش دا مش متخطط/ زي أم لتام» فهو لا يزال يتصور المرأة المتجردة من زينة الغوايش مجرد طعام شهي سائغ يلهطه ويلتهمه مثل الفطائر التي تذوب في الفم، وهو لا يأكله، بل يشمط اللحم الأبيض الحي المكتنز الذي لا يحتاج إلى تزيين ولا تخطيط، هنا يرسم بيرم بضمير المتكلم همجية الرجل الشرقي في نظرته للمرأة قبل أن يتدارك موقفه بالمقطع الثاني ليتحدث عما هو جدير بأن يلفت نظره في أمور المرأة والرجل: دول في المدارس ودوكي/ دول ربوكي الله يخليكي لابوكي/ وأمك يا تمام طلعت حافظة جغرافيا/ وصحة وعافية حتى اللي هوه بلا قافية/ حافضاه يا سلام» لنا أن نتذكر كيف كانت نسبة تعليم النساء في مصر في الأربعينيات وقدر مشاركتهن في الحياة العامة كي نعذر بيرم التونسي على نظرته الدونية للمرأة حينئذ، ويكفيه أنه يتغنى بالتعليم باعتباره أهم أسباب الرقي والتحضر، وهو نفسه قد حرم من مراحله العالية، فهو لا يتذكر من العلوم سوى الجغرافيا والصحة، ثم يشير إلى بقيتها بالكناية «بلا قافية» مثل الأحياء التي تدرس أجساد البشر، لكنه في مقامه في باريس يقرأ ويسمع عن مجالات علمية أخرى تصل إليها المرأة: «البنت عضو في أكاديميا/ وتعرف كيميا خلينا احنا في الباميا/ والفقر التام تمسك يا عم أيد التليفون/ مش إيد الهون اللّي تسمّع في الكركون/ والناس حتنام فين اللي تعتر في الحلة/ وتكسر قلة من اللي تنقش دانتيلا/ م البفتة الخام» يشتبك بيرم هنا بصورة الفتاة العصرية الباريسية ليقارنها ببنت البلد الأمية، فالأولى أصبحت عضواً في الأكاديميات العالية متخصصة في أعتى العلوم وهي الكيمياء التي يضرب بها المثل في الصعوبة لدى العوام، أما من عندنا فهي غارقة في طبخ الباميا ضاربة في الجهل والفقر، تلك تمسك برشاقة بالتليفون، وهذه تدق بيد الهون فتزعج حتى المساجين في أقسام الشرطة وتتعثر في أواني المنزل وتكسر القلل، والأوروبية عاكفة على فنها وجمالها في نقش الدانتيلا وممارسة ألوان الفن والجمال. مقارنة مجحفة وظالمة، لكنها مثيرة للهمم واليقظة الوطنية. «مفرودة دايما، لا تبوّز/ ولا تتأوّز عازبة، ولما يتتجوّز/ تعمل له مقام يبوسها قدام جمعية/ وتبوسه هية لا«كسكسا» في الحربة/ مسيو، ومدام مادام يحبها، وتحبه/ وداخلة في عبّه ما يسبّهاش ولا تسبّه/ مين عنده كلام» هذا المقطع يقدم مشهداً تمثيلياً من كلتا البيئتين، فالمرأة الغربية تمضي قدماً منتصبة القامة، باسمة أو محايدة غير عابسة ولا هازئة، وإن كانت الكلمتان العاميتان أبلغ «تبوّز» «تتأوز» لأنهما ترسمان صورتين ناطقتين، فإذا كانت «عازبة» اكتفت بذاتها ولم تحتج لوصف، أما إن تزوجت فهي تحترم زوجها بقدر احترامه لها، «تعمل له مقام». مسؤولية الرجل حذفت من هذا السياق مقطعاً يصور فيه بيرم اعتداء المرأة على زوجها في بعض الأوساط الشعبية لأنه مشهد لا تتميز به الحياة المصرية، بل هو إمعان في التماس الأضداد بين المجتمعين المختلفين، ثم لا حرج على الزوجين ولا الرفيقين أن يقبل الرجل صاحبته أمام الجميع، وهي تقبله كذلك بكل حرية دون إثارة أي تساؤل، والطريف أن بيرم يعرب الكلمة الفرنسية ويرسمها بالحروف العربية لتدل على التساؤل، كما نلاحظ طرافة عبارة «داخلة في عبه» تعبيراً عن المودة الحميمية بين الصاحبين، بما يتيح لها حرية تبادل مظاهر الحب علناً دون حرج، بينما لا تسمح لنا تقاليدنا إلا بحرية تبادل الشتائم والسب في الطريق العام، وهذه هي المفارقة التي ما زالت قائمة في حياتنا حتى اليوم، وهنا يورد بيرم مجموعة صور هجائية للمرأة يقول فيها: «أما الأنيتة أم جلاجل/ تاخد الراجل تركبّه الفقر العاجل/ وتجيب له لجام عليها حتة دين عرقوب/ ولسان مسحوب وصدغ أطول م المركوب/ ويناب قُدّام وجوز ما يشرب تنورة/ وهية داتوره تحبل وتولد بالطورة/ زي الأغنام ييجوا العيال، اللي يهرهر/ واللي يبربر ودا اللي أقرع واللي أعور/ واللي له خزام» على أن تحميل المرأة وحدها ذنب هذا العالم المتخلف ظلم فادح، لأن الرجل شريكها الأول في الجريمة، فهو الذي حبسها وقيّد حريتها وحرمها من التعليم وأوقعها في فخ الفقر بمسؤوليته الاجتماعية، ولم يدرك أنه يتدهور هكذا في حياته ثم يلومها بعد ذلك، ولكن بيرم اللاذع يتمحص دور الناقد الجائر ليرضي قراءه من الرجال، فلم تكن النساء قد دخلن الحياة العامة بقوة مثل الآن، ولو كان يكتب لجمهور تمثل النساء نسبة عالية فيه لاختلفت نبرة الكلام، فالشاعر العامي ينطق بلسان جمهوره وضميره ودرجة وعيه وحساسيته، لا يسبقه كثيراً، وهو في مقابل ذلك يعدل منظوره عندما يفرغ لقصائد الحب، لأنه لن يعشق نفسه ولا مثيله، سيعشق المرأة التي هجاها من قبل ويتمثل دوراً آخر لها. أما حديثه الحريف عن الأولاد وبؤسهم فهو تمثيل للذات في مرآة ساخرة، مثل تصويره الكاريكاتوري للمرأة بعرقوبها ولسانه وصدغها وأنيابها، وولعها بكثرة الأطفال، ومع ما دخل على هذه الصور من تحولات جوهرية فلا تزال حياتنا بحاجة لمن ينقدها بهذا العنف اللاذع، على أن لا يعفي نفسه كرجل من المسؤولية الحقيقية حتى يكون منصفاً، لكن منذ متى والشعراء يتسمون بالعدل والإنصاف، حسبهم العدل الفني في تمثيل الواقع وهجائه حتى ننفر منه ونقيم كفة الميزان، عندئذ يقدمون صوراً رائقة للحياة مثل التي يرسمها بيرم في نهاية هذه القصيدة لأطفال أوروبا المحظوظين في حياتهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©