الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السيّاب.. يزداد حداثة كلما زاد الغياب

السيّاب.. يزداد حداثة كلما زاد الغياب
25 يونيو 2014 22:34
د. حاتم الصكر تمر هذا العام الذكرى الخمسون لغيابه. وبهذا يستحق بدر شاكر السيّاب وقفة مطولة تعيد قراءته وتنوه بمنجزه. لقد تمت موضعة السيّاب في النقد الشعري العربي رائداً للتجديد في شكل شعري شاع وصفه خطأ بالشعر الحر. وحرية الشعر لدى السيّاب تتصل جذرياً وأولًا بالرؤية، قبل إنجاز التحول الأسلوبي في الكتابة الشعرية بهدم النظام البيتي (شعر الشطرين) والقافية الموحدة، ومقترحا بدلهما السطر والجملة الشعرية، وحرية التقفية بلا صرامة ورتابة تقرب الشعر من النظم، بالإتيان بما لا تتطلبه الدلالة غالباً من أجل استكمال المطلب الإيقاعي الذي يتم خارجياً في الشعر التقليدي- أي المستجيب لتقاليد مستقرة ترتكز على الوزن والقافية والبيت ذي الشطرين - والذي عرف بخطأ شائع أيضاً بأنه شعر عمودي. لقد فتح السيّاب طرقاً جديدة للقصيدة لا تتوقف عند تلك النقلة الشكلية رغم أهميتها وجدَّتها، لكن الشعر ظلّ بعدها موزونا ومقفى بطريقة مختلفة تلبي نداءات الدلالات والمعاني قبل أي شيء. تجديد السيّاب سيأخذ قيمته وديمومته من كونه شعر رؤيا وثقافة عليهما بنى السيّاب تفرده وديمومة مقترحه وأثره في أجيال لاحقة من الشعراء. سيبهر السيّاب قراءه ونقاده بهذا السبق الرؤيوي المتمثل بتطعيم القصيدة بالرموز والأساطير والإحالات الثقافية المحلية والإنسانية. كان مرجعه متعدد الجهات: يعثر عليه بكدٍّ ذاتي أي من معايشته المباشرة في بيئة ملهمة شعريا، ومن التراث الشعري العربي، والشعر الغربي، ومن الميثولوجيا العربية الإسلامية، والتراث الإنساني الديني والحضاري، ومن الأيديولوجيا التي عمل على توصيل أفكارها شعريا، لا سيما في مرحلة التزامه بالفكر الماركسي وعمله السياسي المبكر. لكن ما أنجزه في باب الرؤيا والتي ستكرسه شاعرا رائيا تظل أكثر أهمية من التعديلات التي اقترحها على بنية القصيدة. اليوم تحف بقراءة السيّاب تنبؤات غريبة تتوافق مع ما يشهده العراق من كوارث ومآسٍ استبق رصدَها السيّاب بحس الرائي الذي يجيد قراءة المستقبل حين خاطب مواطنيه محذراً في (وصية محتضر): يا إخوتي المتناثرين من الجنوب إلى الشمال لا تكفروا نِعم العراق خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء الشمس نور الله تغمرها بصيف أو شتاء لا تبتغوا عنها سواها هي جنة فحذارِ من أفعى تدبّ على ثراها. ثعلب الموت في مواجهة ثعلب الموت، كما يسميه، يستنجد السيّاب بالأساطير والرموز والحكايات العجائبية، ليقترب من موت ممض كان مسلطا عليه يناوره ويداوره أعواما. وهي بالمناسبة أخذت قسطا مهما من عمر السيّاب الذي عاش ثمانية وثلاثين عاما فحسب. لكننا إذ نحذف سنوات الطفولة والصبا وسنوات مرضه واحتضاره الطويل سنجد أن ما أتيح له من العمر لم يكن كافيا لإنجاز مشروعه الشعري الذي بدأ بقوة وحيوية، متدرجا من القصيدة التقليدية الرومانسية، ثم تبدلها بسبب قناعته بالواقعية انعكاسا لالتزامه اليساري ورؤيته الإنسانية، وصولاً إلى قصائد الرمز والأسطورة. يصف السيّاب عصره بأنه يخلو من القيم الشعرية: (عالم لا شعر فيه، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح) وبذا يبرر اللجوء إلى الأساطير والخرافات كما يسميها ويحولها رموزاً، وفي الانتباهة ذاتها يتبنى السيّاب الدعوة (لخلق أساطير جديدة) لا مجرد اجترارها واستضافتها في القصيدة، لأن الخلق الجديد مهمة يعلم السيّاب صعوبتها وندرتها أيضاً. بهذا الوعي المبكر والجديد انصرف السيّاب ليخلق أساطيره ورموزه بعد أن أثقل قصائده بالأساطير والرموز الإنسانية التي اطلع عليها - وهذه مناسبة لتأكيد ثقافة السيّاب وعدم اعتماده موهبته فقط-. هكذا تحولت قريته جيكور ونهرها بويب وحكايات المتسامرين الليلية ومشاهد الحياة المتنوعة والطبيعة رموزا أسطورية أغنت قصيدته، رغم حرصه على إيقاعاتها وموسيقاها الخارجية. كانت (أنشودة المطر) قصيدة الحداثة والتجديد بلا منازع. ها هي ستون سنة تمر على كتابتها ونشرها عام 1954 وما زالت القراءات المتتالية والمتباعدة تجد فيها حداثة فريدة توحي بالكثير لقرائها ودارسيها: فهي قصيدة سياسية ولكن بجماليات حديثة لا شعارات فيها أو مباشرة تفسد إيحاءاتها، وهي ذات نظام بنائي غريب يستوقفنا لمعاينة المطلع الغزلي والتكرار الصوتي والطابع الجمعي الذي يحولها نشيدا لا مجرد قصيدة. وهي تصلح للدرس والتحليل المتجددين زمنياً، وتنكشف ما فيها من مستويات تنتظم طبقاتها، فتُظهرها القراءة النقدية الفاحصة، فأنشودة المطر ليست نصاً عابراً أو زائلًا بالتقادم، بل هي نص حيوي يستدعي عند القراءة استنفار الذخيرة الثقافية والجمالية والشعرية للإحاطة بطبقاته. وفيها استبصار رؤيوي لما يحل بالفقراء والمتعبين وهم يواجهون الأقدار ويغتالهم الجوع في عراقٍ (ينثر الغلالَ فيه موسم ُ الحصاد/ لتشبع الغربان والجراد). وسوف يعود لتضمين هذه الفكرة عن الجوع العراقي وشبع الغربان في قصيدة لاحقة هي (حنين في روما) حين يقول: (من جوع صغارك يا وطني، أشبعت الغرب َوغربانَه/صحراء من الدم تعوي، ترجف مقرورة/ ومرابط خيل مهجورة/ ومنازل تلهث أوّاها/ ومقابر ينشج موتاها). وهو لا يريد في النهاية سوى قبر في الوطن: (إن متُّ يا وطني فقبر في مقابرك الكئيبة/ أقصى مناي، وإن سلمتُ فإن كوخاً في الحقول/ هو ما أريد من الحياة. فدى صحاراك الرحيبة/ أرباض لندن والدروب، ولا أصابتك المصيبة). لقد دوّن السيّاب بقدرة الرائي ما سيحل في وطنه الذي ظل حلما يحمله وهو يتنقل في مستشفيات الغرب أواخر سنوات حياته، وترميزه لفكرة الموت والانبعاث ثانية هي ما جعلته يذكر قيامة المسيح بعد الصلب في عدد من قصائده. المرجعية الغربية ومن مراجع قصيدته يبرز المرجع الشعري الغربي. لقد قرأ ذلك الشعر المتاح بلغته الأصلية، وأصبح شعراؤه أصحاباً يرثيهم أو يتذكرهم كقصائده عن لوركا وبودلير ولوي ماكنس، كما يضمّن أبياتاً من شكسبير وإليوت وستويل وغيرهم، كما يكشف عن فهمه لمناهجهم وأساليبهم في الكتابة الشعرية. وربما استعار بعض الصور لينظمها جديدة ًفي نصوصه. وبهذا أيضاً يقدم درسا في التناص والكيفيات الممكنة ليعيش نص سابق في طيات نص جديد. وتوضح لنا كيفيةَ إنجاز التناص وسبلَه قصيدةٌ قصيرة هي (لأني غريب) المكتوبة ببيروت والمؤرخة في نيسان عام 1962 فثمة تناصّ داخلي أي يعتمد نصوصا للشاعر في قوله: (أنادي عراق/ فيرجع لي من ندائي نحيب/ تفجر عنه الصدى) وهو إعادة لما قاله في أنشودة المطر: (أصيح بالخليج: يا خليج، فيرجع الصدى كأنه النشيج). وفي قوله (وإما هززت الغصون/ فما يتساقط غير الردى)، وهي تحوير للآية: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) لكن السيّاب إذ يهز الغصون لا يتساقط إلا الحجار (أحجارٌ وما من ثمار/ وحتى العيون/ أحجار) محيلا لأسطورة ميدوزا التي تحوّل الرجالَ أحجاراً. وهي أيضا من تناصاته المكررة وتحيل لما سيأخذه من معلقة توفيق صايغ (كسيح/ وما من مسيح)، وتتواشج أيضا مع بنية العقم التي يجسدها نصه (مدينة بلا مطر) التي يتكرر فيها تصوير العقم (نار بلا لهب/ مجامر الفخار خاوية/ فارغتان كفاها/ سحائب مرعدات مبرقات دون إمطارِ/ بلا مطر ولو قطرة/ ولا زهر ولو زهرة/ بلا ثمر). ويتابع السيّاب ما يصنع إليوت من هوامش في قصائده تعرف بما يرد جديدا في متن النص، ويكشف عن إحاطة تامة بتلك الخرافات والأساطير متنوعة المصادر والتي ضمتها قصائده، ومن أبرزها رموز الخصب عند العراقيين القدامى، فالإله تموز والآلهة عشتار هما بحسب الأدبيات الرافدينية مصدر الخصب، وسر عودة الحياة في الربيع بعد جفاف وذبول وموت. ومهما اعترضت الدراسات الحديثة على استخدام السيّاب للأسطورة بتراكم أو تفاصيل منقولة ومطولة، فإنه يظل فاتح باب تلك التقنية الموضوعية التي توازي في أهميتها التحرر من القيود الإيقاعية التقليدية. والسيّاب يكيف تلك المصادر والنصوص ليعطيها هوية شعرية أولا متخلصا من سرديّتها، كما يمنحها حيويتها بالاختلاط والمزج والإسقاط على مشاهد محلية أو أحداث وأزمنة، فتغدو أساطير مخلوقة لتناسب الحالة الشعرية والشعورية التي يريد توصيلها، فنرى المسيح وتموز مثلا يجولان في جيكور، أو يتخذهما الشاعر كأقنعة يتخفى وراءها ويوصل محمول قصائده. وستظل حية تلك التقنيات بجانب ما كتب من مطولات شعرية معبأة بالسرد وعناصره، أو ما كتب من تراسل حسي باستبدال وظائف الحواس وتحميلها وظائف صورية أو شعرية، واستخدامها للتعمق في الحالة المراد توصيلها كما في سماعه للحصى يصل في قرار النهر. ولا شك أن غزارة شعر السيّاب قياسا لعمره ستظل موضع تأمل وتفسير، فقد كتب مثلا في شهر واحد اثنتي عشرة قصيدة، فيصح فيه ما قاله أنسي الحاج من أن السيّاب يسيل به الشعر ويسيل معه حتى الموت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©