الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كابوتي قتل الرواية بدم بارد

23 ابريل 2006
هل يمكن للنجاح المهني أن يلتقي مع التلذذ بمآسي الآخرين، وهل يمكن استغلال القصص الشخصية المفجعة في توفير مناخات روائية وتوثيقية تستقطب الاهتمام الشعبي والجماهيري، وتهيئ بعد ذلك قدرًا من الشهرة والمكانة الاجتماعية المميزة للكاتب في الوسط الأدبي؟
وكيف يمكن للهوس المتواصل في البحث عن الواجهة الإعلامية أن يضلّل الصورة الحقيقية للضحايا الغائبين في قبورهم، وللقتلة المنسيين في هامش أقدارهم السوداء؟!
إبراهيم الملا:
يحاول فيلم 'كابوتي' للمخرج 'بينيت ميلر' الإجابة على الجزء الأكبر من هذه الأسئلة الوجودية من خلال الغوص في وقائع القصة الحقيقية للكاتب الأميركي 'ترومان كابوتي' ( 1924 ــ 1984) الذي حاز شهرة قياسية من خلال روايته الأكثر مبيعاً والمعنونة بـ بدم بارد ـ doolb dloc ni، المنجزة في العام 1965 والتي استغرق زمن كتابتها حوالي الست سنوات، هي مدة البحث الشخصي المنهك عن تفاصيل الجريمة التي قرأها 'كابوتي' في صحيفة نيويورك تايمز وتوقف أمامها طويلاً كما لو أنها أيقظت في داخله الغريزة الروائية النائمة والهوس الشخصي المطمور بغياب الإثارة الداخلية· تستغرق كتابة هذه الرواية زمنًا ليس بالقصير لأنها اعتمدت بشكل أساسي على التقصّي والولوج في التفاصيل المرهقة حول المذبحة الدموية التي طالت أربعة أشخاص من عائلة واحدة في إحدى المناطق الريفية الهادئة بولاية 'كانساس' الأميركية·
لقد نبعت الشرارة الأولى لهذه الرواية من رغبة الكاتب في اختراق الشكل التقليدي للتحقيق الصحفي حول جرائم القتل، والذهاب بعيدا من خلال الحس البوليسي والفضول التلصصي للبحث داخل منظومة المكان، وداخل الإشكاليات والعقد النفسية المفرزة لهكذا جرائم في مجتمعات جبلت على الهدوء والوداعة والعلاقات الاجتماعية السوية·
بارانويا المبدع
اختار 'كابوتي' تصنيفًا غريبًا لروايته، حيث أطلق عليها اسم 'الرواية التوثيقية' أو 'الملموسة'، أي الرواية البعيدة عن الاختراع الذهني والسند الخيالي المرتبطين بالتقاليد الأدبية السائدة، وبالإرث السردي الذائع في الرواية الأميركية التي روّجت لها ورسختها الأعمال الشهيرة لهمنجواي وفيتزجرالد وفوكنر· والرواية التوثيقية التي انتصر لها 'كابوتي' تعتمد على الاقتراب والتداخل مع الشخصيات الحقيقية التي شكلت عناصر الحدث على أرض الواقع·
يلقي فيلم 'كابوتي' الضوء على العلاقة العاطفية بين الكاتب وبين ذاته، حيث يقودنا الكاتب في لحظات مفصلية في الفيلم للوصول إلى ذروة الإحساس بـ 'عشق الذات' أو 'بارانويا المبدع' التي يسندها الهوس العارم بالعزلة والخصوصية والتصرفات الفردية الشاذة· لقد جعلنا الكاتب نستشعر أنانيته القصوى في تخزين الحس الإبداعي وإعادة توليفه في الداخل بغض النظر عن عذابات الخارج وآلام الآخرين والتي توفر وقودًا مضاعفًا لمحركات الكتابة ولدفقها المستمر في توليد النص الروائي وتسمينه وضخّه بعد ذلك على الأوراق البيضاء الجائعة!
في إحدى المقولات المهمة الواردة في رواية 'بدم بارد' يقول كابوتي: 'إن قدرتنا على التحكم في ضعفنا البشري هي قدرة هشة على الدوام'، وهي مقولة تلخص الأزمة الذاتية التي عاشها القاتل مباشرة قبل ضغطه على الزناد وتصفيته لأربعة أشخاص مسالمين في عائلة واحدة، المقولة ذاتها تلخص أزمة الكاتب أيضًا في عدم قدرته على الفصل بين الصرامة التي تفرضها شروط كتابة (الرواية التوثيقية) وبين التعاطف مع القاتل، إن الخصوصية الرهيفة في التركيبة الشخصية لـ 'ترومان كابوتي' جعلته يستحوذ على الشاشة بأداء ملؤه الغرابة والتناقض، ويستشعر المشاهد بأن هناك شيئًا من التمزق الداخلي في مهنته جعله مشتتا بين الرغبة الظاهرية في الشهرة وبين الانجذاب لنداءات الضمير الداخلي المتعاطف مع القاتل، الذي كان بدوره ضحية تاريخ عائلي ممزق على أكثر من جهة (أم مدمنة، وأخت منتحرة، وأخرى على حافة الانهيار العصبي)، والقاتل أيضًا هو سليل أسرة خلاسية تنحدر من أصول هندية ـ مكسيكية، وهذا الاغتراب العرقي حوّل الأسرة إلى ضحية صارخة للنبذ والفقر والعاهات النفسية المتوارثة·
صراعات وشكوك
اعتمد 'بينيت ميللر' في تكنيكه الإخراجي لهذا الفيلم على الإيقاع البصري الهادئ والمتكئ على الخطوط الأفقية الأمينة لأجواء الرواية ذاتها، والتي ضمّت كلا من السيرة الذاتية للكاتب والسيرة المكانية للمنطقة المعنية بالحدث (المقاطعة الريفية التي يهيمن عليها مزاج الطبيعة الباردة والموحشة)، واستعان المخرج كثيرًا باللقطات المقربة على وجوه الممثلين، رأينا ذلك بشكل مكثف أثناء الحوارات بين الكاتب وبين القاتل في الزنزانة، هذه اللقطات المقربة كانت بمثابة التأكيد على الصراعات والشكوك والكتمان الكبير الذي لوّن العلاقة بين الروائي وبين موضوعه الفني·
خلا الفيلم أيضًا من التصعيد الدرامي ومن الإثارة المقحمة لأن مقولة الفيلم كانت واضحة منذ البداية وهي: أن الجريمة الذهنية أقسى وأكثر تدميرًا من الجريمة الحسية، وأن المذنبين في السجون قد يكونون ضحايا للصدف والظروف القادرة على العبث بمصائرهم في غمضة عين، بينما الطلقاء في الحياة قد يكونون هم المصدر الحقيقي لكل هذه الشرور، لأنهم لا يتركون أي أثر واضح للجشع والمنفعة الشخصية، وهم بذلك يعمقون هذه الجدلية القائمة أبداً بين المحفز على الجريمة والمختبئ تحت شبكة معقدة من الشروط الاجتماعية، وبين مرتكبها الفعلي والمكشوف تمامًا لنظرة المعايير القانونية الحاسمة·
لقد ترجم الممثل 'فيليب سيمور هوفمان' الملامح الخارجية والشروخ الداخلية للكاتب الحقيقي ولتصرفاته الشخصية، سواء على مستوى نبرة الصوت الخافتة الأنثوية أو على مستوى العقد النفسية والوساوس القهرية التي جعلته خاضعًا لبعض الحركات اللاإرادية في تعابير الوجه والجسد· إن نقل العوالم السيكولوجية الدائخة لكاتب مثل 'ترومان كابوتي' لم يكن بالأمر الهيّن، خصوصًا وأن هذا الكاتب كان مفخخًا بالأسرار وبالغموض المربك على مستوى التاريخ الشخصي، وكان ذلك واضحًا في الصفات المتناقضة التي غلّفت علاقاته العامة والخاصة على السواء، فمن الغرور والتباهي في الصالونات الأدبية، إلى الانكسار والهشاشة في علاقاته المثلية، وصولاً إلى الإدمان المازوشي على الكحول والذي أودى بحياته بعد عشرين عامًا من الصمت الروائي والإبداعي، أي بعد عشرين عامًا من نشر روايته القاسية 'بدم بارد' والتي تحولت بدورها إلى مبعث للشهرة واللعنة معًا، كما أنها أمست صورة مثالية للذروة التي لا تورّث سوى الهاوية!
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©