الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مهمات سلطانية

مهمات سلطانية
12 يونيو 2013 20:07
في إطار مشروع ارتياد الآفاق الهادف للتعريف بأدب الرحلة وبالمنجز الثري لأدب الرحلة، والتشجيع على كتابة هذا الجنس الخاص من الأدب في إطار الرحلة المعاصرة، أصدرت دار السويدي للأدب الجغرافي مجموعة جديدة من الإصدارات التي فازت بجوائز هذا العام ضمن فروع تحقيق أدب الرحلة والرحلة المعاصرة ودراسات أدب الرحلة، ومنها كتاب “رحلات عثمانية في الجزيرة العربية والهند وآسيا الوسطى ما بين القرنين السادس عشر والعشرين”، الذي صدر في جزئين وقام بتحقيقه الدكتور محمد حرب والدكتورة تسنيم محمد حرب. يشتمل الكتاب على خمس مخطوطات لخمس رحالة عثمانيين قاموا لأغراض مختلفة بتلك الرحلات. إن أهمية هذه الرحلات تنبع من المدة الزمنية التي تستغرقها وتمتد على مدى أربعة قرون، ومن المساحة الجغرافية الواسعة والبلدان الكثيرة التي يتنقل فيما بينها الرحالة واصفين طبيعة الأماكن التي مروا بها في طريقهم والحياة عمرانيا وبشريا واجتماعيا وسياسيا، إلى جانب المخاطر والتحديات التي واجهتهم أثناء الرحلة، التي اعتمدوا فيها على وسائل نقل بدائية، بحيث نتعرف من خلالها إلى طبيعة الحياة التي كان يعيشها سكان تلك البلاد وقومياتهم وديناتهم، والتقاليد التي كانت سائدة عند شعوب مختلفة اللغات والعادات والثقافات على مدى تلك الجغرافيات الواسعة والمجهولة لسكان الشرق الأدنى في تلك الفترة. أمهات الرحلات يضم الكتاب الأول الرحلة التي قام بها البحار سيدي علي أحد أشهر رجال البحرية والأدب في عهد السلطان سليمان القانوني في منتصف القرن السادس عشر ميلادي. ويبين محقق الرحلة في مقدمة الكتاب ظروف كتابة هذه الرحلة التي تمثلت في فقدان هذا البحار لجزء كبير من الأسطول العثماني في خليج البصرة بعد خساراته المعركة أمام الأسطول البرتغالي ما اضطره للتراجع نحو البصرة، ومنها باتجاه الهند التي كانت خاضعة لحكم أسرة بابر شاه التركية، ومن هناك اتجه إلى تركستان الغربية أو ما يعرف حديثا بآسيا الوسطى ومنها إلى بغداد ثم اسطنبول. وكعادة كتاب الرحلة يبدأ الرحالة ببيان أسباب هذه الرحلة والظروف التي سبقت القيام بدءا من المكان الذي أنطلقت منه وهو ميناء البصرة. لم يتوقف الرحالة البحار في تدوين رحلته عند وصف طبيعة تلك البلاد التي مر فيها، بل قدم وصفا دقيقا لأهم الشخصيات السياسية التي التقاها نفسيا وشخصيا، إضافة إلى وصف رجال الدين والدراويش والصالحين. ولعل العنوان الذي وضعه لتلك الرحلة “مرآة الممالك” يكشف عن الخلفيات التي دعته لكتابة تلك الرحلة وتركيزها على مشاهداته في تلك البلدان المختلفة التي تنقل بينها. تبدأ الرحلة التي جاءت بناءً على أوامر السلطان العثماني لإعادة السفن الموجودة في ميناء البصرة إلى مصر تبدأ من مدينة حلب في شمال سوريا باتجاه البصرة. إن طبيعة هذه المهمة جعلت الكاتب يكتفي بذكر المدن والمحطات التي مر بها في طريقه دون أن يقوم بوصفها أو الحديث عن مشاهداته فيها، على خلاف ما سنجده في وصفه لأحوال مدينة البصرة ومن ثم للمدن الأخرى التي مر بها في طريق عودته، لكن المميز هو وصفه للمعارك التي خاضتها السفن العثمانية ضد الأسطول البرتغالي في شط العرب ومضيق هرمز وساحل عمان واضطرارها لعبور طريق بحر الهند بعد أن عجزت عن مواصلة طريقها باتجاه مصر. يفرد الرحالة لكل منطقة من المناطق التي كان يزورها فصلا خاصا يعنونه باسمها وذلك وفقا لسير رحلة العودة التي واجهوا فيها الأهوال والمخاطر الكبيرة. بحر الهند بعد اجتياز منطقة بحر العرب يبدأ بوصف رحلته في المحيط الهندي الذي يسميه البحر المحيط، حيث تستمر الرحلة أياما طويلة فاجأتهم فيها العواصف التي لم يألفوها من قبل، والتي كانت تجعل من الأمواج العاتية سلاسل من الجبال هي أعلى أضعاف مضاعفة مما كانوا قد رأوه في البحر المتوسط حتى أنهم لم يستطعوا التفريق بين الليل والنهار ما اضطرهم لإلقاء كل أحمالهم في البحر حتى تمكنوا من الوصول إلى البر. شكلت مشاهداتهم في الهند غرابتهم ودهشتهم فهم يألفوا أرضا مشابهة لأرض الهند، وتقاليد ومظاهر حياة اجتماعية غريبة، بل إن جهلهم بأوضاع تلك المناطق وشيوع العصابات فيها كاد أن يودي بحياتهم لولا المساعدة التي كانت تقدم لهم من قبل أصحاب النفوذ والحكم فيها. رفض البرتغاليون استخدام الرحالة للطريق البحري ما اضطرهم لسلوك الطريق البري أثناء العودة. وعلى الرغم من كتب السلطان التي تطالب بتسهيل مرور قافلة الرحلة إلا أن سكان المناطق التي كانوا يمرون بها وينتمون لأقوام مختلفة ظلوا يغيرون عليهم ويجبرونهم على دفع الأتاوات مقابل السماح لهم بالمرور والحفاظ على حياتهم. يروي الرحالة تلك المخاطر والأهوال التي كانوا يواجهونها في مناطق شديدة الوعورة لكن الملفت للنظر أن ما تتمتع به شخصية الرحالة من مواصفات جعلتهم يجتازون كل المخاطر التي واجهتهم: “اتجهنا صوب كابل من نيل آباد في غرة جماد الأول المبارك ومسرعين مساء خشية تعرض أحد الأفغان المعروفين بآدم خان لنا وفي الصباح وصلنا إلى سفوح الجبال ومع ظهور الشفق تحركنا من هناك دون أن يعلم الأفغان عن الأمر شيئا وتسلقنا الجبال وتلقينا هناك بمئات الألوف من الأفغان الذين كانوا يتنازعون وأطلقوا وابلا من طلقات البنادق وأنجانا الله منهم ووصلنا إلى بشاور وعبرنا ممر خيبر ووصلنا جوشاي”. إن أبرز مواصفات شخصية الرحالة كان حس الدعابة والحكمة وموهبة نظم الشعر وحفظه لاسيما الشعر الغزلي الذي كان يرويه في مجالس السلاطين والأمراء الذين كانوا يستحسنون ذلك منه، فيغدقون عليه بالهبات والدعم مما كان يسهل عليهم مهمتهم في اجتياز المخاطر كلها، ولهذا سوف نجد تعدد مستويات الخطاب من خلال ما كان يقوم به من تثبيت لما كان يقوله من شعر في تلك المناسبات، أو ما كان يرويه من محفوظاته وهو كثير يملأ صفحات الكتاب. وصف المكان يصف الرحالة طبيعة الأماكن التي كانوا يجتازونها ومعتقدات السكان والحياة العمرانية الاجتماعية والاقتصادية فيها ما يجعل الرحلة تقدم صورة واسعة عن تلك البلاد في تلك الفترة التي تمت فيها الرحلة. وعلى عادة كتب الرحلة تبدأ الرحلة من مكان البداية الذي هو ميناء البصرة في جنوب العراق وتنتهي في مكان آخر هو مسقط رأسه في تركيا بعد أن يصل مدينة الاسكندرية التي يقوم بزيارتها بعد النزول في مينائها ولقاء أحد أمرائها، ومن ثم متابعة الرحلة باتجاه ميناء أزمير في تركيا ومنها إلى دار السعادة كما يسميها وهي مسقط رأسه لتنتهي الرحلة هناك. تتعدد مستويات الخطاب في هذه الرحلة فهي تضم إلى جانب وصف ما كانوا يشاهدونه من طبيعة وعمران وأحداث وسرد ما كان يسمعونه من أخبار وحكايات الخواطر والأفكار والتعليق ورواية الشعر والتوثيق التاريخي والمصورات الجغرافية في بعض الأحيان بحيث يمكن اعتبارها وثيقة عن زمن حدوثها بالنسبة لبلدان المسار الذي اتخته تلك الرحلة وهو مسار طويل في عمق جغرافيات بلاد السند وأفغانستان المجهولة، إضافة إلى إيران والعراق ومصر ما يكشف عن الأهمية الخاصة التي تتمتع بها هذه الرحلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©