السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر يعود من الموت طيراً

الشاعر يعود من الموت طيراً
12 يونيو 2013 20:07
سبق وأن قدمت المترجمة سحر أحمد “كتاب التساؤلات” لبابلو نيرودا (دار أزمنة عمان 2006)، و”مائة قصيدة حب” لنيرودا أيضاً، عن الدار نفسها عام 2009. كما قدمت “رحلة إلى سالتو” حكايات/ لـ ثيرثه مايا (البصرة 2011)، وترجمةً لبحث الناقدة الانجليزية تيري دي يانغ المعنون “قراءة جديدة.. لأنشودة المطر” (البصرة 2012). وهو قسم مستل عن دراسة مطولة في شعر بدر شاكر السياب لتيري التي ذكرت بأن: قصيدة “أنشودة المطر” علامة بارزة في الشعر العراقي/ العربي الحديث، وفي التطور الشعري للشاعر السياب، إذ جمعت قصيدة “أنشودة المطر” بين حنين السياب إلى وطنه، العراق، حينما كان مهاجراً إلى الكويت، جراء مطاردة الشرطة السرية الملكية له. وقد تمكن السياب في قصيدته تلك من الربط شعرياً بين حنينه المتواصل لوطنه، وتطلع الشعب العراقي إلى مستقبل أفضل”. السياب استطاع بما امتلكه من قدرات شعرية غنية أن يعبر عن ذاته القلقة المعذبة وأن يحول بعض تجاربه الحياتية الشخصية والسياسية، المُخفقة، إلى نصوص شعرية متألقة، وأن يضع قريته (جِيكَور) “النائمة.. في ظلام السنين” وحكاياتها الخرافية وما تنطوي عليه من “ميثلوجيا” محلية وخصوصية جنوبية، وشخصياتها الفلاحية ورعاتها، ونهرها الصغير (بويب). مؤخراً قدمت سحر احمد ترجمتها لـ”البحرُ والأجراس” قصائد لبابلو نيرودا. لم تكتب المترجمة مقدمة للكتاب، لكنها تفضلت وخصت “الاتحاد الثقافي” بما يلي: بعد وفاة نيرودا عام 1973 اكتشف بعض المقربين جداً منه حوالي (7 ـ 8) مجاميع شعرية على طاولته وكانت جميعها جاهزة للطبع، فعمدوا إلى نشرها بالتتابع بلغتها الأم، ومنها “البحر والأجراس” وترجم إلى اللغة الإنجليزية عام 1988 ثم تم إعادة طبعه عام 2002 وان ترجمتها اعتمدت الطبعة الأخيرة منه. يذكر فرانشسكو فيلاسكو، أقرب أصدقاء نيرودا وكان ملازماً له في لحظاته الأخيرة: “حينما اشتدت وطأة المرض على نيرودا، كنا نقضي الساعات الطوال نتحدث بجوار البحر وفي أحد الأيام، سألني فجأة سؤلاً غريباً. كان فحواه: فرانشسكو، هل تؤمن بالتناسخ!؟. دهشت لان السؤال لم يحضر بيننا من قبل طوال سنوات علاقتنا!. أجبته: لا ادري.. ما رأيك أنتَ؟. أجاب نيرودا بوهن: حسن، ربما.. لكن إن كان لابد، فبودي أن أكون طيراً، ربما نسراً!”. يواصل فرانشسكو: بعد موت نيرودا بأشهر، كنت عائداً إلى بيتي، حينما اتصلت مدبرة منزل نيرودا، لتخبرني بوجود طير في البيت!؟. كان البيت مقفلاً منذ أشهر. وعندما ذهبنا، أنا وزوجتي، للمنزل، وهناك رأينا فرخ نسرٍ يجثم بين الأثاث المتروك، وينظر إلينا بحدة”!. ولد نفتالي رييس عام 1904. واختار اسمه الشعري الثاني (نيرودا) بعد إعجابه الشديد جداً بشعر الشاعر التشيكي جان نيرودا. حلاوة الشكل اصدر بابلو نيرودا خلال حياته أكثر من 35 عملاً شعرياً في مقدمتها عمله الملحمي “النشيد العام” وثمة تراجم له باللغة العربية حمل بعضها اسم “النشيد العظيم” و”النشيد الشامل”. بعض النقاد العالميين يعدونه بمثابة “أوديسا القرن العشرين” بما احتواه من توجهات شعرية، استمدها من الواقع، الشيلي، وتاريخ شعوب العالم، ليرتقي نيرودا بهما، عبر إمكاناته الشعرية العظيمة إلى ما يهم الإنسان في كل مكان وزمان. “نيرودا ملهج ألسنة الناطقين بالاسبانية، ومهوى أفئدة المُعَذبين المُضْطَهدين في العالم، تعلق بهم وتعلقوا به، وكاشفهم بلغة الشعر الإنساني العظيم عن بغضه لاستغلالهم، وتوقه لتحريرهم مما يعانون من فجائع و بؤس يومي وإذلال وإهمال تاريخي.. قصائده تجمع بين حلاوة الشكل وطراوته وصدق المضمون” ـ سعد صائب. ذهب نيرودا في شعره إلى الواقع المعيش والكشف عن حقيقته، إيماناً بهدفه في الذود عن حياة الإنسان وكرامته وحريته وسيادة العدل والمساواة في الحياة، وكرس حياته كلها لهذه المبادئ، من خلال إزالة الفوارق بين الناس، بغض النظر عن النوع والجنس والعرق، وفي الحياة ذاتها وعلى الأرض التي يحيون عليها، لأنهم يصنعون تاريخهم عليها. حصل نيرودا على جائزة “نوبل للآداب” عام 1971 بعد مواطنته الشاعرة التشيلية الكبيرة غبرييلا ميسترال. اسبانيا في القلب منذ الخمسينيات شغف القارئ والمثقف في العالم العربي، نتيجة القوة والفعالية السياسية والتوجهات الثقافية لليسار العربي، بشعراء عالميين كبار منهم أراجون وايلوار وناظم حكمت وبابلو نيرودا وبريخت ووالت ويتمان ومايكوفسكي.. وغيرهم. كان هذا في الشعر وكذلك في القصة والرواية والمسرحية نتيجة تقديم تراجم عدة، لا تحصى، لهم ولغيرهم في اللغة العربية. وهذا كان في فورة نهوض حركة تحرر الشعوب العربية، سلاحاً فعالاً في حينه لكسب أجيال من القراء ومن المثقفين الشباب وانحيازهم لهذا الجانب الاجتماعي، وفي أولى مهماته وتوجهاته، التحرر والعدالة الاجتماعية والسلام بين الأمم. لكن ما هو جدير بالملاحظة أن هؤلاء على كل إمكاناتهم الهائلة الشعرية والثقافية والروائية قُدموا فقط من وجهة نظر اجتماعية/ سياسة بالدرجة الأولى، دون النظر إلى ما أنتجوه من أشكال فنية ومتميزة، في الشعر والقصة والمسرحية والرواية. في مذكراته “بابلو نيرودا.. اشهد أنّني قد عشت” التي ترجمها عن الاسبانية الدكتور محمود صبح، نكتشف وجهاً آخر غير الذي وصلنا عن نيرودا، ثمة عاشق حقيقي لكل ما في الحياة، صداقات، خصومات، أفراح، أحزان، مغامرات الطلبة الشباب وما يرافقها من تحد وبوهيمية وعوز دائم، أساطير وحقائق. نضال عنيد متواصل مع الجمهوريين الأسبان: “كانت العصابات تتكاثر في ليل مدريد الأعشى، ونحن القوة الوحيدة المنظمة التي خلقت جيشاً لمجابهة الألمان والايطاليين ورجال الكتائب. الشعر لم يمت، خلال تلك المرحلة، إن له أرواح القطة السبع، قد يزعجونه، قد يجرجرونه، ويجرحونه، وينفونه، قد يفرغون فيه طلقات عدة، لكنه يخرج من هذه الحوادث العرضية بوجه نقي وبابتسامة من أرز”. ثمة “اسبانيا في القلب”، والكيفية التي صدر بها إذ نصب مانويل التولاغره مطبعة.. وعَلمَ الجنود في حمأة المعركة بالجبهة الشرقية، كيفية الطبع، أظن أن كتباً قليلة جداً في تاريخ الكتب الغريب، كانت لها مثل ما كان لهذا الديوان من مخاض عجيب ومن مصيرٍ غريب.. ميغيل ايرنانديث تحولّ من راعي عنز إلى مقاتل، كان ينشد أشعاره في الخط الأول من المعركة النارية.. فيدريكو لوركا واغتياله في غرناطة. الناجي من الموت رفائيل البرتي، ألف ميتة أعدت له.. لكنه ذلك الذي جبل قلبه من نار الأعناب وهدير الموج، وهو الذي ينشد القصائد في الثكنات وفي الجبهات، لقد اخترع الحرب الشعرية ضد الحرب، خلقَ الأغاني التي راجت ورفرت تحت قصف المدافع، ثم راحت تحلق في كل سماء وفوق كل ارض”. الخروج من اسبانيا للبحث عن شهداء أو منفيين منكسرين. وحياة الدبلوماسي التي يرى أنها لا تليق به، ففضل عليها، حياة المنفي وعوزه الدائم.. عمال المناجم والفقراء من المزارعين، والمنبوذين والذين على الهامش دائماً، أحبوا وأجلسوا نيرودا في المقعد النيابي، بصفته صوتهم المدوي وحارس مصالحهم الأمين، كل ما عرفه وعاشه وقابله نيرودا من حياة بهيجة وخصومات فكرية، وفاقة وأسفار متواصلة. عين النسر يعبر نيرودا بصدق تام،عن نبالة وإنسانية، خصمه من أصحاب التوجهات اليمينية وغلاتها، وكان برلمانياً مثله وبعد نزع الحصانة البرلمانية عن نيرودا، وصوتَ الإقطاعي نفسهُ بحماسٍ عليها، لا بل هو من تبناها، ومع علمه بأنه من أشد المطلوبين وبقوة في شيلي، لكنه حينما اكتشف أن نيرودا يختبئ وبمساعدة بعض الفلاحين، في إقطاعياته الشخصية الشاسعة، غض النظر عن تواجده في مزارعه، وتم تهريبه منها عبر البحر، خارج شيلي. ثمة نساء عدة عاش معهن وندم على فراق بعضهن، وأخريات عرفهن في شتى البلدان، والأهم منهن كلهن: «ماتيلدا هي الوحيدة التي تستجيب لهذا الاسم» يؤكد نيرودا خلال مرضه، وفي “البحر والأجراس” للناس ولأصدقائه وللعالم في كل مكان: “صورُ الموتِ الكثيرة التي تُحدّدُ وجهي تُنْبئُ بعدم موتي، لا أقدر على الموت. ويعاين نيرودا، بعين ذلك النسر الذي تمنى أن يكونه، ولكن الجريح والمهضوم خلال محنة وطنه شيلي، وبعد مقتل صديقه سلفادور الليندي: “اجل يا رفيق، إنها ساعةُ الحديقة وساعة المعركة، كلُ يومٍ ينبعُ من الزهور أو الدم: عصرنا أجبرنا على أن نروي الياسمين مكبلين أو ننزف حتى الموت في شارع مظلم. ضمت مجموعة “البحر والأجراس” سبع عشرة قصيدة بعضها قصيرة منها: البداية، ويحدث هذا، وبحث، والغصن والسفير، وكل إنسان، وكسل. وأخرى طويلة: العودة، وكل يوم ماتيلدا، والمدينة. المترجمة بقدراتها وإمكانياتها، تمنحنا شيئاً ثميناً باللغة العربية، تحديداً، عن التجربة الشعرية العظيمة والفذة لنيرودا، العاشق المفتون والإنسان الصادق والمخلص، وتقدمها بطريقة نتعرف عليها بصفتها حياة دائمة متواصلة ومتوترة ومنحازة للإنسان المُستلبْ، وتجاوزت شخصيته طائر الموت الذي تمكن منه. الموت نفسهُ الذي سيتغلب، وفي الوقت الذي يشاء، على كل البشر، مهما كانت مكانتهم ومواقعهم، لكنه أبداً لا يمحو ذكرى ونبل ومجد كل مَنْ يقف مع الإنسان أينما كان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©