الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هدير قطار الرحيل أجمل تهويدة

هدير قطار الرحيل أجمل تهويدة
12 يونيو 2013 20:08
هل يبحث أحد عن مكان لدفنه؟ وهل يكتب أحد عن رحلة موته ورحيله قبل أن تبدأ؟ في الواقع لقد كان هذا ممكنا لدى المبدع الدكتور صلاح نيازي، في كتابه “غصن مطعم بشجرة غريبة”، ويندرج في مجال وتحت ظلال “أدب السيرة الذاتية”، في إطار ما يمكن تسميته اصطلاحا في الأدب “الخلاص بالموت” وهو اصطلاح كان أثيرا في كتابات بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور، وفي هذا المعنى يقول نيازي: “كانت أمنيتي الوحيدة لا الوصول إلى لندن، لا العيش فيها، ولكن الموت في مكان آخر، الموت بإرادتي، أردت “أن أحسّ اللذة السوداء في الوفاة”، أردت أن أختار نوع موتي، كما اختار السهروردي موته، كان أشقّ عليّ أن يشفي قاتلي غليله، أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه، مهانا، مذلاّ، أمنيتي أن أحرمه من إشباع حقده. غمرتني النّشوة ثانية، حينما تفتحت أوروبا أمامي، خضراء شاسعة، إذن ـ قلت لنفسي ـ هذه أوروبا وكلها قبر لي، ومرة واحدة شعرت بلذّة الانتصار”. لا أدري لماذا وأنا أقرا كتاب نيازي في غربته، كان يعبر في خاطري السيّاب، الذي تأثر بموهبته وربما أسلوبه، كما يذكر في كتابات كثيرة له: “بدأت بتقليد السيّاب مبنى ومعنى، وبتأثيره دشّنت كتابة الشعر بالتفعيلة، كانت عاداتي الثقافية ببغداد هي كما كانت بالناصرية، مقتصرة على الشعر، كان طموحي، أن أقرأ كل ما يتيسر لي من دواوين”، فهل نحن أمام إبداع ومرارة سيّاب جديد؟ نتحدث عن الدكتور نيازي، وهو من جيل مثقف، مخضرم ومحترم، محترق بجمر الإبداع، وصاحب رسالة، نحو كتابة وخطاب أدبي يضع النقاط على الحروف دون مواربة، ابتداء برحيله من موطنه العراق، ليدلف إلى أبواب الغربة في عاصمة الضباب لندن، بعد أن تعرض للاعتقال عقب انقلاب شباط الأسود عام 1963، وفي عاصمة الضباب بدأ رحلة جديدة نحو الإبداع في الشعر والترجمة والإعلام، ليقول وطنه شعرا، حتى كتابه الذي بين أيدينا، الذي يحمل عنوانا غريبا ذكيا، يحاول فيه أن يقدّم لنا تجربته وبحثه عن العدالة والحرية ، ممزوجة بكل التحولات في وطنه والعالم على مستوى ثنائية السياسة والأدب، ومن خلال فن السيرة الذاتية أو الأوتوبيوغرافيا، التي يعرفها فيليب لوجون على أنها “عن محكي استرجاعي نثري، يحكيه شخص واقعي، عن وجوده الخاص، عندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته”. ست محطات أهمية هذا الكتاب، الذي رصد نيازي من خلاله وفي ست محطات (الناصرية، بغداد، حلب، تركيا، ميلان، لندن)، مسيرته مع الحياة والألم والغربة والإبداع، يمكن إجمالها في كونه أولا يفتح أمامنا فضاء جديد للسرد بلغة شاعرية، وأيضا بما يحتويه من عمليات عرض وتحليل ومقاربات ونقد، ما يكشف عن قيمة فكرية وجمالية وتجربة حياتية أثيرة تتفاعل مع قضايا العصر، في قالب فني لا يبتعد كثيرا عن تأسيسات الرواية المعاصرة، وفي هذا الكتاب اللطيف الذي يسعدنا ويجرحنا، ويثير فينا شجنا غير معهود، ثمة (قراءة عاشقة) للعديد من الظواهر الحياتية، في هذا البلد أو ذاك، ومن ثم يسافر بنا الكاتب عبر محطات حياته الست في جولة ممتعة، ورحلة مريرة، لا تخلو من الطرافة والألم والدموع، وقسوة الغربة والنفي، والحلم، وذاكرة الخاص والعام، حتى ليصبح الموت المعنوي في نظره جميلا بهيا، ممتطيا جواده نحو السقوط العظيم دون وجل، مثل غصن مطعم بشجرة غريبة: “الآن أستطيع أن أقر مصيري في أية لحظة، أصبحت إرادة موتي بيدي، وهو من لا أريد أن يفرضه عليّ بالتجويع والتعذيب والإذلال، قررت ألا ألتفت إلى الوراء بعد اليوم، أحببت القطار لأنه كان يخبّ بقوة إلى الأمام، يدخل الأنفاق الجبلية المظلمة، ويخرج بقوة إلى الأمام، هديرك أيها القطار أجمل تهويدة أمّ في أذني اليوم”. ومع أول محطات قطار الدكتور نيازي، نبدأ من الناصرية جنوبي العراق، التي ولد فيها عام 1935، إنّها تجاور مدينة “أور”، وهي من أقدم وأعرق المدن في التاريخ، ومنها نتعرف على حياة هذا الطفل الشّقي، ألذي أصيب في طفولته بمرض التراخوما لأشهر، وفي مرحلة الفتوة، كان باعترافه صيادا معتديا على حرمة كل أنواع الطيور وأعشاشها وبيوضها، كما أنه لا يخل حينما يتحدث صراحة عن فقر حاله وأسرته، وعن ولعه أيضا بفن الأداء والإلقاء: “كنت مولعا، ربما بالفطرة بالإلقاء، وحين نصطف نحن الطلاب ونقرأ الأناشيد المدرسية، يختارني المعلمون لإلقاء إحدى المحفوظات، في الصف السادس الابتدائي فزت بالجائزة الأولى للخطابة لمدارس المدينة”. وفي الناصرية بدأنا من هذا الاستهلال الطفولي، نتعرف على أول خيط في مسيرة إبداعه الشعري: “نشرت وأنا في المدرسة المتوسطة أول قصيدة لي في جريدة “الفيلسوف”، التي كانت تصدر بمدينة العمارة، ونشرت لي بعض القصائد ببغداد، في جريدة الاستقلال، كما نشرت لي أول مقالة نقدية في جريدة “الهاتف” الأدبية، لقد كان هوسي بكتابة الشعر أكبر من أيّ ثواب”. النهر والقطار في بغداد أكمل نيازي الصف الخامس الثانوي في الإعدادية المركزية، وفيها ظل عقله وفكره متعلقا بشيئين هما النهر ومحطة القطار، متسائلا على الدوام: ماذا لو جفّ النهر؟ أما محطة القطار فهل لها فعل اقتلاع الجذور؟ ويقول: “استحوذت هاتان الثيمتان على معظم شعري، ربما الوداع واللقاء أهم ما كتبت من قصائد، الأشياء المفقودة، الخوف من الأشياء التي ستفقد، على أية حال كنت أنشد غدا يسود فيه العدل بين الناس الخبز والتعليم للأطفال، الدواء والعلاج للجميع، التقاعد للمسنين، كرامة المرأة، حرية العقيدة والفكر”. لكن هذا الفتى المتمرد، له ذكريات أليمة مع عاصمته وهويتها، مع السياسة، وكل ما يدور من حوله: “بغداد في تلك الفترة بالمقارنة بالناصرية أسرع إيقاعا، يتنافس فيها القديم والحديث بانسجام، بدأت أشعر بضيق، بغداد مدينة آجرية مادية، متعايشة في الظاهر، إلا أنّها متنافسة، مدينة عضلية، لهجتها متفخّمة، أبناؤها كآبائهم، مهتمون بالتملك”. ولم تكن بغداد بالنسبة إليه كل هذا، ففيها أيضا الجامعة التي التحق بها، وقضى في جنبات كلية التربية سنوات، أضاءت له الطريق نحو مسيرة جديدة في كتابة الشعر: “هذه السنوات الأربع في كلية التربية، كانت أهم خميرة في حياتي الأدبية، كان من بين أساتذتنا صفاء خلوصي، نازك الملائكة، وبفضلهم كانت خياراتنا أوسع، لقد حباني علي جواد الطاهر باهتمام خاص، وهو الذي أخذ على عاتقه التبشير بالأدب الحديث”. في بغداد تحددت وتطورت منابع ثقافته، ما بين الشعر والأدب، والموسيقى الكلاسيكية وفن الأوبرا، كما عايش ثورة 1958، وتزوج، وأنجب طفلة أسماها ريّا، وقتل أخيه، واستحثه ذلك لكتابة قصيدة طويلة في رثائه بعنوان “كابوس في فضة الشمس”، نشرها في كرّاس عام 1961. تحدث مقتصدا عن مقتل عبد الكريم قاسم، ودخول القطار الأميركي إلى العراق: “فتوحش البشر كأنما لم يكونوا من صنع الله وخلقه، فنون منوعة في التعذيب وقص الألسن، والاغتصاب، وتغطيس الموقوفين ببرك البول، الهروب بالجلد أقصى ما يمكن من طموح، واللعنة على مسقط رأسك”. لكن في بغداد التي تركها مجبورا مجروحا مقتولا مهزوما، يرى أنه كان يعيش في مسرح: “في مسرح بغداد لا وجود لمتفرّج، كلهم ممثل، وكلهم مسؤول عن تمثيله”. من حلب بدأت رحلة غربة نيازي المريرة والمؤرقة، وها هي ثيمة الخلاص بالموت تلاحقه: “من مدينة إلى مدينة ومن قطار إلى قطار كنت أحمل جنازتي، وكلما ابتعدت شعرت أن أمنيتي تتحقق في الموت بعيدا شعرت بسعادة حقا، كل يوم جديد هو إطالة في دفني خارج الحدود الطاحنة”، ومنها إلى محطته الرابعة في تركيا، لكن لا ينفك في تذكر أيامه المضنية في بغداد القاسية: “الله ببغداد أكبر عائق للتفاهم، نكتب لها الكتب، فتثأر لنفسها وتزيدنا قيودا، شعرت بإسطنبول بانفلات، وخرج القطار من تركيا، فانغمرت بنشوة فسيحة، كنت أقيس سعادتي بقدر نجاتي، ها أننّي نجوت الآن، المسافة بيني وبين بغداد تزداد بعدا، فأزداد انتشاء”. من محطته الخامسة في ميلان، إلى محطته الأخيرة في لندن، وسيرة الألم والرحيل، ثنائية نوعية، يجتمع فيها الاستقراء الخارجي للأحداث، مع الاستبطان الداخلي للانفعالات والأحاسيس، وهي التي تؤكد في الواقع قوة خطاب أدب السيرة الذاتية، ولعل هذا هو الجديد في سرديات وغصون صلاح نيازي، المطعمة بمعين الإلهام والسرد، ومصبات الافضاء الشعري، وكأننا حقيقة أمام إشعاع فني يذكرنا بإبداعات السيرة الذاتية عند توفيق الحكيم (عودة الروح، عصفور من الشرق) و”حياتي في الشعر” لصلاح عبد الصبور. ضد الغرور في لندن ثمة خصوبة إبداعية جديدة، بعد أن كتب قصيدة “الهجرة إلى الداخل” عام 1977، معبرا بقوة عن انتمائه العربي، على مستوى اللغة، وعلى مستوى الارتباط بنظم وتقاليد الشعر العربي القديم والحديث، والإفصاح عن الكثير تفاعلات ومشاق الذات الفردية، في بلاد الغربة، بقسوتها ومرارتها وصقيعها، حتى أنّه لاينفك من العودة إلى قصيدته “كابوس” التي تشكو حاله: “الأرض لا تدور أو تدور/ الشرق غرب والشمال في الجنوب/ يا بؤس إنسان يموت لا يقدر أن يموت/ أو أن يحسّ اللذة السوداء في الوفاة”. مؤكدا لنفسه أن كل هذا ما كان ليحدث له، إلا بسبب أنه كان ضحية العقلية الشفاهية السائدة في العراق، وأن ما يتعرض له هنا، استكمال لحلقات مسلسل الاضطهاد الذي يلاحقه، حتى في هذه المدينة الأوروبية التي تتجاهله تكرارا يوم الأحد: “أصعب الأيام على الغريب، هو يوم الأحد، المدينة تموت جزئيا، تزداد الغربة فيه أضعافا، ويصبح السير في الشوارع توجسا، اشتقت إلى زوجتي وطفلتي، ليتهما! ولم أتمنّ شيئا مع هذه العيشة الهامشية، اشتقت إلى كسرة صديق عربي، ومقهى، وأحاديث مفككة”، هناك أيضا تعرف على الروائي السوداني الراحل الطيب صالح، وقرأ له “الود حامد” و”موسم الهجرة إلى الشمال”، ورغم صدود لندن وقسوتها عليه، إلا أنه تعلم منها أشياء كثيرة، ربما يكون أهمها: “لكن يجب أن اعترف أن العلاج الذي أعطتني إياه لندن مجانا، هو أقراص منع الغرور. المعروف أن لندن مدينة متواضعة، ربم الكثرة الجامعات فيها، وقدمها منذ القرن الثاني عشر، ربما بتأثير أدبيات شكسبير، اصبح الغرور صفة ذميمة”. وحينما يتحدث نيازي عن الإعلام العربي وهو طليق في بلاد الغربة بلا تاريخ، فهو يصرخ ويدين في آن: “اللغة الإعلامية طاحنة ساحقة ماحقة ضروس، وباء يأتيك في كل الاتصالات السلكية واللاسلكية والفضائيات، الهواء موبوء من أقصى القطب إلى أقصى القطب، اللغة الإعلامية قرّادة بالكامل، تشفط، وتمتص، وتبقى قرّادة حتى لو جاءت على شكل شكولاته أو حلوى”. ويختتم نيازي مذكراته الشخصية العامة وقوله وحكيه بأسى شديد: “لكنني لم أكن أمثل مراحل حياتي، كنت أعيشها متداخلة، بوتقة خليط، وكأنها عنصر واحد، رغم تعدد عناصرها، وزمن واحد رغم تعدد أزمانها، ما وقع لي في طفولتي لم ينقطع: نما وتفاعل وتداخل، ربما لهذا السبب استغنيت عن التواريخ في هذه السيرة، لأنها تاريخ واحد متصل لا يمكن تجزئته إلا مجازا”. مقاربة وتداعيات في الواقع إن جمال الكتابة في “غضن مطعم بشجرة غريبة”، يكمن في تلك اللغة السردية العميقة التي يكتب بها الدكتور صلاح نيازي، لغة رصينة، تحتوي على قيمة عالية للسرد، وقيمة فنية وفكرية متفردة للمفردات، مضافا إلى ذلك أسلوبه الشائق، في تصوير حجم المأساة والمعاناة التي عاشها في غربته، وهي معاناة كل المبدعين والمثقفين العرب في بلاد المهجر، ثم تلك التجربة الغنية له في لندن، بعد أن أكمل دراسته العليا وحاز على شهادة الدكتوراه، ثم نجاحه في إصدار مجلة (الاغتراب) هناك، وكيف تأثر بجماليات وأسلوبية النثر الانكليزي، وكيف إنعكس ذلك على كتاباته وشعره وإبداعه الأصيل: “كانت سبل العودة إلى العراق مقطوعة تماما، كنت حينها أعيش مأساة شخصية رهيبة، أصبح معها الرجوع إلى الوطن أشبه بالمستحيل، قلت لأطور نفسي، لأكن إنسانا آخر”. حينما قرأت الفصول الستة الأليمة من هذه السيرة الذاتية المضنية والجديدة في تأثيراتها وأسلوبها الماتع، عبر بخاطري قول سارتر “الجحيم والآخرون”، فنيازي الجميل والممتع نصا وروحا وفكرا ولغة موسيقية شاعرية، الذي سرقت طفولته، حينما نزل سيف الترحيل، والغربة القسرية عليه، وعلى مئات من مثقفي بلده.. الصور الطفولية الوادعة والمؤسية والجيرة الطيبة والأصدقاء والأسرة والمدرسة، وحلاوة أيام زمان، كل هذا احترق في عينيه لكن الرماد الذي خلّفه الحصار الفكري والاحتراق صار (طائر الفينيق)، انبعث في فيافي الغربة وصقيعها، ليسجل لنا هذا الغصن العربي الأصيل في النهاية، هذه السيمفونية الأدبية العذبة المغردة بجناحي الحب والأمل والشوق للرفاق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©