السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

انسدال الستارة السوداء

انسدال الستارة السوداء
12 يونيو 2013 20:08
ارتدى المشهد المسرحي العربي مؤخرا ثوب الحداد، وهو يتلقى نبأ رحيل أحد كبار رواد المسرح اللبناني ومؤسسيه في الستينيات والسبعينيات يعقوب الشدراوي (1934 ـ 2013)، الذي ترجّل عن خشبة المسرح عن عمر يناهز 79 عاما. بهدوء تام، ترك شيخ المسرحيين اللبنانيين الخشبة، وترجل عن حصان الكلمة، وسط الزحام في مشهد تراجيدي لا يخلو من التعب والسخط على حال فن المسرح في بلده، وهو الذي كان يرى على الدوام أن: “الحياة على المسرح تنتصر دائما على الموت”، فهل انتصر الشدراوي بموته بعد أن قدّم للثقافة والمسرح رؤيته المعاصرة والمبتكرة في مجالات فن الكتابة والإخراج؟ وبعد أن نجح في مراحل متقدمة من مساره الحافل، بالخروج من جلباب النمطية والتقليدية في فن التعبير المسرحي، ليحلّق في فضاءات تشخيصية أرحب في التشخيص والتجسيد، من حيث أسلوب وقالب التجريب، الذي انعكس في تركيبة معظم أعماله الأخيرة، ليظل واحدا من أهم من بصموا الذاكرة الثقافية اللبنانية بصدق إحساسه وتلقائيته النادرة. فقد كان الفقيد، من الفنانين العرب القلائل الذين أبانوا عن قدرة خاصة على التأقلم مع الأساليب والاتجاهات المسرحية المعاصرة، الأمر الذي مكّنه من العمل مع أجيال مختلفة من المبدعين حتى لحظة رحيله، التي شكّلت خسارة فادحة للمشهد الفني والثقافي العربي، وأسدلت الستار على المشهد الأخير في رحلته المتعبة والمضنية، رحلة تجفيف الدموع على المسرح الذي ولّى عهده، وهو القائل: “المسرح سيرك الحياة، تدخله ثم تغادره، لكن السيرك مستمر في الواقع وعلى الخشبة، يخضع للتحولات التي تفرضها تقاليد الحياة والمجتمع والسياسة”. خصوصية ونكهة كان مسرح يعقوب الشدراوي له خصوصيته ونكهته ولونه، من حيث قدرته على استيعاب معطيات العصر واللحظة الراهنة لبنانيا وعربيا، ولهذا جاءت معظم أعماله شفافة وطازجة، وملتصقة بقضايا الناس، ولهذا أيضا وصفه الكثيرون بأنه أحد صناع العصر الذهبي لمسرح بيروت، المسرح الذي نتحسر عليه جميعا اليوم، كما نتحسر على الإبداع المحترف، حينما يترجل وسط الزحمة، حيث الرحيل بهدوء وصمت تام. بدأ الشدراوي حياته الفنية في مطلع الستينيات كاتبا، فتمثلت أولى تجاربه بفصول هزلية ساخرة تحت عنوان “رح تفقع”، ثم ألحقها بنص من نوع الكباريه السياسي “الثأر في لبنان” وأخرجه باسم نصر، لكنه لم يكتف بالموهبة وحدها، فقرر الخروج من عباءة الكتابة إلى مجالات أوسع في عالم المسرح، كالتمثيل والاخراج فحصل على منحة للدراسة في الاتحاد السوفييتي عام 1969، ثم عاد إلى لبنان محمّلا بشهادة الماجستير، ليتبعها بشهادة الدكتوراه من الجامعة اللبنانية عام 1986 عن أطروحته “التراث في مسائل المعاصرة”. من هذا التاريخ بدأت رحلته الجديدة مع الإبداع على خشبة المسرح، ليقدّم عام 1970، أهم تجارب البدايات تحت عنوان “اعرب ما يلي”، وقدمت بنجاح جماهيري كبير على مسرح مهرجانات بعلبك، في إطار ثنائية الأدب والفن، حيث اتكأ في شغله لهذه المسرحية على جملة من النصوص الشعرية منها “الورد والقاموس” لمحمود درويش، و”العاصفة” لأنسي الحاج، من مجموعته “ماضي الأيام الماضية”، و”حزمة القصب” لأدونيس من مجموعته “المسرح والمرايا”، و”النصف الأول من اللوحة الخامسة من مسرحية حكاية فاسكو” للكاتب الفرنسي من أصل لبناني جورج شحادة، ومشهد من مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس. ويمكن اعتبار عام 1971، عام حظ الشدراوي، من حيث نجاحه في إخراج جملة من المسرحيات العالمية والعربية برؤيا معاصرة تسقط على الواقع اللبناني بصورة واضحة، متميزا أيضا إلى جانب الإخراج بإعداده للمسرحيات وتقديم مفهوم البعد الرابع في النصوص التي يقوم بإخراجها، من ذلك تقديمه لمسرحية “مذكرات مجنون” للروائي الروسي نيقولاي غوغول، وأيضا “سمكة السلّور” للاعلامي والمترجم والكاتب اللبناني إدوارد أمين البستاني (عمل في الصحافة الثقافية منذ عام 1955، وكتب مسرحية أخرى بعنوان “سمسم”)، وربما يكون أهم ماقدمه الشدراوي للمسرح في هذه الفترة إخراجه لمسرحية “المهرج” للكاتب السوري محمد الماغوط، ونصها أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية العربية، كونه يسقط على الفساد السياسي في الوطن العربي بأسلوبية المسرح داخل مسرح، وحقق إخراج “المهرج” للشدراوي شهرة ومكانة عظيمة في المشهد المسرحي العربي، فقد كانت علامة فارقة في مسيرته، وفي تاريخ المسرح اللبناني بوجه عام. ونستذكر ما كتبه الناقد والمسرحي فارس يواكيم، بعد عرضها الافتتاحي بقوله: “اليوم ولد المسرح اللبناني، فالشدراوي كاتب ومخرج كبير ومجدد وساخر بطريقة لا تؤذي، ولكنها تحفز للبحث في خبايا الواقع، لقد كانت المهرج بإخراجها الجميل، متفردة في شكلها وجرأتها، لقد عرف يعقوب كيف يقرأ النص بذكاء شديد، ويخرجه للناس في إطار كاريكاتوري ساخر محبب إلى القلب”. لقد كان فكر الشدراوي الابداعي متسقا مع فهمه للمسرح الذي اعتبره ملتقى كل الفنون، وأن المخرج فيه، يجب أن يكون صانع ألعاب وشخصيات ومواقف وفرجة، متذوقا لكل أشكال الفنون التعبيرية والبصرية المتطورة والموسيقى من الطراز الأول حتى يستطيع تقديم الجديد لجمهوره. التجريب على الكلاسيكيات ربما يكون أهم في تجربة الشدراوي الإخراجية، هو اهتمامه بالاشتغال على النصوص التي ينتقيها للتجسيد على خشبة المسرح، ضمن فكرية (الصياغة المسرحية) أو خاصية (نص العرض المسرحي)، وهو ما بدا واضحا في معالجته الدرامية لرواية “الأمير الأحمر” لمارون عبود، بعد أن حوّلها إلى مسرحية عام 1972، وبذات القيمة والتقنية حول رواية الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” إلى مسرحية تجريبية عام 1972، كما حوّل واقع مسرحية “الفرافير” التي كتبها الدكتور يوسف إدريس عام 1974، نحو الواقع اللبناني تحت عنوان “الطرطور”، وحققت المسرحية نجاحا ساحقا بسبب عمق إسقاطها السياسي والاجتماعي، ولجرأتها في طرح مفهوم الطبقية في إطار معاصر. ولم ينس الشدراوي في خضم نجاحاته الإخراجية، جذوره ككاتب مسرحي له رؤيته ومنهجه الفني فكتب في الفترة ما بين 73 و 1984 جملة من المسرحيات أهمها: ميخائيل نعيمة، جبران والقاعدة، نزهة ريفية غير مرخص لها، بلا لعب يا أولاد (يغمز من خلالها في قناة الطائفية والنزاعات الداخلية في لبنان)، العتب على البصر. لقد عكست هذه المسرحيات أسلوبية خاصة على مستوى اللغة والمفردة، وقيمة فن الإضحاك الأسود في المسرحية، فحدد بذلك هويته وشخصيته في المسرح، على أنّه كاتب ساخر، يصنع الضحك الأسود من المرارة، ليحقق بذلك هارمونية ما بين فن المسخرة (السخرية)، والإضحاك، ومن ذلك كانت أعماله قريبة ولصيقة من الجمهور الذي كان يتحتم عليه البحث في الجانب الفكري للعرض، بمعنى أدق كان الراحل فنانا مخلصا لمن يكتب لهم، يعرّي أمامهم واقعهم ويطرح قضاياهم وفق تكنيك مسرحي يتمتع بجماليات درامية، تدفعك على الدوام للبحث والتساؤل واتخاذ رد فعل نقدي مباشر، تجاه ما يطرحه هذا الفنان الطليعي دون سياسة رقابية، فكان بلا شك عميقا، وملتزما في نسج أعماله بالأفكار التي تخدم المجتمع والسياسة بروح انتقادية تبني ولا تهدم، فقد كانت للرجل مقارباته الخاصة في صناعة الفرجة ما بين دراما الفكر ودراما الصورة. ربما غفل الإعلام عن غير قصد، الاهتمام بتجربة الشدراوي، كممثل وبراعته في هذا الجانب، انعكست إيجابيا وتقنيا على إدارته للممثلين على خشبة المسرح، حيث أسهم في صقل مواهب عديد الممثلين والممثلات الذين شاركوا في مسرحيات ناجحة له مثل: رأس المملوك جابر، أبو علي الأسمراني، المارسيلياز العربي، يا إسكندرية بحرك عجايب. وكل هذه الأعمال الناجحة تشهد له بأنه كان صانعا لنجوم المسرح، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: حسن علاء الدين (شوشو الأب) الذي قدمه في مسرحية “زوجة الفران” لمارسيل بانيول عام 1975. مسيرة طويلة ربما تكون هذه شذرات بسيطة من مسيرة طويلة لفنان، أسهم بقوة في بناء الزمن الجميل للمسرح اللبناني، جنبا إلى جنب مع نخبة من أجيال مسرحية مختلفة جمعت: روجيه عساف، ريمون جبارة، نضال الأشقر، أنطوان كرباج، جلال خوري، عصام محفوظ، ميشال نبعة، مادونا غازي، رضا خوري، وآخرين أسهموا جميعا في قلب معادلة المسرح اللبناني، الذي يعيش اليوم إشكالياته، لكن المسرح يبقى طالما أن المحاولات الجادة فيه لا تتوقف، ولا تتعب، وربما بالنسبة للراحل الشدراوي أن لا يكون نزيف هذا المسرح مع مرضه الذي خذله سببا كافيا لانزواءه في آخر ايامه وابتعاده عن دائرة الضوء، بل وكما يعتقد الكثيرون أن (الخراب الفني) الذي أصاب هذا المسرح، كان كافيا لكي يتجرع آلامه في قريته النخلة، متحسرا على مشروعه النهضوي الطليعي الذي آمن به مع ثلة من رفاقه في السبعينيات، حتى باغته الموت وسرق منه أجمل أحلامه في المسرح وأسدل عليه ستارة سوداء قاتمة، لن تنفك الأجيال اللاحقة عن محاولات إزاحتها والكشف عما ورائها من إبداع إنساني حقيقي أصيل، كان يبحث من خلاله على الدوام عن عالم أكثر عدالة، عالم يقدّس الإنسان بكل أطيافه؟ لقد كتب كثيرون عن رحيل الشدراوي، وقد نعاه عديد ممن أحبّوه وآمنوا بمشروعه وخطابه المسرحي، وربما يكون أجمل من كتب عنه بعد رحيله الفنانة اللبنانية نضال الأشقر، حينما قالت: “تعرّفت إلى يعقوب الشدراوي حين كان في بداياته، يوم جاء من الشمال إلى بيروت. ارتاد مدرستي “مدرسة المسرح الحديث” لفترة، قبل أن يسافر إلى موسكو لدراسة المسرح. لكنّنا بقينا على تواصل. لدى عودته، حين كان ممنوعاً على ممثّلي مدرستنا المشاركة خارج إطار المدرسة، قمت باستثناء، وجعلت أعضاء المدرسة كلّها أي أنطوان كرباج، ورضا خوري، وريمون جبارة، يؤدون بطولة مسرحية يعقوب “أعرب ما يلي”. من جهتي، تولّيت عملية الإضاءة. لقد استقبلناه كرفيق كبير لدى عودته. بعد عودتي إلى لبنان، جاء ابنه ليتابع محترف المسرح الذي أدرته في الفريكة. أفكّر الآن بابنه وأتقدّم بتعازيّ الحارة. كان يعقوب رجلاً صادقاً مع نفسه وما يفعله، وكنت أحبّه كثيراً. حين كنت أعمل في المسرح في الستينيات والسبعينيات، لم يكن يعقوب هنا، بل في موسكو. وحين عاد إلى لبنان وبعد تقديم “أعرب ما يلي”، غادرت إلى فرنسا حيث بقيت لسنوات. كان يعقوب يحب اللغة، وفي الوقت عينه يحبّ الاشتغال على حضور الممثل على الخشبة. لا شك في أنّ ذلك يعود إلى تأثره بالمدرسة الروسية. كان ميالاً إلى الانزواء. لم يكن نهماً للاعتراف والشهرة والأضواء. أذكر يوم تكريمه بمبادرة من الأب مارون عطا الله في منطقة بكفيا قبل سنوات. أراد عطا الله تكريم كل روّاد الخشبة اللبنانية. وأنا قدّمت الاحتفال يومها. الكلّ كان موجوداً إلا يعقوب الذي قال للأب عطا الله: “لم أعمل منذ وقت طويل، وأحسّ أنّني ابتعدت عن المسرح”. كان تواضعه عظيماً على عكس ما نراه عند المسرحيين عادة، لقد اختار أن يبقى بعيدا عن الأضواء، فضّل أن يجلس في الظل، كي يراقبنا، ويراقب العالم من زاوية مختلفة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©