الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من مجزرة إلى مجزرة

12 يونيو 2012
في الجلسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، نسي المندوب السوري اسم القرية التي شهدت مجزرة إنسانية في اليوم نفسه: التفت إلى ورقة إلى يساره ثم لفظ الاسم "قنيبر". كانت وكالات الأنباء والفضائيات عممت الاسم الصحيح "القبير"، التي لم يسمح للمراقبين الدوليين بدخولها، بل استخدم قصف بأسلحة ثقيلة لردعهم. عندما دخلوها في اليوم التالي كانت القرية قد أخليت من القتلى والأحياء، وأخفيت معالم الجريمة، ولم يتسنَّ الوقت للقتلة كي يزيلوا كل الأشلاء، وخانتهم "رائحة اللحم المحترق". تلك الرائحة هي كل ما عثر عليه المراقبون. لم يعرفوا شيئاً عمن قضى في تلك المجزرة. لم يبق شاهد واحد. ذلك هو الأسلوب الجديد لـ"التطهير" الكلي الشامل. عوقب المراقبون لأنهم قالوا الحقيقة عن مجزرة الحولة. سيعاقبون في المرّات التالية. فهذا النهج العربي قد يكون اقتبس من نموذج حماة عام 1982، ليعود الآن إلى أصله الذي قد يكون النظام السوري استمده من جرائم عصابتي "الأرغون" و"الهاغاناه" الإسرائيليتين لتهجير الفلسطينيين قبل أربعة وستين عاماً. وفي ظل التهاون الدولي المستهجن لا عجب إذا استرشد النظام السوري بمذابح رواندا. إذ لم يبق بينه وبين اقتلاع جميع سكان حمص من مدينتهم العريقة سوى مسافة بضع مذابح لن يتردد في ارتكابها طالما أن روسيا والصين وإيران وبعض العراق ولبنان تشجعه وتريد بقاءه بأي ثمن، على رغم إدراكها وإدراكه أنه لن يستطيع البقاء. بين استحالة التدخل الخارجي واستحالة الحل السياسي الداخلي، لا يزال هذا النظام يعتقد أن لديه أملاً من خلال الحل الأمني الدموي. وليس أدلّ على ذلك من تحقق كل تحذيراته وتوقعاته. كان الشعب الأعزل يتظاهر ويُقتل وكان النظام يقول إنهم "عصابات مسلحة". وحين بدأت الانشقاقات العسكرية راح يتحدث عن "مجموعات إرهابية"، وما لبث العالم أن صدم بتفجيرات انتحارية، فكان لابد من الإشارة إلى تنظيم "القاعدة". كما أنه كرر التحذير من "إشعال المنطقة"، وتتعاظم المخاوف اليوم من العبث بأمن لبنان واستقراره، من انهيار الهدوء الهش في العراق، ومن إشعال الورقة الكردية في تركيا. هذا نظام يعرف كيف يدفع الآخرين إلى أبشع ما عندهم من خلال الدفع بأبشع ما عنده، لتبقى اللعبة الجهنمية عنده في الذهاب وفي الإياب. أسوأ ما حصل للشعب السوري وانتفاضته كان هذا التعامد، والتماهي، بين مصلحة النظام ومصالح روسيا والصين وإيران. هذه الدول الثلاث تستثمر الآن في جثة النظام في تصديها للقوى الغربية، وكأنها انتظرت اللحظة السورية لتشرع في حرب باردة جديدة. ويُفاجأ المتحاورون مع الروس والصينيين بأن تشددهم بلغ مرحلة التحجّر، فكل ما يقال عن احتمالات "تغيير في الموقف" يتجاهل أن ثمة تراكمات وصلت أخيراً إلى تصفية الحسابات. وكل من يعتقد أن الصين أقل تعنتاً من روسيا ليس إلا واهماً، وما عليه سوى أن يلقي نظرة أخرى إلى طبيعة النظامين، فلا الانتخابات استطاعت تغيير العقل الديكتاتوري في روسيا ولا الاقتصاد المزدهر في الصين عنى ازدهاراً للحريات. كلتاهما كانتا تحتاجان إلى نموذجي ليبيا وسوريا حاجتهما إلى بورما وكوريا الشمالية. لا شك أن بقاء النظام السوري حتى الآن وإطالته الأزمة أسديا لروسيا والصين وإيران بعض أغلى الخدمات. يظن الضحايا الذين يتساقطون يومياً أنهم يضحّون من أجل وطنهم، ولا يعرفون أن النظام يقتلهم ليطمئن داعميه. ويظن الضحايا أن الموقف "الأخلاقي" للدول الغربية قد ينقذ على الأقل، من بقوا بعدهم، لكنهم باتوا يعرفون أن التصريحات البكائية من مذبحة إلى مذبحة لم تصنع قراراً واحداً يعيد الاعتبار إلى العدالة الإنسانية، وأن كل الكلام عن "حماية المدنيين" زاد في تعريضهم للبطش والوحشية. فمن كرم الزيتون إلى بابا عمرو، إلى تفتناز وأتارب، إلى الحولة والحفة والقبير، لم يرَ النظام سوى فرص أخرى تتيح له مزيداً من القتل. على رغم كل شيء يدرك النظام أن دعم حماته الدوليين وتوسله العنف للبقاء لا يشكلان له الحل الذي يتمناه. ولذا اندفع إلى "التطهير المذهبي" رداً على تطوّر أداء معارضيه وتسليحهم. إنه يدفعهم الآن إلى مجاراته تطهيراً بتطهير، أي بمذابح طائفية متبادلة، والأرجح أنهم لن يقدموا عليها، لكنه سيواصل. فمنذ البداية خطط للمضي إلى حرب أهلية لا يزال معارضوه يرفضونها، لكنه يفرضها فرضاً، ولن يتردد في ارتكاب مذابح لتبدو أمام العالم، أنها صنيعتهم. عبدالوهاب بدرخان كاتب ومحلل سياسي - لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©