الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تدوين الشفاهيات...

تدوين الشفاهيات...
8 سبتمبر 2010 21:39
في كتابها الجديد الصادر عن دار الآداب اللبنانية “بنت نارنج الترنج” تحاول ساره الجروان استعادة المخزون الشعبي من الحكايا الشفاهية الإماراتية التي كانت تملأ بسحرها وخيالها ليالي الساهرين، دون أن تكون شهرزاد هي الوحيدة التي لا تسكت عن الكلام المباح، لأن هذه الوظيفة لم تكن حكرا على جنس الراوي، لكونها تحتاج إلى ذاكرة قادرة على الحفظ وشخصية تحسن أداء سردها في مجالس الليل العامرة. تنطلق الكاتبة في هذا العمل من رغبة في الحفاظ على هذا المورث الحكائي الثري الذي لعب دورا مهما في تشكيل بنية الفرد وتهيئته للاندماج في محيطه الاجتماعي، وكان يفتح أمام خياله عوالم من الدهشة والسحر والغرابة المثيرة، بغية تحقيق التواصل والاتصال بين الأجيال الراهنة وماضيها والذاكرة الشعبية الحكائية، بعد أن غزت العولمة حياتنا، وباتت تهدد تلك العلاقة بين الأجيال الجديدة وتراثها الحضاري والثقافي الذي تمثله (الحزاوي) أو (الخراريف) الجميلة. إعادة تدوين في مقدمتها تشير الجروان إلى أهداف مشروعها السردي التي تتمثل في رصد بعض ذلك المخزون من الحكايا الشعبية الإماراتية، والحصول عليها من مصادرها ومنابعها الحقيقية، قبل أن تندثر تلك الحكايا وتبهت معالمها في ذاكرة حفظتها من القدماء، مستعينة أيضا بمعينها الشخصي من تلك الحكايا التي عرفتها منذ طفولتها وظلت تسمعها سنوات عديدة، بعد أن وجدت فيها الحكمة والمثل. تعتمد الكاتبة في تقديمها لتلك الحكايا على أسلوب يتناول الحكاية كما جاءت باللغة المحلية مفردات وجملا، مع تصرف في طريقة تدوينها لكي تكتسب صيغة من السرد تتميز بالتشويق الذي يتناسب مع أهمية تلك الحكاية، واعتمادا على ذاكرتها الأولى في طفولتها المبكرة لأن بعض حفظة تلك الحكايا افتقدوا الأسلوب الشيق في سردها وتقديمها. أما في الجزء الثاني من العمل فسوف تقوم بتفصيح لغة الحكاية وتقيمها من خلال نسق أدبي شيق وحداثي، لكي يتمكن القارئ العربي من قراءتها وفهمها، بحيث يتم تعريف هذا القارئ بالتراث الحكائي الإماراتي الغني. يتضمن الجزء الأول من الكتاب النص السردي الشفاهي أثنتي عشرة حكاية أو حزاية كما جاء في العنوان حيث حملت كل حزاية عنوانا خاصا بها يشكل محورها الرئيس الذي تدور الحكاية/ الحزاية حوله. ومنذ البداية نلاحظ أن تلك الحكايات كما هي الحكاية الشفاهية العربية تبدأ غالبا بتيمة واحدة تشكل مدخلا للسرد أو لتهيئة المستمع، كما في الحكايات الثلاث الأولى في الكتاب. وإذا كانت الجروان لم تحاول رصد العناصر المشتركة بين تلك الحكايات سواء على مستوى المضمون أو السرد والشخصية والتحول الذي يطرأ على السرد والشخصية، فإنها فيما يبدو تركت للقارئ تلك المهمة، باعتبار أن القارئ هو المنتج الثاني لتلك الحكاية. في بنية الحكاية غالبا ما تبدأ الحكاية التي تحمل في عنوانها اسم الشخصية أو اسم المكان الذي ستجري فيه أحداث الحكاية، أو الحدث الرئيس بالتعريف بشخصية البطل أو المكان الذي ستجري فيه أحداث الحكاية أو زمانها عبر إشارات سريعة ومكثفة لأن جملة الاستهلال أو التقديم للحكاية يقتحم الحدث مباشرة دون الاهتمام بذكر تفاصيل الزمان أو المكان نظرا لطابع التخييل الغرائبي الذييجم عالم الحكاية، لاسيما أن تلك الحكاية إضافة إلى وظيفتها في الإمتاع والتشويق والإثارة تهدف إلى توصيل حكمة ما أو تقديم أمثولة أو موعظة حسنة، ما يدل على الوظيفة الاجتماعية التي تنهض بها تلك الحكايات الشفاهية. في الحكاية الأولى التي حملت عنوان مؤنس العذارى “رفيق الأنس في ليل الصبايا” تدور احداثها حول صبية كانت تسكن جارة للراوي المجهول في الحكاية، توفيت والدتها فتزوج والدها من امرأة كانت لا تحبها، فلم تجد عويشة سوى القمر مؤنسا لوحدتها في الليل فتأخذ بمناجاته. تسمع زوجة الأب كلامها فتسرع في نقله إلى والدها متهمة إياها بأن لها حبيبا تدخله عريشها وتظل تناجيه كل ليلة، مما دفع الوالد في الفجر إلى حملها على راحلة والسير بها بعيدا إلى مكان فيء وشجر وماء، وهناك تركها تنام من تعبها ثم تركها هناك وعاد فلما صحت لم تجد والدها وعلى الفور اتخذت من شجرة مكانا لإقامتها حتى عودة والدها، إلى أن يمر بالمكان أمير فيستريح مع رجاله ثم يتابعون مسيرهم، وفي الطريق يتذكر الأمير أنه قد نسي سيفه عند الشريعة، وعندما يعرض الرجال عليه العودة لإحضاره يرفض أن يقوم بذلك أحد غيره، وهناك يشاهدها جالسة على الشجرة، فيطلب منها النزول بعد أن يعطيها الأمان وعندما تنزل يحملها معه على فرسه، ويمضي بها نحو بلاده. وعندما تلح بالذهاب إلى بلاد أبوها يقرر السطان أن يرافقها زوجته وعياله برفقة الوزير الذي يغدر بهم في الطريق ويحاول الوصول إلى زوجة السلطان من خلال ذبح أولادها لكي تستسلم له، لكنها تتمسك بالإيمان إلى أن تصل إلى تلك البلاد وهناك تكشف عما حدث، فيتم قتل الوزير بينما يقوم الأب بطلاق زوجته والاعتذار من ابنته عما فعله بها. في مدلول الحكاية المدلول الذي تنطوي عليه الحكاية بوصفها مثالا على البنية الدلالية التي تقوم عليها الحكاية الشفاهية هو ضرورة تمسك المرأة بشرفها لأنه أغلى من كل شيء بالنسبة لها، وأن فعل الشر مهما طال الزمان سوف ينال صاحبه عاقبته التي تتناسب مع الفعل الذي قام به. في هذه القصص يجب أن ينتصر الخير والحق في نهاية الحكاية لكي تكون عبرة للناس، أو أن تتحقق الأمنيات بعد إزالته العقبات والموانع التي تعترض طريق ذلك. تعرض الحكاية للظلم الذي تمارسه زوجة الأب على الأبناء والمكائد التي تصنعها للإيقاع بهم، لكن الحقيقة في نهاية الحكاية لا بد أن تنجلي، وأن يدفع كل شخص ثمنا لما فعله جزاء أفعاله التي قام بها. تحاول هذه الحكايا إيصال رسالة تتعلق بحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم، محاولة أن تجعل الخير والحق ينتصران على الشر والرذيلة في نهاية الأمر مهما كانت قسوة الظروف والموانع. وما يلاحظ على بنية السرد أن ثمة حدثا طارئا يجب أن يحدث ويؤدي إلى تحول في بنية السرد مثل حادثة نسيان الأمير لسيفه لكي تأخذ الحكاية بعدا جديدا يقود إلى جلاء الحق وانتصاره على الشر لتنتهي الحكاية نهاية سعيدة. لا تختلف باقي قصص المجموعة عن هذه القصة من حيث المسار العام للحكاية وأحداثها والعنصر الحاسم الذي يقود إلى التحول في القصة مثل تميز الشخصية الرئيسة بالذكاء والدهاء مقابل الفقر الذي تمثله، أو القدرته على شفاء والد البنت من المرض بعد عجز الآخرين عن شفائه. كما يمكن أن يتحول فيها الإنسان إلى حيوان والعكس أيضا. كذلك هناك عالم الجن أو الغيلان الذي يختلط بعالم الإنس. وهناك الصعاب والمشاقات الكبيرة والسفر المضني باعتبارها عناصر تشويق وإثارة حتى يحقق بطل الحكاية مناه ويفوز بالفتاة التي يريد أن يتزوجها، خاصة وأن عملا مميزا ومثيرا يجب أن يقوم به حتى ينال رضا والداها الشيخ، ويتجاوز قضية فقره. والحقيقة إن من يقرأ هذه الحكايات سوف يلاحظ التشابه الكبير بين تلك الحكايات والحكايات الأخرى الشائعة في الأقطار العربية الأخرى، سواء من حيث بنية الحكاية وعناصرها وطبيعة المفارقات والأحداث التي يتكون منها السرد، أو الاسلوب المتبع في السرد، وعناصر التشويق والإثارة فيها، والأسباب التي يترتب عليها حدوث التحولات في مسار أحداث الحكاية، إلى جانب النهاية السعيدة التي يجب أن تنتهي إليها الحكاية، بعد المغامرة والمكابدة التي على بطل الحكاية أن يواجهها بشجاعة وصبر، والحكمة أو الهدف الذي تروم الحكاية إيصاله إلى المتلقي خدمة لمنظومة القيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية السائدة في المجتمع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©