السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كلام الضوء في الحجر

كلام الضوء في الحجر
24 يناير 2018 22:19
أحمد فرحات منذ أن تأسّست مدينة القدس قبل أكثر من أربعة آلاف عام على يد اليبوسيين، وهم فرع من الكنعانيين، والكنعانيون هم التسمية الأخرى للفينيقيين، الذين هم «العرب العماليق» في التاريخ، بحسب المؤرخ محمد بن جرير الطبري، ومعه لاحقاً المؤرخ وعالم الفيلولوجيا الفنلندي البروفسور يوسي آرو، الذي يتحدث عن نصوص أدبية وشعرية فينيقية يبوسيّة ضائعة اكتشف بعضاً منها الأب الفرنسي بارثولوميو في جزيرة مالطا في القرن السابع عشر... منذ أن تأسّست القدس على يد بُناتها اليبوسيين وهذه المدينة تشكّل رمزاً روحياً وإنسانيا وثقافياً لا نظير لمركّبه بين مدن العالم القديم والحديث. وقد تعزّز هذا الرمز بعدما تحوّلت المدينة إلى مكان مقدس للديانات السماوية الثلاث: اليهودية، المسيحية والإسلام.. وحمل معه هذا الرمز، على رغم ما تعرضت له المدينة من حروب وتدمير واحتلالات بغيضة، شعاراً ظلّ ثابتاً إلى يومنا هذا، ألا وهو شعار: «مدينة السلام». وليس مصادفة أن الشعار المذكور، صَاحَبَ ظهور مدينة يبوسة (القدس) منذ نشأتها الأولى على يد الملك اليبوسي الشهير «ملكي صادق»، فهو من سمّى المدينة «شاليم»، تيمناً باسم «إله السلام» عند الكنعانيين، الذين لم يكونوا قوم حروب في الأساس، وإن اضطروا لمحاربة بني إسرائيل، الذين جاؤوا من مصر، ودخلوا يبوسة محتلين في العام 1049 قبل الميلاد، لكنهم لم يتمكّنوا من طرد اليبوسيين منها، لأنهم، وعلى الرغم من رداءة الظروف التي فُرضت عليهم، تمسّكوا (أي اليبوسيين) بمدينتهم وأرضهم الواسعة المحيطة بها، وبذلوا دماء غزيرة لأجل ثباتهم فيها. وتشير التوراة، بخلاف ما يدّعي بنو إسرائيل لاحقاً من أنهم طردوا اليبوسيين من يبوسة أو القدس، إلى أن : «وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم» (التوراة – سفر القضاة – الإصحاح الأول 21 تاريخ الشام). وجلّ ما فعله الإسرائيليون في ما بعد، ونجحوا فيه، هو أنهم حرّفوا تسمية «شاليم»، أي مدينة السلام بالكنعانية، إلى تسمية «أورشليم» التي يتداولونها بالعبرية اليوم. شعراء السلالة اليبوسية إذن، السلام كان عنوان مدينة يبوسة (القدس) وهويتها مذ قامت. أكّد ذلك، بالإضافة إلى مؤسّسها الحاكم العادل «ملكي صادق» الملقب بـ«ملك السلام»، شعراء سلالة هذه المدينة ومحيطها، امتداداً إلى مدينة غادارا (أم قيس في الأردن اليوم)، التي ذكرتها الأناجيل بأرض الجدريين، ومعها مدينة أخرى اسمها جيراسا أو جرش حالياً. وعلى رأس المؤكّدين لمدينة يبوسة بأنها مدينة السلام والوئام بين البشر، يقف الشاعر الفينيقي ملياغر، وهو من مواليد غادارا سنة 140 قبل الميلاد. يقول: «أنا ابن سلالات يبوسة جدودي حضروا من هناك، من تلك الصحارى البعيدة وزرعوني هنا لأجل أن أزرع من ثمّ أولادي وبناتي ليتعمّر الأثر كلّه بزرعنا، ويعمّ السلام مع كل من يشاركنا الحياة هنا بلا عداوة وبمحبة متبادلة، لا يعتورها الخبث والتشكيك فالناس لا تتحارب لأنها منقسمة، بل تراها تنقسم لكي تتحارب وأجدادي قوم لا يحبّون الحروب، ويتأبّون دوماً شرورها لكنهم يجيدون الدفاع عن أنفسهم في حال فرضت عليهم الحروب ودائماً نشداناً للسلام الذي يؤوّل الحقيقة إلى طبيعة والطبيعة إلى سلام نفس للإنسان في كل زمان ومكان». هكذا إذاً، ملياغر هو شاعر مدينة السلام بامتياز، وشاعر الحب والفرح والسفر في كل أرض كنعان براً، وجزرها بحراً، فضلاً عن مدنها الساحلية، حيث يُؤثر عنه أنه عاش جلّ أيام حياته المنتجة، أدباً وشعراً، في مدينة صور اللبنانية. ومعروف عن صور وصيدا أنهما كانتا من أهم حواضر فينيقيا في التاريخ القديم، حيث منهما انطلقت الأبجدية والحضارة إلى اليونان، ومنه توزعت على العالم بأسره. ومن كثرة تعشقه للسلام، ودعوته العملية له، كان ملياغر يتحدث في زمنه عن العالم بأسره كبلد واحد للجميع، وعن مواطنة واحدة لا ازدواجية فيها، هي المواطنة العالمية. وحول بعض أهداف شعر ملياغر وأدبه، يقول البروفسور يوسي آرو «إن عناصر أدب هذا الشاعر الفينيقي»اليبوسي«الأصل، والهيللستيني المولد، هي من دون شك، موروثة عن أجداده اليبوسيين وحضارتهم وثقافتهم، التي كانوا يحرصون خلالها على بثّ تعاليمها السلمية في عقول وقلوب أبنائهم. ولا غرو بعد ذلك أن يحمل كل يبوسي رسالة سلام عريضة في أفقه المعرفي والحياتي، ويدعو لها على أرض الواقع، فتكون مثل حجر الكيمياء يتصل بالأشياء فيبدّل جواهرها ويعمّق من مضمونها الجديد». ثلاث لغات قديمة كان الشاعر ملياغر يجيد ثلاثاً من لغات عصره إجادة تامة وعميقة، هي: الفينيقية، الآرامية واليونانية (اللاتينية بنسختها الأولى)، وهذا إن دلّ على شيء، فعلى اتساع الثقافة المركبّة لهذا الشاعر وامتداده على ثقافات عصره الأوليّة وخصوصاً الفلسفية منها، ولاسيما الكلبيّة بينها، التي يقال إنه تربّى على مبادئها الاستثنائية النبيلة. ومن هنا كان امتداده الإنساني على الآخرين، واعتبارهم واحدا وإن تنوعت لغاتهم، حتى أنه دعا إلى الكتابة على شاهدة قبره (عاش ثمانين عاماً) الأبيات الشعرية الآتية: «أيها العابر من هنا/‏ لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى المُقدسين/‏ فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة/‏ لقد كان رجلاً من مدينة صور/‏ التي باركتها الآلهة/‏ ولكن مدينة غادارا المقدسة/‏ كانت مسقط رأسه/‏ ثم جاء إلى جزيرة كوس/‏ الجزيرة المباركة التي آوت شيخوخته/‏ فإذا كنت سورياً (آرامياً) ايها العابر/‏ فقل عند قبري: سلام، وإذا كنت فينيقياً قل: أودوني/‏ وإن كنت يونانياً قل: خايريه/‏ وتقبل منّي التحية/‏ التي يردّها طيفي إليك/‏ يجب الا تعجب أيها الغريب/‏ لأن العالم بأسره/‏ هو موطن الإنسانية كافة». تجدر الإشارة إلى أن شعر ملياغر كان موضع درس العديد من الباحثين والنقاد والدارسين الغربيين، وخصوصاً لجهة النزعة الكوزموبوليتية المبثوثة في أشعاره ودعوات الشاعر خلالها إلى السلم الخالص بين البشر، وبعض الدراسات كان يردّ ذلك إلى عمقه المقدسي الذي يتحدث عنه علناً وإضماراً في شعره، من خلال الكلام على السلالة اليبوسية (المقدسية لاحقاُ) التي يتحدّر منها. ومن هذه الدراسات نذكر رسالة دكتوراه للباحث الفرنسي موريس أوفريه تحت عنوان: «ملياغر ابن غادارا» في جامعة باريس في العام 1894. وقد صدرت في ما بعد في كتاب تناوله الإعلام الأدبي الفرنسي بشغف في ذلك الزمن، ولاسيما عبر صحيفة «غلوب» المعروفة جداً في الأوساط الأدبية الباريسية وقتها. كما ترجم الكاتب الفرنسي بيار لويس أشعاراً لملياغر إلى اللغة الفرنسية، قرأها في ما بعد، وأعجب بها الناقد الفرنسي الكلاسيكي سانت بوف. والناقد بوف، كان صديقاً مقرباً جداً من الشاعر والروائي الفرنسي الكبير فيكتور هيغو، ويقال إنه دفع بهيغو ليقرأ بعض أشعار ملياغر، هذا الشاعر المشرقي اليبوسي الذي كان يتحدث عن مواطنة عالمية منذ قرون طويلة، ووعد هيغو الناقد سانت بوف بقراءة وتقييم كل ما يرده من اشعار مترجمة خاصة بالشاعر ملياغر. فيلوديموس الغاداري اليبوسي هو أيضا شاعر من بلدة غادارا، ومن أصول يبوسية (مقدسية) غائرة وتليدة، تجلياتها حاضرة ولاشك، في شعره وشخصيته وحكمه على الأمور. تأثر فيلوديموس في شعره بالفلسفة الأبيقورية، التي درسها على يدي الفيلسوف زينون الصيداني (نسبة إلى مدينة صيدا اللبنانية). وثقافته الفلسفية العميقة قادته إلى أن يقطع البحر إلى روما ليستزيد من العلم، وليعلّم هناك الفلسفة الأبيقورية التي تعمّق بها ولدرجة فاق فيها استاذه زينون. ولقد تعرّف في روما إلى القائد والسياسي المتسامح كالبورنيوس بيزون، حيث أهداه كتابه «الملك الصالح حسب الشاعر هوميروس»، فقدّم له بيزون في المقابل منزله في ضاحية هيركولانوم، كي يكون مقرا له ولمزاولة عمله في التدريس. وبالفعل قام فيلوديموس بافتتاح مدرسة لتعليم الفلسفة الأبيقورية، وكان يعاونه في التدريس زميل له يدعى سيرون، متحدّر هو الآخر من أصول يبوسية (مقدسية) مشرقية. ولقد زار الخطيب الروماني الشهير شيشرون المدرسة، واستمع جيداً إلى بعض تعاليم الشاعر فيلوديموس، وتأثر بها، واعتبره الأكثر علماً في عصره، والأكثر تأثيراً عليه كخطيب. والفلسفة الأبيقورية التي كان أطلقها في الأساس الفيلسوف اليوناني أبيقور (340 ق. م. – 270 ق. م.) على قاعدة أنّ الخير العام للبشر تجسّده اللذة، وأن الشرّ الأقصى تجسّده الآلام والتضحيات، ولكن هذا لا يعني، في المقابل، الدفع بالإنسان ليركّز على الشهوات والملذات الحسية، بل على العكس، إن تعاليم الأبيقورية الحقّة تحضّ الفرد على ممارسة الزهد والفضيلة وتحويل اللذة إلى أمر نافع وسام، وجعل الإنسان حراً من شهواته المادية المباشرة ما أمكن. ومن هذه المعادلة الأبيقورية، انطلقت شعرية فيلوديموس، وراح يستعيد الأجواء الروحية والسلمية العاقلة للجسد، تلك التي أورثته إياها سلالته اليبوسية أو المقدسية: «محبّة الآخر قوة/‏ شجرة دائمة الإخضرار/‏ يتسع ظلّها للجميع/‏ ويتحوّل إلى نور قدسي/‏ دائماً يأتي من بلاد الشمس/‏ بلادي التي هي الشمس على الشمس/‏ يا أهلي في غادارا/‏ وفي أبعد نقطة من غادار/‏ وسائر أمداء يبوسة/‏ يا أهلي اليبوسيين جميعاً/‏ تحية منّي إليكم وألف تحية/‏ إلى قوة حكمتكم التي تأخذ الأمور/‏ دائماً إلى حيث الهدوء والسلام/‏ أوّاه ما أصعب حراثة درب الوصول إلى السلام/‏ يا أهلي اليبوسيين/‏ فيضكم طفا على الآلهة كلها/‏ على التكوين كله/‏ فيضكم بالغ البساطة للذي يريد أن يكون بسيطاً وحكيماً/‏ وبالغ التعقيد للذي يريد أن يكرّر ما لديه من أسقام/‏ يا اهلي/‏ يا أهل الفصل والعدل/‏ تنهال عليّ فضائلكم بالسر والعلن/‏ تغمرني حتى أصير جزءاً منها/‏ تغمرني حتى أتماهى بها ومعها/‏ في ما تتماهى هي به باستمرار/‏ يا أهلي يا أهل الفصل والعدل/‏ أراكم دوماً بقلب مصوّر من ذكاء/‏ ألا لتعمّ حكمتكم ذات السهام المثلثة/‏ عليّ وعلى الجميع/‏ من أحياء وأموات/‏ عرفتهم مدينتنا العظيمة يبوسة/‏هذي القطعة التي أهدتها السماء للأرض/‏ يا أهلي يا أهل الفصل والعدل/‏ أنتم كالبحر الكلّي تعطون من يشاء/‏ ومن لا يشاء في آن معاً/‏ ألا ليعمّ سلامكم الأبيض/‏ الذي هو غريزة مركوزة في الطباع/‏ وفي عموم فردوس يبوسة/‏ ألا ليعمّ سلامكم، الذي لا يباد بالسواد». ومن أشعار فيلوديموس اليبوسي الغاداري هذه القصيدة التي تحكي شجر يبوسة (القدس) ونخلها، كرمتها وزيتونها الدهري العتيق مثلها: «أيها الأخضر الكثيف في يبوسة/‏ أيها الذي يلاحقني بجماله وطعمه إلى ما بعد البحار/‏ تحييني ثمارك أيها الأخضر/‏ وزيتك يشعل فيّ البقاء الأطول في الدنيا/‏ والبقاء الأبعد في ما بعد الموت/‏ يلهب الأبدية بأبدية أعذب وأغزر منها/‏ رطب نخلك يحفظ فيّ عمل العقل والقلب/‏ وعناقيد كرمتك تتحدى بسكّرها كل خمول سينتابني/‏ وكل ضعف وكل معان مستذلة ومنهوكة/‏ أيها الأخضر، كفاك تحدياً لي كي أعود إليك/‏ كفاك تحدّياً لنفسك في مرآة نفسي/‏ أيها الأخضر الكثيف في يبوسة/‏ لا شيء يغريني في هذه الأرض غيرك/‏ ولا شيء يعيد ولادتي من جديد غيركً/‏ أصعب شيء أن أعرّفك للآخرين/‏ لا.. لا.. لا أريد أن أعرّفك بالآخرين/‏ على الآخرين أن يمارسوا فن التعرف إليك/‏ ودائما على طريقتهم/‏ التي تتيح لهم فن التقاط أعماقك/‏ أيها الأخضر الكثيف في يبوسة/‏ لا يجرؤ أحد على تنصيب قطبية مضادة لك/‏ حتى وإن توهّم ذلك/‏ فهو سيسقط سراعاً في شرّ أعماله». هاتان القصيدتان اللتان أوردناهما في الأخير، هما من خارج الأربعة وثلاثين قصيدة من نوع الأبيجرامة الشعرية الخاصة بالشاعر فيلوديموس، الموجودة بكاملها في «الإتنولوجيا البالاتنية». وقد أهداهما المستعرب الفنلندي د. يوسي آرو للشاعر والروائي اللبناني سحبان مروه في أثناء زيارته الأخيرة له للبنان في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. والشاعر مروة في المناسبة كان زميلاً للبروفسور آرو في جامعة هلسنكي، وهو المترجم العربي الأهمّ لملحمة الكاليفالا الفنلندية إلى اللغة العربية، والتي وضع تصديراً لها بالعربية البروفسور آرو نفسه، مشيداً بسحبان مروة «كأهم طالب وباحث عربي تضلّع سريعاً من اللغة الفنلندية وأتقنها، قراءة وكتابة، كواحد من كبار أدبائها وشعرائها المميزين، وذلك منذ القرن السادس عشر، وهو عمر استحداث قسم الدراسات الشرقية والعربية في جامعة هلسنكي في فنلندا». ومن المفيد الإشارة إلى أن الشاعر فيلوديموس الغاداري اليبوسي (المقدسي بلغة اليوم) كان قد وضع كتاباً في الشعر سمّاه: «في القصائد» ويتألف من خمسة أجزاء، يبحث خلالها في نظرية الشعر عند الهيلليستينيين، وخصوصاً بعد نظريتي أفلاطون وأرسطو في هذا المضمار. وقد اتبع القواعد التي وضعها للقصائد أغلب الشعراء الرومان الذين جاؤوا بعده مثل بروبرسيوس وفيرجيل وهوراس، وبخاصة الكتاب الشهير الذي ألفّه الأخير تحت عنوان: «فن الشعر». هذا من باب التنظير الشعري. أما من حيث كتابة الشعر، فإن أغلب القصائد التي سطّرها فيلوديموس، كانت على غرار القصائد التي كتبها او سطّرها ابن بلدته غادارا وابن حاضرته الكبرى: يبوسة (القدس اليوم)، الشاعر ملياغر أو ملياغروس كما يسميه الأغارقة. محمود درويش المشدود إلى ملياغر ربما كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش، هو الشاعر العربي الوحيد بين أقرانه من شعراء الحداثة العربية الذي طوّر تجربته الشعرية متخفّفاً من بلاغات الخطاب الشعري الحداثوي الذي ما زال يتخبّط فيه من تبقى من شعراء الحداثة. الدرويش كان يمعن في تطوير تجربته الشعرية على حساب جماهيريته الشعرية، والتي كانت لا تطرب لمحمود الجديد، وإنما تحنّ إلى محمود الشعاري والمباشر القديم من قبيل: «سجل انا عربي».. مثالاً لا حصراً. وقد انشقّ محمود درويش عن تجربة شعرية جديدة في مسار تجربته الشعرية الأخيرة، اعتبرها، شخصياً، الأهمّ والأكثر رياديّة وتجاوزاً إبداعياً، ليس على مستوى تجربته الشعرية فحسب، وإنما على مستوى تجارب أقرانه من شعراء الحداثة العرب، وحتى غير العرب من مجايليه في العالم. وقد استفاد الدرويش في انقلاباته الشعرية المتجدّدة هذه من شعراء البحر المتوسط الأوروبيين المترجمين إلى العربية: أونغاريتي، كوازيمودو، فاسكو بوبا، كفافي وحتى لوركا.. مثالاً لا حصراً. وتلك تجارب وضعته أمام محك «سرد» الأمور الشعرية بشفافية ساحرة، ذهبية، مباشرة ومتناوبة، أخذت قصائده معها تنحو منحى الخفّة المعمّقة، وكلمات تلكم القصائد تطير وتفرّ ببياضها في الأعالي البعيدة والمتوسطة والقريبة، متماسكة على رغم تحررها من كل افتراض أسلوبي. ذات يوم، وعندما قرأ محمود درويش قصائد بترجمة لي عن الإنجليزية خاصة بالشاعر اليبوسي الفينيقي ملياغر، «جُنّ جنونه» كما صرّح (في حديث إذاعي كنت أجريته معه في بيروت) وأردف: «ملياغر هذا الشاعر الفلسطيني الكنعاني العتيق وغيره من شعراء كنعانيين نقلت أنت لهم قصائد إلى العربية، جعلوني أضمّهم تلقائياً إلى شعراء حضارة البحر المتوسط، التي هي حضارتنا العربية أيضاً، مستفيداً من أمدائهم الشعرية على نحو انقلابي وعلى طريقتي الخاصة، والتي تنعكس على ما أكتبه من قصائد هذه الأيام (منتصف الثمانينيات)». ولما سألته عن طريقته الخاصة في الاستفادة من الشعراء المتوسطيين، أجابني على الفور، وبذكاء متجاوز وشبه احتجاجي: «هذا السؤال ليس لك يا أحمد فرحات.. ولن أجيبك عنه لأنك تعرف الإجابة بالتأكيد». مقطع القول، كان لزاماً عليّ أن أتقدم بهذه السطور عن الشاعر محمود درويش وذلك تمهيداً للاستشهاد بقصيدته الرائعة عن القدس، والتي تنتمي إلى مرحلة شعريته الجديدة، وإن في بواكيرها الأولى. يقول صديقي الشاعر الراحل: «في القدس، أعني داخل السور القديم/‏ أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى/‏ تصوّبني، فإن الأنبياء هنا يقتسمون/‏ تاريخ المقدس.. يصعدون إلى السماء/‏ ويرجعون أقلً إحباطاً وحزناً، فالمحبة/‏ والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة/‏ كنت أمشي فوق منحدر وأهجس: كيف/‏ يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟/‏ أمِن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟/‏ أسير في نومي، أحمّلق في منامي.. لا/‏ أرى أحداً أمامي/‏ كل هذا الضوء لي، أمشي، أخفّ، أطير/‏ ثم أصير غيري في التجلّي، تنبت/‏ الكلمات كالأعشاب من فم أشعيا النبوي»إن لم تؤمنوا لن تأمنوا«/‏ أمشي كأني واحد غيري وجرحي وردة/‏ بيضاء إنجيلية ويداي مثل حمامتين/‏ على الصليب تحلّقان وتحملان الأرض/‏ لا أمشي، أطير، أصير غيري في التجلّي/‏ لا مكان ولا زمان، فمن أنا؟/‏ أنا لا أنا في حضرة المعراج/‏ لكني أفكر وحده كان النبي محمد/‏ يتكلم العربية الفصحى»وماذا بعد؟«/‏ ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية:/‏ هو انت ثانية؟! ألم أقتلك؟!/‏ قلت قتلتني.. ونسيت مثلك أن أموت». نعم، ثمة مشتركات بين محمود درويش وأولئك الشعراء المقدسيّون القدامى، ومعهم أولئك الشعراء المتوسطيّون المعاصرون والحداثيون الحديثون أيضاً. والمقارنة هنا تتخذ شكل دقة المعاناة في التناول، وبالتأكيد شكل التخفف من الخطاب الثقيل واستبداله بخطاب يفرّ ويطير وكأنه لا خطاب.. كأنه الضوء يوقّع نفسه على سجيّته. وربما يجمع - أي الضوء - الجميع وهو يلمع في ذاكرتنا باستمرار.. تماماً كما تلمع مدينة القدس، هذه الأيقونة التي تظلّ تقول للزمن أنا هنا، عبر هويتها شديدة التميّز، والتي تؤلفها باستمرار خصائص تاريخية ودينية ووجدانية ونفسية وشعرية راقية أيضاً، فالهوية.. هوية القدس هنا، لا تتكوّن نتيجة الرغبة، ولكن نتيجة للعيش في ظلّ وضع أنشأه التاريخ، وعمّدته الثقافة الروحية، وغير الروحية، في تشابك كثيف يستعصي على التفكك والتحلل. نعم، إن هوية القدس العتيقة على عتاقتها، ليست شيئاً ساكناً، كونها نتاج حركة وتعاقب دائمين، ولكن بصلابة شخصية ماثلة في المكان والزمان.. ولذلك نراها تتجدّد كما تتجدّد اللغة والمواريث كلها... وكانت القدس ولا تزال عروبيّة المنشأ والهوية، منذ ولادتها وحتى اللحظة.. وستظل كذلك دائماً. سلام يبوسي حول بعض أهداف شعر ملياغر وأدبه، يقول البروفيسور يوسي آرو «إن عناصر أدب هذا الشاعر الفينيقي «اليبوسي» الأصل، والهيللستيني المولد، هي من دون شك، موروثة عن أجداده اليبوسيين وحضارتهم وثقافتهم، التي كانوا يحرصون خلالها على بثّ تعاليمها السلمية في عقول وقلوب أبنائهم. ولا غرو بعد ذلك أن يحمل كل يبوسي رسالة سلام عريضة في أفقه المعرفي والحياتي، ويدعو لها على أرض الواقع، فتكون مثل حجر الكيمياء يتصل بالأشياء فيبدّل جواهرها ويعمّق من مضمونها الجديد». درويش المشدود إلى ملياغر عندما قرأ محمود درويش قصائد بترجمة لي عن «الإنجليزية» خاصة بالشاعر اليبوسي الفينيقي ملياغر، «جُنّ جنونه» كما صرّح (في حديث إذاعي كنت أجريته معه في بيروت) وأردف: «ملياغر هذا الشاعر الفلسطيني الكنعاني العتيق، وغيره من شعراء كنعانيين نقلت أنت لهم قصائد إلى العربية، جعلوني أضمّهم تلقائياً إلى شعراء حضارة البحر المتوسط، التي هي حضارتنا العربية أيضاً، مستفيداً من أمدائهم الشعرية على نحو انقلابي وعلى طريقتي الخاصة». مدينة السلام ليس مصادفة أن اسم «مدينة السلام» صَاحَبَ ظهور مدينة يبوسة (القدس) منذ نشأتها الأولى على يد الملك اليبوسي الشهير «ملكي صادق»، فهو من سمّى المدينة «ساليم وفي رواية شاليم»، تيمناً باسم «إله السلام» عند الكنعانيين، الذين لم يكونوا قوم حروب في الأساس، وإن اضطروا لمحاربة بني إسرائيل، الذين جاؤوا من مصر، ودخلوا يبوسة محتلين في العام 1049 قبل الميلاد، لكنهم لم يتمكّنوا من طرد اليبوسيين منها، لأن اليبوسيين، وعلى الرغم من رداءة الظروف التي فُرضت عليهم، تمسّكوا بمدينتهم وأرضهم الواسعة المحيطة بها، وبذلوا دماء غزيرة لأجل ثباتهم فيها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©