السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حِمْلُ القصيدة الصَّعب

حِمْلُ القصيدة الصَّعب
24 يناير 2018 22:22
محمود قرني 1 إذا كان ثمة لعنة يجب أن يطلقها الشعر فلابد أن تكون ضد الحرب. ليس بسب تعبيراتها الغشوم فحسب، لكن لأنها محاولة خبيثة لاستخدام الشعر ضد نفسه. فالشعر فعل تحرير والحرب فعل استعمار، الشعر هو الآخر والحرب استئصال لهذا الآخر، الشعر جوهر الحقيقة والحرب أضاليلها. فهل كان «أدونيس» على صواب عندما اتهم شعر المقاومة بأنه ضد الشعر، لأنه شعر محافظ بطبيعته ومن ثم فهو يستخدم أدوات غير ثورية لصناعة الثورة؟ الأمر لاشك يمثل استلاباً ذهنياً حارقاً، لاسيما إذا كنا أمام خيارات ضيقة خرجت من رحم ثقافة محافظة كانت مضطرة إلى تديين صراعاتها حتى تجيش حولها ملايين البشر. هذا ما اضطر الطليعيون إلى قبوله في السابق وقبوله في الحاضر وربما في المستقبل أيضاً. لذلك ستتغاضى الحكومات عن الصراخ الذي تطلقه نخبتها في آذان ما يتجاوز ملياري مسلم يتم تجييشهم في وجه مرويات العهد القديم وضلالات الصهيونية وبكائها حول صخرة الأقصى وحول الهيكل المحطم، بحثاً عن «قدسهم» المزعومة. وهنا فقط، ستتبدى مقادير الزيف التي تنطوي عليها لعبة اختلاق التاريخ المعروفة في أدبيات المحافظين الجدد بـ «ما بعد التاريخ»، لاسيما عندما يوضع بيت من الشعر كتبه شاعر مسلم قبل أكثر من عشرة قرون يدافع فيه عن عروبة مدينة القدس في مواجهة «فقمة» صهيونية مختلقة لم تبلغ بعد فطامها اسمها «إسرائيل». وهنا أيضاً سنعرف أن الحكمة السيئة هي التي سوف تسود، فقط لأنها حكمة الكبار حسبما يؤكد آدم سميث. ستبدو إسرائيل تعبيراً مبتسراً ضمن بيت من الشعر كتبه «ابن المجاور» عن ضياع القدس على أيدي الصليبيين، حيث يقول متحسراً: أُسَعِّرُ نار وجْدِكِ كلما خبت/‏ بادِّكار يبعث الحسرات. مفارقة التاريخ هنا أن هذا البيت أكبر من دولة إسرائيل بأكثر من عشرة قرون. إن غياب المناعة التاريخية عن البنى الاجتماعية لذلك الكيان الاستئصالي يأتي على رأس الأسباب التي تدفعه للتعامل بعدائية مقززة مع الكتل الحضارية القديمة في العالم، وهي كُتَل كانت وستظل تمثل إشكالية كبرى أمام تلك الكتل المستحدثة التي تمتلك المال والقوة لكن ليس بإمكانها أن تشتري لنفسها تاريخاً. وإذا كانت القيمة الحضارية للتاريخ الإنساني، تعني تشكل منظومة من القيم المعرفية التي تعمل ضد الهمجية والبربرية، فإن ازدواجية المقولات التي تروج لها أدبيات ما بعد الحداثة تبدو مفارقة حد المأساة، لأن المقولات البراقة نفسها تظل حاملة لنقائضها، حتى لو أثار ذلك دهشة الملايين في عالمنا. لذلك لا يمكن قراءة مواقف القوى الكبرى في العالم من قضية فلسطين برمتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلا باعتبارها حديقة خلفية لفرض مشاريع الاستشراق الجديد الذي يستكمل أجندته بتعضيد الصراع الحضاري على تلك الأسس العقائدية التي انحطت وسائلها بشكل لم يشهد له التاريخ مثالًا. فما الذي سيفعله الشعر أمام كل هذه الضلالات؟!! 2 ضمن الأساطير التي تطلقها الصهيونية ضد الهلع من التاريخ يقول الجنرال (موشيه دايان): «إن قصيدة يكتبها شاعر مقاوم تعادل عنده عشرين فدائياً». ولا يستطيع المرء أن يتبين موقعاً للخوف في قلب جنرال كهذا من قصيدة شعرية، إلا إذا كان يتعامل مع الشعر باعتباره قيمة تعبوية حسب المصطلح العسكري. وربما هذا ما أدى بالدولة العبرية، في النهاية، إلى أن تعتقل تقريباً كل شعراء فلسطين. فقد تم منع محمود درويش من قول الشعر وهو في المدرسة الابتدائية، كما تم منع عبد الرحيم محمود بذات الطريقة وتم سجنه لأكثر من خمس مرات متتالية، وحدث الأمر نفسه وإن بصور مختلفة مع توفيق زياد، سميح القاسم، وفدوى طوقان. وربما تظل أعلى تعبيرات هذا العسف مجسدة في اغتيال الصهيونية لغسان كنفاني الذي عوقب قلمه الأعزل بعدة زخَّات من الرصاص. وما لا يدركه الجنرال دايان أن النص المقاوم لم يكن سلاحاً فحسب، بل هو سياج حول الهوية المجرحة المهددة بالزوال في مواجهة قوة استئصالية كان قَسَمُهَا ولازال مقتطع من نص المزمور 137/‏ 5/‏ 6: «إن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني». الشاعر المقاوم هنا ليس شرطاً أن يكون حكيماً في السياسة، يكفيه أن انتماءاته ليست حزبية، وحسبما يقول «ستيفن سبندر» يظل الشاعر منتمياً فقط لحزب الحياة. من هنا تظل قضية الشاعر أكبر من مواقفه العقائدية أو الأيديولوجية التي حصره فيها النقد وحاول الجمهور استدراجه إليها لتزكية نزاعات تقلص من قيمة قضيته المركزية. ولاشك أنه بين أنبل ما فعله الشعر المقاوم في ثقافتنا أنه لم يقع في أخطاء أخلاقية تنبذ اليهودية كديانة سماوية، بل انصرف موقفه إلى التنديد بالصهيونية كحركة استئصالية من واقع الأدبيات والممارسة. في المقابل، كان أخطر ما فعله شعر المقاومة أنه نجح في خلق أسطورة مكانه المستلب لاسيما في معنى ارتباطها بالزمن، فالمكان الذي استحال إلى أسطورة حقيقية في أذهان العامة، وفي أدبياتها الرفيعة وكذلك في أدبياتها الشعبية، أصبح يمثل زمناً دائرياً يستعيد نفسه وفجائعه مع كل محنة وكل ألم جديد. غير أن الزمن الشعري ليس هو الزمن الفيزيائي الذي يحسب بالأيام والشهور، لكنه يظل زمناً ذاتياً، لذلك فهو في كل مرة يظل قادراً على استنهاض قراءة جديدة لتاريخ الألم. من هنا تتجدد طاقة الحضور للشعر والشاعر مع كل حدث جديد. وعلينا أن نتفق هنا أن التاريخ ليس امتيازاً شعرياً إلا بقدر كونه معززاً لسلطة الهدم الكلي لكل سلطة غشوم ثم إعادة بنائها من جديد وفق قوانين الجمال وليس وفق قوة السلاح. وسيظل الشرق كله مندهشاً أمام النفور الشديد من المفهوم التاريخي والأسطوري للمكان في المقولات المركزية لما بعد الحداثة، بدعوى أن الرموز المكانية رموز محلية بطبيعتها، ومن ثم تظل مغلقة على جماعات بشرية محدودة لذلك فهي تبدو، في هذا النظر، ضد مفهوم إنسانية النص الشعري. هذه التلفيقية لم تجد صدى من أي نوع سوى في جيوب محدودة في شعريتنا العربية. فارتباط الشعر تاريخيا بنمط ما من المعرفة يجعل من المكان أسطورة خاصة، بعكس الشعر الصهيوني المختلق الذي يعيش فيزيقيا ضمن جغرافيا، بينما تستلبه ذهنياً جغرافيا أخرى، وفي هذا الاستلاب ما يفسر النزوع الغربي في الشعر الإسرائيلي بالجملة، عكس ما يتبدى في النص العربي لاسيما في النص المقاوم. وإذا كان الجنرال دايان قد نجح في لحظة ما بحصار الشعر المقاوم وتلفيق عشرات الأساطير التي ادعتها تقارير الآثاريين الغربيين، فمن المؤكد أنه ليس بإمكانه اختلاق مكان يسبق تاريخيا تلك الأساطير، فالمكان بطبيعة الحال سابق على أساطيره، وهذا هو المعنى الأخطر الذي عززه شعر المقاومة. 3 من الحكايات التي يرويها المارشال «مونتغمري» في كتابه تاريخ الحروب «أنه عندما كان يشرح لمجموعة من الضباط أهمية المعرفة المنتظمة أو الأكاديمية بلغة عصرنا، قال له بعض الضباط إن خبرة الميدان كافية للتعلم، فما كان منه إلا ساق إليهم مقولة طريفة من أدبيات فردريك الأول يقول فيها: كان لدي زوج من البغال اشتركا معي في أكثر من أربعين معركة ومع ذلك وبعد انتهاء كل تلك المعارك مازالا بغلين». والمعنى هنا، ومن دون قصد للتجريح رغم فداحة المثال، أن شعرنا المقاوم، الذي التصق تحديداً بتيار الإسلام السياسي لم يتعلم من ماضيه شيئاً. بعضه عن قصد وبعضه عن غير قصد. وقد تبع هذا التيار، بكل أسف، كثرة من شعرائنا الموهوبين، الذين ربطوا أيضا قضية فلسطين بعامة والقدس على نحو خاص بالموقف العقائدي. لذلك سنجدهم يتعاملون مع الشعر باعتباره أداة سياسية وظيفتها صناعة الحشد. والأمر ينتهي غالباً بأن تتوجه هذه الحشود لإدانة السلطات المحلية دون أن تتوجه قدم واحدة نحو العدو، وهو ما رأيناه في أكاذيب تنظيم «الإخوان الإرهابي» الذي كان يطلق الآلاف من رجاله في شوارع مصر هاتفين: «للقدس رايحين شهداء بالملايين»!!. لكن شيئا من ذلك لم يحدث عندما توسدوا منصة الحكم. سيظل هذا النوع من الشعر محافظ بطبعه، منبري يعتمد لغة تداولية غير قابلة للتأويل، تقليدي لأنه يعزز نموذجاً جمالياً مستقراً لا مكان فيه للمغامرة، لذلك فهو شعر يموت بمرور مناسبته. من هنا فإن الرسالة هنا ليست موجهة لهؤلاء الشعراء لأنهم في الحقيقة دونها. لكنها موجهة بالأساس إلى الشعراء الذين يؤمنون بضرورة الشعر كفعل تحرير، وهؤلاء غالبا لا يرون أن هناك شعراً مقاوماً وشعراً غير مقاوم، إنما يوجد شعر فحسب. ولعل الشاعر محمود درويش كان يمثل أعلى درجات الوعي بمحنة هذا «الحب القاسي» كما سماها، حيث كان مطالبا، أمام الحشود، بأن يبدو استجابة دائمة لشهواتهم، وهذا كان يعني خضوعه لكل شروط الذائقة المستقرة. لكن يظل درويش نموذجاً فريداً وغير قابل للتكرار في الشعرية العربية. ربما هذا الوعي المتقدم هو الذي كان يجب أن يتنامى لدى الشعراء الجدد عبر طرح قضيتهم الجمالية بعيداً عن سلطة النصوص التي تحولت إلى نصوص بطريركية محافظة. وأعتقد، كما يعتقد غيري، أن هؤلاء الشعراء لازالوا يمثلون جزءاً من التكوينات القومية التي ارتبطت بالخطاب الوطني التحرري فظلت مرتهنة لمنبرية أفقدت الشعر قدرته على التجدد. ولعل جابر عصفور أصاب، بشكل ما، عندما أطلق على أمل دنقل «شاعر الرفض» باعتبار الرفض هنا يظل واحداً من صور المقاومة، وهي مرحلة يطلق عليها الناقد والشاعر الانجليزي «ستيفن سبندر» مرحلة «الذاتيات الكمية» التي تكون فيها ذات الشاعر اختصارا لذوات المجموع. ولعل قضية الشاعر والجمهور كانت ضمن القضايا التي أثارت جدلًا واسعاً في الغرب فترة ما بين الحربين، لكن الصراع كان يبدو أكثر رشداً، حيث تم استبدال قصيدة الرفض بمصلح أكثر موضوعية وأكثر علمية هو «أدب الالتزام»، وبدلًا من اللغط حول مصطلحات مثل حق الشعر وحق الجمهور حلَّ مصلح وظيفة الفن عموما ووظيفة الشعر على نحو خاص. لكن المؤكد أن دعاة أدب الالتزام أنفسهم كانوا يتوجسون خيفة من أن يتحول أدبهم إلى أدب مذهبي تحت وطأة قناعاتهم الأيديولوجية، لذلك حذروا من تحول الكاتب الملتزم إلى معيار للحقيقة في إطار الصراع بين المثال والواقع. إن الاتباعية والتكرار والمناخات المحافظة التي يذهب إليها شعر المقاومة بشكل قطيعي يبدو مؤسفاً ويشكك في دور الشعر جملة لاسيما أنه فن ليس أكثر. فهو لا يملك مدفعاً ولا رصاصة ولم يخض معركة، كما لم يحرر أرضاً. لذلك فإن تآكل قدرتنا على تجديد معن الشعر ووظيفته يعني أننا نسلم بقول «امرؤ القيس»: لقد طوَّفْتُ في الآفاق حتى/‏ رضيتُ مِنَ الغنيمة بالإياب».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©