الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر متسخ بما في العالم

الشاعر متسخ بما في العالم
15 يونيو 2011 19:50
لم يعد أحد بوسعه أن يتكهن إلى أي مدى وفضاءات يمكن لشاعر اليوم أن يصل وأن يجرب ويبتكر ويبتدع عالمه، ويضع بصمته كصوت شعري يمتاز نصه بالبحث والتنقيب في اشتغالات جديدة، مستفيدا من قراءته لتجارب كثيرة سابقة أو لمجايليه الذين بدأوا يخطون لأنفسهم صوتا متفردا في مشهد الشعر الجديد، بل ومستفيدا من التغيرات والتحولات وما يطرأ على انسان اليوم حتى من فهمه الخاص والجديد للشعر. القفز على أسوار العادي في المجموعة الشعرية الأولى للشاعر السعودي محمد الحميد الموسومة بـ “بحجة الكوميديا” الصادرة عن نادي حائل الأدبي ومؤسسة الانتشار العربي، سوف نقرأ الكثير من الدلالات والمفاهيم الجديدة بخصوص تقنية كتابة النص أو حتى ما قد نقرؤه من أسطر في نصوصه الخمسة التي اشتملت عليها هذه المجموعة، فالشعر مراجعة خاصة جدا لما يتبقى في ذات تبحث عن علاقتها مع اللغة ومع الظلال التي لا تغادرنا سريعا، والشعر هذا القفز العالي على أسوار العادي، وما يترقبه الشاعر ويرصده نحو نفسه أولا ومن ثم بمرآة العالم... الشعر الذي لا يكترث للقضايا الكبيرة وإنما للمهمل جدا في ديوان الشعر عموما. هكذا نقرأ في هذا الشعر نصاً عن لوحة يرسمها الفنان أو حدث عابر مع أصدقاء أو استدعاء للذاكرة من جهة لم يعتن بها أحد أو للتعبير عن الأفكار الخاصة وطريقة التفكير بما حوله في الحياة بصوت عال كما في نص اللوحة: “المنطقة الوسطى ليست نجاة بل التدريب الطويل على الوقت الصحيح”. ويقول في نص المجموعة الأول: “الشاعر ليس عامل نظافة، الشاعر متسخ بما في العالم وعليه تغيير ملابسه”، وهو تماما ما يفعله الحميد في مجموعته منطلقا من فكرة الممكن الشعري وفتح النوافذ الجديدة لتحصيل ما لم يستعمل بعد، وهو الدؤوب في التنقيب وصنع الكثافة التي تفي بالغرض أو حتى التفاصيل التي ينتبه لها وحده لنقرأها جميعا في دهشة وها هو يقول في نفس النص: “أنا هنا على يد الوقت، أغرف من رمل اليوم، ولا أغرس سوى زوائد تصلح أحيانا للزراعة، النبات الذي يخرج من أثري زاد حتى غطاني، الزيادة هنا ليست فائضا، مجرد مسح أثر لأثر أحدث”. على مستوى آخر، يمكن أن نلقي هنا نظرة خاطفة على تقنية الحميد في كتابة نصه الذي لم يكترث كثيرا بأي منهج أو أسلوب محدد أو ضابط للكتابة الشعرية؛ بل كان النص مناخا وعوالم فنية ومضمونية يشاهد ويرصد ويقترب من زاوية خاصة هي تلك الزاوية الذاتية أصلا في نظرة الشاعر لماهية الشعر اليوم، مستفيدا من تطويعه لقدرات وطاقات اللغة في قصيدة النثر حيث أدوات النثر يمكن تحريكها لصالح الشاعر ليحلق على الحافة التي لا تقع به في النثرية العادية، تلك الحافة التي توقف على مشارفها كثيرا لكنه لم يسقط بل تمايل كما أغصان عديدة متفرقة لشجرة واحدة ليكتب نص “استراليا” الذي يقول في إحدى مقاطعه المعنون بـ “النص – الحياة”: بعدما اكتشفوا القراءة لم يعد هنالك قارئ، كانت الفكرة متأخرة، من يبحث في كتاب وهو يرى النص متجولاً، الحظ لمن يملك ذهناً تسويقياً، ويصنع من عبارة أمه”. في هذا النص تحولت أستراليا معه من عوالم المكان إلى تشخيصها عبر سمات محددة يفيد منها في نصه، وهو أسلوبه الذي يفشيه في نص آخر تحت عنوان “اللوحة” حيث يقول: “الأسلوب تلبس وأنا هنا أنقذ اللوحة من ضياعها”. يكتب الشاعر قصيدته دون أن يلقي اعتبارا شديدا لآلية محددة في الكتابة او منهجية تضيق هذا الأفق الذي شرع به، وبعيدا عن المنطقية التي تجعل من الشعر مادة تعبيرية فقط يمكن ان تحصر نفسها داخل معنى أو دهشة واضحة المعالم بل هو لا يثير حتى الأسئلة وإنما يتركنا في الهواء الطلق لنتلقى الصورة في تصورها الأول فينسج النص كيانه كلوحة مكتملة، يقول الحميد في نهاية النص نفسه: “اسأل السؤال أن يكف ويصحبني معه للتحايل على اللغة وطمس المعنى مطلقا”.. وهذا عنوان آخر يثيره الحميد فنصه يتكون من علاقات بصرية وانزياحات لغوية، وهو مع هذا ليس غامضا ولا يحتمل جملة معقدة بل في غاية البساطة لكن بآلية قد تكون بحاجة إلى ذهن متيقظ ومستعد لقراءة زاوية أخرى في تعامل الشعر مع اللغة. ضربة الفرشاة الآخيرة وفي طريقه نحو المعنى الذي ليس مهما هنا بقدر ما يعتمل داخلنا كإيحاء ويشكل ضربة الفرشاة الأخيرة على اللوحة. يقول في نص مزحة الرجل الصيني “النطق هو المعنى، في الأسماء يكون الإيحاء أقوى المقاصد”. قد نختلف وقد نتفق في الوصول إلى نفس حالة التذوق الإبداعي واكتشافه مع الحميد لكن من الواضح، على الأقل، وعي الشاعر بما يفعله؛ فهي ليست مغامرة بقدر ما هي تجريب مستوى آخر لكتابة القصيدة وفرع لا يزال مخضراً ويانعاً من شجرة قصيدة النثر التي تميزت في الآونة الأخيرة بوجود كتابات يمثل كل منها حالته الخاصة وطريقته دون اتباع ولا أسلاف وبوعي سيكون جليا بشكل نسبي بين تجربة وأخرى، وقد تكون هذه المجموعة الشعرية الأولى للحميد هي بدء الطريق نحو مجموعات ونصوص أخرى يبدو هذا الكتاب بذرتها الأولى، المجموعة الشعرية التي يشغلها كثيرا تلك المخبوءات التي يعايشها انسان اليوم لكن ليس اليومي هو ما يعنيها ولكن الهامشي وما لم يلتفت إليه حتى أننا نقرأ عن “الابتسامة” و”المزحة” و”رجل صيني” و”أصدقاء” في مواقف سيكولوجية والكثير مما هو بحجة الكوميديا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©